صفحاتٌ قلائِلُ
من الأسرارِ والدلائل
جمعها وعلق عليها
أد . سعيد جمعة
أستاذ البلاغة والنقد ووكيل كلية اللغة العربية بالمنوفية
2016 – 2017 م
بسم الله الرحمن الرحيم
المقدمة
الحمد لله حمدا يليق بجلاله وكماله , وأصلي وأسلم على سيدنا محمد وآله , ومن سار على دربه ومنواله , وبعد :
فإن النظر في كلام العلماء وأساليبهم , وطرائق بيانهم , باب آخر من العلم يتصل به الطلاب بتراثهم ويتعودون أساليب العلماء القدامى وفكرهم , وكيف كانوا يبنون العبارة ؟ وكيف كانوا يقسمون الباب ؟ , وبماذا يبدؤون ؟, وكيف يختمون ؟
كيف كانوا يستشهدون على قولهم ؟ , وكيف يحللون الشواهد , ؟ وما نوع الشاهد الذي يأتون به ؟ وغير ذلك كثير من الأحوال التي لا بد لطلاب العلم أن يقفوا عليها قبل أن يغادروا كلياتهم , وتعركهم حياة العمل برحاها التي لا تعذر من غابت عنه هذه الأصول .
وطلاب الفرقة الرابعة لشعبة اللغة العربية في جامعة الأزهر درسوا في الفرقة الأولى الشطر الأول من أبواب علم المعاني , ويشمل: المقدمة في الفصاحة والبلاغة ثم : ( أحوال الإسناد الخبري, وأحوال المسند, وأحوال المسند إليه , ثم متعلقات الفعل). وفي الفرقة الثانية درسوا الأبواب الأربعة الأخرى وهي : ( القصر , والفصل والوصل , والإنشاء , والإيجاز والإطناب ) تلك أبواب علم المعاني الثمانية .
وفي الفرقة الثالثة درس الطلاب علم البيان في أبوابه الثلاثة : التشبيه بكل تفصيلاته , والمجاز بنوعيه – الاستعارة والمجاز المرسل -, والكناية .
أما الفرقة الرابعة فهي محجوزة لعلم البديع , فلم يبق غيره من علوم البلاغة , إلا أن واضعي المناهج رأوا ألا يقتصر منهج الفرقة الرابعة على علم البديع , فضموا إليه بابين مما سبق من علمي المعاني والبيان شريطة أن تكون الدراسة فيهما من كتب التراث , وليس هناك أفضل من كتابي الإمام عبد القاهر الجرجاني( أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز) فاختاروا من دلائل الإعجاز بابا من علم المعاني وهو ( باب التقديم والتأخير) , واختاروا من أسرار البلاغة بابا من علم البيان وهو ( باب التشبيه والتمثيل) , وهذه الثلاثية قصد منها أن يجمع طالب اللغة العربية في السنة النهائية أطراف البلاغة الثلاثة (المعاني والبيان والبديع ) .
لكن الدراسة في كتابي عبد القاهر , قصد منها تدريب الطالب على قراءة وفهم وتحليل كلام الإمام , وفرق كبير بين أن تدرس التقديم في كتاب الإيضاح , أو كتاب عالمٍ من المحدثين , فيُبينُ لك مفهومَ التقديم , ودواعيه , وأغراضه , وشواهده .... إلخ , وأن تقرأه عند الإمام عبد القاهر فتقف على منابت العلم في عقل الرجل , ويتصل عقله بعقلك , لأن الرجل ما كان يكتب على مثال سابق , بل يستنبت العلم استنباتا , ويغوص في لغة العرب يتأملها بعين الخبير , يفتش عن ينابيع الماء , وينابيع الماء هنا هي: كيف يفضُل كلامٌ كلامًا , فإذا وجد فضيلة بحث عن سببها , لم فضل هذا الأسلوب غيره ؟ وما الذي ميز هذا التركيب عن ذاك ؟ ولماذا حسنت الصورة هنا وقبحت هناك ؟ ومالذي جعل اللون البديعي يتالق في هذا البيت ويخفت في البيت الآخر ؟ ...إلخ
وهذا بلا شك فكرٌ آخر , وعقل آخر , لا بد من قراءته , لأننا نحتاج إلى الوقوف على هذه الأبواب لنعرف كيف صنع من صنع ؟ , وكيف فهم من فهم ؟ وكيف نشأت العلوم عند أصحابها الأوائل , تلك فضيلة لا ينبغي أن تغيب وأنت تقرأ كلام الإمام .
