رائية الدكتور حسن جاد في الأزهر الشريف:دراسة أسلوبية إحصائية

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

إلى القصيدة:

ــــــــــــــــــــــ

هذه القصيدة نشرت في ديوان شاعرنا(حسن جاد) بعنوان(الأزهر في عيده الألفي مارس 1983م)، وقد تدرج شاعرنا في إبداعها، فعاش معها غير مرة، كتبها أول مرة بداية عام 1952م، قبيل ثورة يوليو، حيث يقترب العيد الألفي الهجري للأزهر في حدود عام 1362هـ، وكانت أقل من ثلاثين بيتًا، ثم أعاد كتابتها مرة أخرى في العيد الميلادي الألفي للأزهر، الذي كان بعد ذلك الزمن بحوالي ثلاثين عامًا، فوصلت إلى شكلها النهائي (أربعة وثمانون بيتًا)؛ فهي إذن قصيدة طويلة من حيث زمنها الإبداعي، إنها بالتعبير السلفي القديم: حولية محككة منقحة، عاش معها مبدعها واستدعاها غير مرة، وألقاها في غير حفل، ومن ثم فالقصد الإبداعي متوفي فيها، والصنعة ستكون بادية فيها مهيمنة عليها. 

إن هذه الخريدة الأزهرية المدحية الفخرية التاريخية، الجامعة بين الوصف والتحليل والنقد، عدتها أربعة وثمانون بيتًا، وجاءت على نسق البحر الكامل التام، مصرعة المطلع، قافيتها مطلقة بالضم، مكونة من الراء رويًّا، والواو الناشئة عن إشباع ضمة الروي وصلاً، مما يجعلها شبيهة إلى حد كبير برائية أحمد شوقي عن الأزهر وشيوخه، التي مطلعها:

قم في فم الدنيا وحي الأزهرا     وانثر على سمع الزمان الجوهرا

وجاء البناء الفكري لخريدة أستاذنا حسن جاد مكونًا من:

<!--(المقدمة):

 في أحد عشر بيتًا، تكشف عن مكانة الأزهر وموازنة بينه وبين الهرم. يقول في مطلعها:

أرأيتَ كيف طوى القرونَ الأزهرُ       وأدالَ عُمرَ الدهرِ وهْوَ مُعَمّرُ

<!--(صلب الموضوع):

وذلك في اثنين وستين بيتًا، من البيت الثاني عشر حتى البيت الرابع والسبعين، ويدور حول فكرة: الأزهر بين ماضٍ مشرق شريف، وحاضر ممزق أسيف.

<!--(الختام):

وذلك في تسعة أبيات، من البيت الخامس والسبعين حتى البيت الرابع والثمانين، وفيه بيان لعلاقة الشاعر الصادقة بالأزهر الشريف باعتباره شاعره الأول الصادع، ولسانه الأعلى الساطع في زمنه، وكذا العلاقة الأزلية بين أزهرنا ومصرنا:

يكفيكَ أنَّكَ أنتَ مصرُ ومجدُها      يومَ الفَخارِ وأنَّ مصرَ الأزهرُ

ويهيمن على الشاعر فيها الموازنة بين الأزهر الماضي والأزهر المعاصر في زمن الشاعر، ومن ثم جاءت هذه الرائية في هذين القسمين الكبيرين .

وقد قُدِّر لي ولهذه الرائية أن كنت أقرؤها مع طلابي بالفرقة الثانية من تمهيدي الماجستير في تخصص الأدب والنقد بكلية الدراسات العليا في العام الجامعي 1440ه=2019م، فاقترحت على طلابي أن نحللها من خلال الأسلوبية الإحصائية، لنجمع بين التنظير والتطبيق في الدراسة، التنظير من خلال مفردة تجربة الدكتور سعد مصلوح في الأسلوبية الإحصائية بمقرر النقد الأدبي الحديث، والتطبيق من خلال مقرر النصوص الأدبية الحديثة، فكانت هذه الرؤية الأولى التي أعرضها على جمهرة الباحثين والمحللين والنقاد لأستضيء برؤاهم، إن شاء الله تعالى:

أولاً: تطبيق معادلة بوزيمان:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

طبق هذه المعادلة في النقد الأدبي العربي المعاصر العلامة سعد مصلوح-حفظه الله وبارك أثره ونسله- في كتابه (الأسلوب: دراسة لغوية إحصائية، طبع سنة 1981م)، وكتابه(في النص الأدبي: دراسة أسلوبية إحصائية طبع سنة 1989م)، وهي المحاولة العربية الأولى والجادة لاستثمار هذا المقياس، وإنجاز دراسة علمية تتوخى أن تبتعد قدر الإمكان عن الأحكام الذاتية والانطباعات الشخصية. وجهاد العلامة مع (الأسلوبية الإحصائية) منذ بداية عقد الثمانينات واستمر يتابع جهوده البحثية في هذا المجال، وما زال يتجدد حتى الآن...

