كيف تكتب مقالا؟
الكتابة الأدبية من نعمة البيان التي أنعم الله علينا في قوله تعالى: (الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان)، وفي قول الرسول – صلى الله عليه وسلم-: )إن من البيان لسحرًا). وكثير منا يرغب في تعلمه وإتقانه. والحق أنه ليس أمرًا سهلاً، ليس مجرد رص كلمات، وليس ثرثرة فارغة، وليس عملاً عشوائيًّا اعتباطيًّا، ولكنه فن وعلم، فن يعتمد على الموهبة، وعلم يبنى على قواعد أساسية، ودورنا هنا التعرف على أبرز هذه القواعد.
إن لفظة المقال أو المقالة مستعملة عند العرب القدامى منذ الجاهلية فهذا طرفة يقول:
تَحنَّنْ عليَّ هداكَ المليكُ فإنَّ لكلِّ مقامٍ مقالا
والرسول – صلى الله عليه وسلم- يقول: "نضر الله امرأ سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها كما سمعها فرُبَّ مُبَلَّغ أوعى من سامع". وكان القدماء يقسمون كتبهم إلى مقالات كما عند القلقشندي في موسوعته صبح الأعشى في صناعة الإنشا.
ويعد فن الرسالة العربي التراثي الأصل الأدبي الأقرب إلى فن المقالة بمفهومها الحديث، وهو موجود عند كبار الأدباء كالجاحظ في رسائله الأدبية والعلمية، وأبي حيان التوحيدي في مقابساته، وعند أبي حامد الغزالي في المنقذ من الضلال، وابن الجوزي في صيد الخاطر، وغيرهم. والفارق بين فن الرسالة العربي القديم وفن المقالة الحديث راجع إلى الكم فقط! فالأسلوب واحد، والبناء الفني يكاد يكون واحدًا تقريبًا.
ولكي نتعلم طريقة كتابة المقال بمفهومه الحديث لا بد أن نتدرج تعليميًّا خلال العناصر الآتية:
1- تعريف المقال
2- أركان المقال
3- أنواع المقال
4- مراحل كتابة المقال
6- كلمة الختام.
أولاً: تعريف المقال
المقال مصدر ميمي من الفعل قال، بمعنى القول..
يعرف مجمع اللغة العربية فن المقال اصطلاحيًّا بأنه( بحث قصير في العلم أو الأدب أو السياسة أو الاجتماع، ينشر في صحيفة أو جريدة).
وفي التعريف نلحظ أن المقال:
-(بحث) أي جهد في جمع المعلومات الخاصة بفكرة المقال.
-(قصير) أي أنه موجز مركز مكثف، لا يتجاوز عشر صفحات.
-(في العلم أو الأدب أو السياسة أو الاجتماع) هذا إشارة إلى المجالات الفكرية التي يدور حولها فن المقال، وينبغي أن نجعلها مفتوحة وليست محددة بهذه المجالات الأربعة، فهناك المجال الديني، وهناك المجال الاقتصادي، وهناك المجال الثقافي، وهكذا!
-(ينشر..) هذا إشارة إلى الدافع على إبداع المقال وهو الرغبة في النشر الصحفي اليومي أو الأسبوعي أو الشهري أو الدوري ...وهناك تعريفات أخر لمؤرخي الأدب الحديث ونقاده.
ويتميز فن المقال بين فنون الأدب الحديثة بأنه:
1-أنه فن نثري حر، صالح للتعبير عن كل قضايا الحياة وإشكالياتها.
<!--أنه قصير موجز مكثف، لا يزيد عن عشر صفحات.
<!--أنه فن كتابي وليس شفويًّا.
<!-- أنه فن ذاتي، يعبر فيه الكاتب عن آرائه الشخصية، وعاطفته تجاه الفكرة التي يعرضها الكاتب.
<!--الجمع بين ثنائية الإقناع والإمتاع، الإقناع عن طريق دقة الأفكار ووضوحها وكثرة البراهين والأدلة، والإمتاع عن طريق العرض الجيد الجذاب الشيق المثير.
<!--التكوين الفني والفكري المترابط المنسجم.
<!--جمع الأسلوب بين الوضوح والجزالة والجمال.