ولذلك على الطالب أن يقرأ ويصبر , ويقرأ ويصبر, ويقرأ ويصبر حتى يفهم , وحتى يعتاد الأسلوب , والمنهج , والفكر , والقضايا المثارة أثناء الشرح , والهمّ الذي كان يحمله هؤلاء العلماء وهم يكتبون لنا العلم , فليس من العقل أن يعرف طلابنا التقديم والتأخير في الكلام ولا يعرف أهمية تقديم كلام الله على كلام الناس , وتقديم كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على كلام غيره من البشر, وتقديم أهل العلم على غيرهم ,وليس من العقل أن تعرف فضيلة التشبيه والتمثيل , ولا تتعرف على الأمثال في القرآن الكريم , وكيف تؤثر في ترسيخ المعاني , وليس من البلاغة أن تعرف الفصل والوصل ثم لا تعرف من تصلهم وما نوع علاقتهم بك ؟ ومن توالي ومن تعادي ؟ ...
كل ذلك لن يتعلمه الطالب إلا إذا قرأ في كتب التراث , ومن أجلِّها كتابا عبد القاهر الجرجاني ( الأسرار والدلائل ) لذلك آثر المختصون بالمناهج بقراءة بابين من هذين الكتابين قبل التخرج .
وإذا عرف الطالب الغرض الأساس من الكتابين استطاع أن يسير فيهما ببصيرة , ويعلم ماذا يريد عبد القاهر من تأليفه لهما , وهذا يعين على فهم أشياء كثيرة قد تغيب في تضاعيف الكلام , وكان الشيخ أبو موسى يؤكد على هذه الأغراض التي تؤلف من أجلها الكتب , ويوصي بتدبرها ويقول : لن تستطيع أن تسير في أي كتاب ببصيرة حتى تقف على سبب تأليفه , وماذا يريد صاحبه منه ؟ حتى الحمد لله والثناء عليه سبحانه , والصلاة والسلام على رسوله تكشف لك مدى صفاء نفس الكاتب , وصدقه وإحساسه بمدى مسؤولية العلم في هذه الأمة , وتعرف منها أن فتوح الله تعالى تنتقي هؤلاء , وأن عطاءه ينزل إلى هذا الصنف من أهل العلم .
وحين تقرأ تاريخ البشر تجد أن الله تعالى يمنح العلم للبر والفاجر في الأمم الأخرى , وتجد كثيرا من الفجرة نبغوا في علوم البشر , إلا علوم هذه الأمة الإسلامية فلم ينبغ فيها إلا عبد صالح . وراجع مقدمة عبد القاهر وهو يقول ك ( نحمده على عظيم عطائه , وجميل بلائه , ونستكفيه نوائب الزمان ..) فهذا كلام لا يقرأ باللسان , وإنما يقرأ بالقلوب , ولا بد أن نحس باللحظة التي قال فيها عبد القاهر هذا الكلام , ولا بد أن نشاركه هذا الإحساس وهو يكتب ما يكتب .. وكذلك يجب أن تشارك كل كاتب في أحاسيسه وهو يكتب ما يكتب , ولا ينبغي أن تقف عند اللغة , بل لا بد أن تصل إلى ما وراءها من أحاسيس ودلالات , لأن الذي وراءه هو الغاية , وهو الحس الذي صنعه , فالمباني اللغوية – على أهميتها – لا قيمة لها إلا بمعرفة المعنى الذي هجس في نفس القائل حتى صاغها على الوجه الذي تراه , فنحن لا نُدرّس اللغة لنقول إن التقديم للأهمية , والحذف للإيجاز , ولكننا ندرس اللغة لنعلم: لم اهتم ؟ ولم أوجز ؟
ولذلك البلاغة هي محاولة للوصول إلى نفس الكاتب وما فيها من أسرار من خلال ما كتب , ولاحظ مثلا قول عبد القاهر : ( جميل بلائه ) وهي تصور لك هذه النفس وهي ترى في البلاء عطاءً يستحق الحمد , وهذه مرتبة عالية جعلت البلايا عطايا , فكل كلمة من كلام العلماء تفتح لنا بابا من نفوسهم , وتوجز لنا ضربا من أخلاقهم , ونحن لا نُعلِّم علم العلماء فقط , لكننا نعلم علمهم وأخلاقهم , لأنهم كانوا يعتقدون أن الله تعالى كافيهم فيستقبلون ما يأتي به الله تعالى على أنه عطاء , وما كانوا ينظرون في أعطافهم لحظة واحدة , ولا ينتظرون من أحد كلمة مدح أو ثناء , بل كانوا يقدمون همّ الأمة على همومهم , فلم يفسدوا , ولم يتلوثوا , فهم عباد الله وأحبابه .