جاء كتابه الأول(الأسلوب: دراسة لغوية إحصائية) لتقديم الأدلة على جدوى الاتجاه الأسلوبي. الإحصائي، وجاء كتابه الثاني(في النص الأدبي: دراسة أسلوبية إحصائية) لتقديم جدوى الاتجاه الإحصائي في حل مشكلات نقدية مهمة بوسائل أسلوبية لسانية منضبطة.

إن هذه المعادلة، كما يوضح العلامة سعد مصلوح، تستخدم مؤشرًا لقياس مدى انفعالية أو عقلانية لغة النصوص، ويصلح استخدامها- من ثَمَّ- مقياسًا لتشخيص الأسلوب الأدبي. وهي تتأثر بعدد من العوامل التي تنزع بقيمتها إما إلى الارتفاع أو الانخفاض.

ويمكن رد هذه العوامل أو المؤثرات إلى نوعين أساسيين هما: مؤثرات ترجع إلى الصياغة، ومؤثرات ترجع إلى المضمون:

 أما مؤثرات الصياغة فتتحدد بالمقولات الأساسية الآتية:
– الكلام المنطوق يمتاز بارتفاع (ن ف ص) في مقابل انخفاضها في الكلام المكتوب.
– نصوص اللهجات تمتاز بارتفاع (ن ف ص) في مقابل انخفاضها في النصوص الفصحى.
– النصوص الشعرية تمتاز بارتفاع (ن ف ص) في مقابل انخفاضها في النثر.
– تختلف (ن ف ص) ارتفاعًا وانخفاضًا أيضا باختلاف فنون القول في الشعر والنثر على النحو الآتي:
– تمتاز الأعمال الأدبية (القصة والقصيدة والرواية والمسرحية) بارتفاع (ن ف ص) في مقابل انخفاضها في الأعمال العلمية.

– يمتاز النثر الأدبي بارتفاع (ن ف ص) في مقابل انخفاضها في النثر الصحفي (في الخبر والمقال والتعليق).

– يصل أقصى ارتفاع (ن ف ص) في قصص الجنيات، وتتناقص تدريجيًّا في الحكايات الشعبية، ثم في القصص والروايات المؤلفة.

– يمتاز الشعر الغنائي بارتفاع (ن ف ص) في مقابل الشعر الموضوعي (المسرحي مثلا).
– ومن أهم مؤثرات الصياغة طريقة العرض التي يلجأ إليها المنشئون في الأعمال القصصية والروائية خاصة، وتتأثر بها قيمة (ن ف ص) وفقا للآتي:

– قيمة (ن ف ص) في الفقرات السردية والوصفية تكون أقل منها في حديث النفس (المونولوج)، وفي هذا أقل منها في الحوار.

– الأحاديث المتناثرة في الأجزاء السردية تحتل مكانًا وسطًا من حيث قيمة (ن ف ص) بين الحوار والمونولوج.

– قيمة (ن ف ص) في المونولوج تكون أقل منها في الحوار.
– قيمة (ن ف ص) مع السرد تكون أعلى إذا كان السرد من وجهة نظر شخصية (أي على لسان شخص ما) منها إذا كان السرد مجرد وصف مباشر على لسان المؤلف نفسه.

النوع الثاني من المؤثرات هو مؤثرات المضمون، ومن أهمها:
العمر:

 إذ يرتبط منحنى ن ف ص عادة بمراحل العمر، فيميل إلى تسجيل قيم عالية في الطفولة والشباب، ثم يتجه إلى الانخفاض في الكهولة.

الجنس:

 تميل قيمة (ن ف ص) إلى الارتفاع عند النساء في مقابل ميل واضح إلى الانخفاض عند الرجال.
وفي ضوء التعديلات التي اقترحها نويباور وشيلتسمان سعيًا إلى تبسيط معادلة بوزيمان، قرر أنتوش أن جميع أشكال الفعل تُحْتَسبُ في إطار (الفعل)، باستثناء الأفعال المساعدة. وفي إطار (الصفة) تُحْسَبُ جميع الصفات المسندة إلى اسم، والمؤكدات مثل sehr وausgesprochen
هذا في اللغة الألمانية، أما في اللغة العربية فقد ذهب سعد مصلوح إلى تطبيق المعادلة على النحو الآتي:

- يشمل الإحصاء، بالنسبة إلى الأفعال، جميع الأفعال التي تتضمن التعبير عن الحدث والزمن معًا.

 أما الأفعال التي تخصصت دلالتها في الزمن كالأفعال الناقصة أو التي جمدت دلالتها على الحدث فينبغي أن تكون خارج الإحصاء. وعلى ذلك فيخرج من الإحصاء الأنواع الآتية من الأفعال:
 الأفعال الناقصة: (كان وأخواتها إلا إذا استعملت تامة).

الأفعال الجامدة: مثل نعم وبئس.

 أفعال الشروع والمقاربة: مثل كاد وأخواتها.

ويدخل في الإحصاء جميع ما سوى ذلك من أفعال.