وقد تدرج هذا الفن في العصر الحديث بين المقال المزخرف بالسجع والجناس وغيرهما من المحسنات البديعية كما عند رفاعة الطهطاوي ورفاقه. ثم انتقل إلى المقال المطبوع المسترسل الخالي من أعشاب البديع عند الكواكبي والأفغاني ومحمد عبده ورفاقهم.
ثم كان المقال البياني المتأنق عند المنفلوطي والرافعي وأحمد حسن الزيات. وهؤلاء الثلاثة من كبار كتاب المقالة وأعظمهم. وأنصح الشباب المبتدئ قراءة تجارب هؤلاء الثلاثة ففيها ما يبني ويفيد ويضيف ويمتع.
ثم كان المقال الفلسفي العميق كما عند العقاد وطه حسن والمازني وغيرهم.
وانتهى الأمر بالمقال إلى المقال الصحفي السهل السيار!
ثانيًا: أركان المقال
كل مقال يتكون من أربعة أركان رئيسة، هي:
أ-العنوان:
ويشترط فيه أن يكون واضحًا موجزًا محددًا مثيرًا جاذبًا، دالاًّ على قضية المقال والهدف من إنجازه.
ب- المقدمة:
وهي تكون فقرة عامة ممهدة للدخول في قضية المقال المثارة، ويطرح فيها الكاتب سؤالا أو أسئلة عن هذه القضية وتدل على أهميتها، وتتمثل في أسئلة:
(ماذا) عن القضية المتحدث عنها.
و(لماذا) عن سبب الحديث عنها.
و(كيف) طريقة الحديث عنها.
جـ-صلب الموضوع:
ويسمى محتوى المقال، وهيكل المقال، ويتكون من فقرات تناول القضية المطروحة، والفكرة الأساسية في المقال. ويشترط في هذه الفقرات أن تكون أصلية بديعة مثيرة محددة، تنتقل بالقارئ من مرحلة الجهل بالقضية أو الشك فيها إلى مرحلة الإقناع واليقين والإفادة.
د-الخاتمة:
وفيها يلخص كاتب المقال ما قاله فيه كله، وما يطلبه من جمهوره القارئ المستهدف بالمقال، ويقدم الحل للمشكلة التي يطرحها، أو الأثر أو الضرر الناتج عن السبب أو الظاهرة التي عرض لها الكاتب في صلب مقاله.
ثالثًا: أنواع المقال
للمقال أنواع كثية عند مؤرخي الأدب العربي الحديث ونقاده، نقف هنا مع أبرز هذه التنويعات والتقسيمات، وتتمثل في:
أ-من حيث الشكل:
1- مقال طويل:
يدور حول موضوع كامل، بلغة سهلة، وعرض شيق، يبدأ من صفحتين ولا يتجاوز عشر صحات.
2- مقال قصير:
ويعبر عن خطرة أو فكرة في صفحة أو أقل، وخير ما يمثل مجموعة مقالات صندوق الدنيا للكاتب أحمد بهجت.
ب-من حيث الأسلوب:
1-المقال العلمي الصرف الخاص، وذلك حين يكون الكاتب علميًّا متخصصًا، ويكتب بلغة علمية تامة.
2-المقال الأدبي الصرف الخالص، وذلك حين يكون الكاتب أديبًا مبدعًا، يعرض خاطرًا أو عاطفة أو حالة وجدانية خاصة به، بلغة أدبية متأنقة جاذبة.
3-المقال العلمي المتأدب، وذلك عندما يجمع الكاتب بين التخصص العلمي الدقيق، والإبداع الأدبي المتأنق!
جـ-من حيث المضمون:
فهناك المقال الفلسفي، والنزالي، والتصويري، أو غير ذلك.
د- من حيث أداة البحث والتفكير:
حيث المقال العلمي، والمقال التحليلي، والجدلي، والتفسيري، ومقال المقارنة، ومقال المشكلة والحل، ومقال السبب والأثر، ولكل من هذه الأنواع طريقة في الصياغة، ونماذج، وأعلام يقتدى بها ويؤتسى.
رابعًا: مراحل إبداع المقال
وهنا لابد من التركيز؛ لأننا سنعرض للمراحل التي يمر بها كاتب خلال عملية إبداع المقال، وتتمثل في ثلاث مراحل، هي:
<!--مرحلة الإعداد:
وهي مرحلة نفسية وعقلية، يمر فيها الكاتب بالخطوات الآتية:
أ-فهم المطلوب من المقال.