وهذه الصفحات التي أنقلها لطلابنا وأعلق عليها لن تغني حتى تجلس إلى أستاذك , لأن كلام العلماء لا يفهم إلا من شيخ , ولا يدرك غوره إلا ممن سمع شرح العلماء ,ولا يعطيك كل ما عنده إلا بالمدارسة واللقاء , فكلام العلماء مشحون بالعطايا التي تنسال في جلسات العلم وتتكشف في حلقات الدرس , فإذا أراد الطالب أن يخلوا بها دون محرم من عالمٍ تمنعت عليه , وولت له ظهرها , لأنها كتابات شريفة مصونة لا تزيح عنها الستر إلا في حضرة قوم أفنوا أعمارهم في مصاحبتها , وجمعوا المتفرقات منها , وردوا بعضه إلى بعض , وآنسوها زمنا حتى ألقت بوَدَعها في حجرهم .
وليست تعليقاتي في هذه الصفحات إلا قبسًا من كلام عالمين جليلين جلست إليهما زمنا طويلا , وهما : الشيخ الجليل محمد أبو موسى ,والدكتور محمود توفيق سعد , فأنا أنقل لك ما سمعته ووعيته من كلامهم وهم يشرحون , ونقلت لك تعليقات الشيخ محمود شاكر والدكتور عبد الحميد هنداوي في تحقيقاتهما على الكتابين , وحاولت أن أفسر بعض ما غمض , وأشرح بعض ما التبس من التراكيب , وأعلم أن كل ذلك يغزيه القراءة والمدارسة , فمدارسة العلم إحياء له ؛ لذلك كله أوصي طلاب الفرقة الرابعة بالجلوس والاستماع , والنظر والتدبر والنقاش , ثم الصبر حتى يحصِّلوا القدر الكافي من المعاني المبثوثة في أعطاف كلام الإمام عبد القاهر الجرجاني , فالدرس البلاغي ليس تعليما لقواعد بلاغية والاستشهاد عليها من الكلام النفيس , وفقط !!! كلا كلا , فالدرس البلاغي درس في الدين , درس في العقيدة وأصولها , درس في الدعوة إلى الله وفنونها , فبلاغة العرب تحمل إلى نفوس الناس عقائدهم , وتزرعها زرعا . فليست البلاغة علمًا معزولا عن الحياة ومحركاتها , بل هي في صميم تكوين الإنسان الحر , الإنسان الفاعل في الحياة وليس المفعول به , ولا المجرور , وحين يظن بعض الطلاب أن البلاغة أسلوب جميل , وتعبير رائق , فهم بعيدون عن العلم الذي أراده العلماء , فالبلاغة هي كل بيان يكشف أسرار النفوس , فأسرار البلاغة هي أسرار النفوس وخفاياها , والذي لا يفطن إلى ذلك بمعزل عن البلاغة .
إن البلاغة علم يُصلحُ الحياة , ويقود الأمة إلى ربها , دون صخب أو ضجيج , فإن كنت من أهل الصخب والضجيج فاختر طريقا آخر, وما أسهل الوصول إلى الكراسي , فالطرق كثيرة وسهلة , والسائرون فيها كُثر , ولكن هيهات أن ينال أصحابها راحةً في الدنيا أو الآخرة .
فاللهم اهدنا وسددنا , وخذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك , وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
سعيد جمعة
أستاذ البلاغة والنقد
وهذه الصفحات مرفقة بهذا المنشور.