عجائبية السارد والسرد في سيرة (أوراق من الماضي) للدكتور عبدالوهاب برانية
إعداد: الأستاذ الدكتور /صبري فوزى عبدالله أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
وعضو اتحاد كتاب مصر
ما هذا الشاب العجيب؟!
كلما جاء اسم(عبدالوهاب برانية) أمامي سواء في مخيلتي أو في مكتوب أو مقروء، أو سمعته من محاور، أنعته بأنه شاب يجلس للقلم، ويجلس بالقلم: يعيش له، ويعيش به، ولا أبالغ إن قلت: يعيش فيه، أو إنه قلم يمشي على الأرض! يترك الملذات والشهوات والمَشْغلات، ويكاد يترك الضروريات! وأكاد أجزم أنه ليس له في التحسينات والترفيهيات! يحيا من أجل العلم: قراءةً فيه، وقراءةً عنه، وقراءةً له، تعلمًا وتعليمًا، تبلغًا وإبلاغًا، يجمع بوسطية بين متطلبات أعراف البيئة الريفية، والحياة الأزهرية، والحالة الوطنية، وبين الأصالة والحداثة، وبين السرد والشعر. كل يوم يتطور، وكل يوم يتنوع، وكل يوم به حسن وعنده جديد ومفيد، وعطاء لا ينقطع، وفيض لا ينضب، قلمه سيال حار دائمًا، ودائمًا منطلق، ودائمًا حاضر، ينفعل مع الحياة والأحياء انفعالاً صادقًا آسرًا وساحرًا، يكتب لأجل الكتابة؛ فالكتابة لديه سلاح، والكتابة لديه علاج، والكتابة لديه مناهج وسراج، وتنوير وتغيير وتثوير، والكتابة لديه إكسير البقاء. بدأ حياته الإبداعية باحثًا أكاديميًّا في مراحل الماجستير والدكتوراه وما بعدها، منجزًا أعمالاً بحثية طريفة، خلال عشرين عامًا، دارت حول النقد القصصي، ونقد النقد، ونقد الشعر: عاش في شعر طه حسين، وفي عالم يوسف السباعي الحكائي، ثم في نتاج عبدالعزيز شرف... ثم جذبه الشعر فكانت له خلال أعوام ثلاثة(1918-2020م) أربعة دواوين شعرية، : (من وحي الجامعة)، و(من بقايا إنسان)، و(ومضة من الزمن الجميل)، و(قلبي بتألم عند الفجر). وفضلاً عن ذلك كان وما زال الإلف المألوف، الشهم في كل مراحل حياته، مع كل الأجيال:ماضية(شيوخه) وحاضرة(زملاؤه) ومستقبلة(طلابه)، إنه(الجدع، صاحب صحبه) بلغة عامة المصريين!
والأعجوبة الأولى في عبدالوهاب برانية بعمله هذا(أوراق من الماضي) تتمثل في أنني كنت أظنه-كما كان يظن ويتوقع الكثيرون والكثيرات من متابعيه ومتابعاته عبر الفضاء الأزرق الفيسي والفضاء الأبيض الورقي- أنه سيفتتن بالشعر وينغمس في الشعر فقط وينحصر فيه ويقتصر عليه في مرحلته العمرية هذه! ولكن قلمه يدهشنا بأعجوبة طارئة في شخصيته، إذ ها هو ذا يدخل بنا مجالاً أدبيًّا جديدًا: فن السيرة الذاتية، وهو في ريعان الشباب والكهولة، ولما يبلغ سن الشيخوخة بعدُ!
والأعجوبة الثانية أنها سيرة ذاتية، جاءت في كم كبير جدًّا، في ست وستين وخمسمائة صفحة، وتكونت من ثلاثة وتسعين فصلاً أو مشهدًا من فصول أو مشاهد أربع وخمسين سنة من رحلة حياة عبدالوهاب الأولى هذه! أبدعها في سنة وثمانية أشهر، حيث بدأ كتابتها في يناير 2019م، وانتهي من كتابتها يوم الاثنين17/8/2020م.