ب- فهم الجمهور المستهدف عامًا كان أو خبيرًا خاصًّا
جـ-اختيار موضوع المقال عن طريق:
-العصف الذهني
-الكتابة الحرة المسترسلة المعتمدة على تداعي المعاني
-التناص مع السابقين والإفادة الأمينة الدقيقة الواعية منهم.
د-إجراء البحث اللازم لإنجاز المقال بتجميع المعلومات والأدلة والنصوص المقنعة.
هـ-بلورة الهدف من المقال.
<!--مرحلة الكتابة المبدئية
حيث نصوغ عنوان المقال، ومقدمته، وصلب موضوعه، ثم خاتمته، ونطبق ما قيل وشرح عند الحديث عن أركان المقال.
<!--مرحلة المراجعة والتدقيق
وفيها يتم ترتيب المقال ترتيبًا منطقيا وعقليا، ومراعاة كون الفقرات المكونة للمقال متوافقة مع الهدف من المقال، والحرص على التدقيق اللغوي للمقال، ومراجعة ما قد يكون فيه من أخطاء طباعية، ثم تنسيقه طباعيًّا على الحاسوب، من خلال برنامج الوورد.
والخطوة الأهم في هذه المرحلة هي عرض المقال على صديق قاريء مثقف ناقد، يستطيع أن يقول الكلمة النهائية، وأن يبين مواطن الجمال والكمال في نص المقال، ومواطن القصور والنقص فيه، وكلما عرض المقال على قارئين نقاد كان أقرب للجودة والإتقان!
وفي هذه المرحلة لابد من البعد عن المحاذير الآتية:
-الاعتماد في المعلومات والبيانات على مصادر مشبوهة أو ضعيفة أو محرفة، وبناء المقال عليها!
-الإسهاب والحشو والاستطراد واللغو والثرثرة في عرض الفكرة العامة للمقال؛ إذ كلما كان المقال مركزًا كان جيدًا فاعلاً مؤثرًا واصلاً إلى أكبر قدر من الناس!
-تقديم معلومات جديدة ودقيقة وعميقة دون شرحها أو تبيينها؛ فالمعلومة المبهمة داخل المقال تعد نقطة ضعف ووجه قصور فيه! وتكون سبب تنفير منه!
-كتابة ألفاظ أو عبارات فيها تشويه أو انتقاص أو إيذاء للبشر أو الدول أو المؤسسات أو الأديان أو الحضارت، مما يؤدي إلى خطر ديني أو قانوني أو اجتماعي أو وطني أو يؤدي إلى فتنة دينية أو طائفية ! فالكلمة المكتوبة مسؤولية، والكلمة المكتوبة أمانة: "ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد""والذين يؤذون المؤمنين والموؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثما مبينًا".
كلمة الختام:
المقال ليس ثرثرة مكتوبة، ولا مجالا للتجارة بالكلمات، ولكنه فن ورسالة ومهارة:
(المقال فن) لأنه يعتمد على الإبداع في تقديم الأفكار، ويشترط فيه أن يخرج في ثوب مميز جذاب مفيد؛ فالشرط الأساس في كاتب المقال أن يكون مِفَنًّا أو فنانًا.
(المقال رسالة) لأن المقال يؤثر في حياة الكثيرين؛ فهناك من البشر القارئين الذين يتلقون ما يكتب على أنه مسلمات، ويعتمدون عليه في فهم الحياة والأحياء، ويطبقون ما يقال في هذه المقالات! فلابد في كاتب المقال أن يكون هادفًا بانيًا داعيًا واعيًا معلمًا ناشر الخير والصلاح، محاربًا الشر والفساد!
(المقال مهارة) لأنه يحتاج تدريبًا وصقلاً حتى يتطور كاتبه ويتعمق ويكون مقنعًا وممتعًا في آن واحد. فكلما تدرب كاتب المقال امتلك مهارة وتطور وتأنق!
والكلمة الأخيرة إلى متعلمي فن المقال هي أن إكثار القراءة في النماذج المقالية العالية عند كبار الكتاب وإدمان القراءة في كل علم وفن يحول الكاتب من مرحلة المبتدئ التقليدي العادي إلى مرحلة الكاتب المحترف المبدع الفنان!