والأعجوبة الثالثة أنه يكتب هذا الكم الكبير من السرد الذاتي؛ وفاء للمكان الأول الذي ولد فيه ونشأ وترعرع، يقول في الإهداء: "ولدت، ونشأت، وتربيت في قريتي (لقانة) إحدى كبريات قرى مركز شبراخيت بمحافظة البحيرة، ودرجت في شوارعها، ومساجدها، وملاعبها، وحقولها، ومدارسها، صبيا وشابا، وهأنذا في عامي الرابع بعد الخمسين أكتب عن ذلك كله، فهل وفيتها حقها؟ لا أدري،وأترك ذلك لقارئي العزيز". فالباعث على الإبداع هنا هو الوفاء لموطنه الأول، وذلك يدل على قيمة إنسانية كبرى تدور فيها شخصية (عبدالوهاب)، ويدور حولها مجمل إبداعه. قيمة الوفاء، وما أجملها وأعظمها من قيمة!
والأعجوبة الرابعة هذا التماهي الجلي بين الشعر والسرد في شخصية (عبدالوهاب)، وفي منجزه النقدي، وفي منجزه الشعري والقصصي على السواء، فهو على المستوى الإنساني رقيق حالم مثالي، ينشغل بالعاليات الساميات، فليس بالمادي ولا الواقعي ولا بالنفعي! وتلك أبرز خصيصة في كل شاعر، وهو حكَّاء في كل مجلس ومُقام. وكتب الله له في مرحلتي الماجستير والدكتوراه وما بعدهما من كتب وأبحاث، أن يعيش مع العالم القصصي ثم مع الشعر والشعراء، كما أنه في الشعر قصاص، وفي القص شاعر؛ ففي ديوانه الأول نجد له قصائد(قصة ثورة يناير)، و(أديب يقطن السطح)، و(اعتذار إلى عصفورة)، وفي ديوانه (ومضة من الزمن الجميل) نجد له قصائد(ليلة في دسوق)، و(ومضة من الزمن الجميل)، و(أستاذ من ورق)و(في السوق)، وفي ديوان(بقايا إنسان) نجد قصائد(تضحية)، و(بطاقة تعريف)، و(تحديث أخلاقنا)، و(رمضان أول أستاذ عرفته)، و(فاطمة)، وفي ديوانه الرابع نجد قصيدته(قلبي يتألم عند الفجر)، و)كريستيان)، و(ثمن بخس)، و(رسالة من متعهد ثورات)، و(قطة حيرى)، بل إن السرد يكاد يكون لازمة أساسية في تقديم قصائد الدواوين الأربعة؛ إذ نجد تقدمة لكل قصيدة تأتي في قالب سردي يبين مناسية إبداعها!
كما يأتي الشعر موظفًا في سرد عبدالوهاب الذاتي في غير موضع من سيرته بدءًا من الإهداء، حيث يقول:
اليومَ أجملُ يومٍ خَطَّه قلمي أنهيتُ من لحظتي أوراقَ ماضينا
سجلت فيها كثيرًا من عوايدنا ومن مبادئِ أهليكم وأهلينا
حكيت فيها عن التاريخ أجمعِه تاريخِ آبائِنا مُذْ أَمَّلُوا فينا
فإن لمستم هنا صدقا بسيرتنا وآنستْكم بما ضمَّتْ حكاوينا
فهذه سيرةٌ صِيغَتْ بقريتِنا لقانةٍ إذ غدَا حُبِّي لها دِينا
فهذا النص الشعري يكاد يكثف صنيع مبدعنا في سيرته من حيث الأسلوب، والغاية، والدافع على الإبداع. وهذا ديدينه في مشاهد السيرة العديدة المتنوعة!
وهذا التماهي بين السرد والشعر عند المبدعين، يكاد يكون ظاهرة فنية طريفة وخاصة جدًّا، وجدت قديمًا عند المعري(ت 9 44هـ)، ، وأسامة بن منقذ(ت 584هـ)، والعماد الأصبهاني(ت 597هـ)، وخليل بن أيبك الصفدي(ت 764هـ)، ولسان الدين ابن الخطيب(ت 776هـ)، والسيوطي(ت 911هـ) والشهاب الخفاجي(ت 1069هـ)، والمحبي(ت1111هـ)، كما وجدت حديثا عند شوقي وحافظ والعقاد، ومحمد رجب البيومي، وهي الآن بادية عند بعض المعاصرين كأستاذنا كمال لاشين، والدكتور علاء جانب، والدكتور مصطفى السواحلي... وغيرهم. وهي حقا ظاهرة تستحق الدرس والبحث، وخير أنموذج لها نتاج الحبيب النجيب عبدالوهاب برانية نقدًا وشعرًا وسيرة ذاتية!