أما بالنسبة إلى الصفات فيخرج من الإحصاء الجملة التي تقع في النحو التقليدي صفة سواء كانت جملة فعلية أو اسمية أو شبه جملة متعلق بمحذوف. وذلك لأسباب منها أولا: أن إعراب هذه الجملة صفة هو تصور نحوي (أي مقولة منهجية) وليس حقيقة من حقائق اللغة، وثانيا: لأن الجملة تتركب من عناصر قابلة هي في ذاتها للتصنيف مما يعقد عملية الإحصاء. وفيما عدا ذلك فقد شمل الإحصاء جميع الأنواع الأخرى من الصفات بما في ذلك الجامد المؤول بالمشتق كالمصدر الواقع صفة، والاسم الموصول بعد المعرفة، والمنسوب، واسم الإشارة الواقع بعد معرفة. وفي موضع لاحق أضاف الدكتور مصلوح أن الصفات المعطوفة على صفة تدخل أيضا في الإحصاء. وتقوم على دراسة ذات طرفين، أولهما: هو التعبير بالحدث، والثاني هو التعبير بالوصف، ويعني بالأول الكلمات أو الجمل التي تعبر عن حدث و بالتالي الكلمات التي تعبر عن صفة، ويتم احتساب عدد التراكيب والقيمة العددية الحاصلة تزيد أو تنقص تبعاً لزيادة أو نقص عدد الكلمات الموجودة في هذه التراكيب، وتستخدم هذه القيمة في الدلالة على أدبية الأسلوب والتفريق بين أسلوب كاتب وكاتب .
فمثلاً كتاب " الأيام" لطه حسين تبين مثلاً أن نسبة الجمل الفعلية إلى الوصفية 39% في حين أن نسبة تكرار هذه الجمل في كتاب " حياة قلم" للعقاد لا تتعدى 18%، ومعنى ذلك أن كتاب الأيام أقرب إلى الأسلوب الانفعالي والحركي من كتاب العقاد الذي يميل فيه إلى الطابع الذهني العقلاني.

التطبيق على الرائية:

ـــــــــــــــــــــــــــــ

وبإحصاء الأفعال الصريحة المتصرفة الدالة في الرائية نجد أنها (170مائة وسبعون) فعلاً. أما الصفات في الرائية وضمنها الأحوال، فقد بلغت(50خمسين) وصفًا وحالاً، وبيانها على النحو الآتي:

<!--النسبة الإجمالية للأفعال إلى الصفات في القصيدة كلها هي:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(ن ف ص): 170÷50=4،3، والمدى بينهما (120).

وواضح هنا أن نسبة الأفعال إلى الصفات إجماليًّا أعلى، وتزيد عن ثلاثة أضعاف، والدليل هذا المدى الكبير بين الأفعال والصفات لصالح الأفعال؛ مما يدل على أن النزعة العاطفية الوجدانية غالبة مهيمنة، ويشير إلى عاطفة صادقة ثابتة مستمرة في النص كله. 

<!--النسبة التفصيلية للأفعال إلى الصفات في القصيدة كلها، تكون وتتحقق وتتبين إذا قسمنا القصيدة إلى مقطعين كبيرين:

<!--القسم الأول عن (الأزهر في زمنه الماضي)، أو بمعنى آخر(الأزهر التاريخي)، وهو من البيت الأول حتى البيت الثامن والخمسين.

(ن ف ص): 84÷22=8،3، والمدى بينهما (62).

<!--القسم الثاني عن(الأزهر الحاضر) أو (الأزهر الواقعي) أو (الأزهر المعاصر أو المعاش) وهو من البيت التاسع والخمسين حتى آخر القصيدة.

(ن ف ص): 86÷28=7،3، والمدى بينهما (58).

والملاحظ في الموازنة بين الإحصاءين أن(ن ف ص) في القسم الأول أكبر بنسبة قليلة(1%)، من القسم الثاني، وكذا المدى بينهما(62-58=2) ؛ وذلك لأن المقطع الثاني اشتمل على سرد قصصي وجدال فكري لأنه يحكي مشاهد من الواقع الأزهري، ويناقش سلبيات في التعليم الجامعي الأزهري، وهذا يناسبه التعبير بالوصف.  

ثانيًا:دلالة التعبير الفعلي في الرائية:

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

بناء على ثنائية الماضي والحاضر المهيمنة على الشاعر في رائيته، نلحظ أن الزمن حاضر في كل القصيدة بدءًا ووسطًا وختامًا. ولعل الإحصاء الآتي للأفعال في الرائية ويزيدها بيانًا ويعطينا رؤية أدق لها وفيها:

الإحصاء الإجمالي للأفعال:

مجموع الأفعال

إحصاء الأفعال الماضية

نسبتها المئوية

إحصاء الأفعال المضارعة

نسبتها المئوية

[178]فعلاً

[80]ماضيًا

8،44%

[98]مضارعًا

2،55%

الإحصاء التفصيلي للأفعال:

<!--إحصاء الأفعال في القسم الأول:

مجموع الأفعال في القسم الأول

إحصاء الأفعال الماضية

نسبتها المئوية

إحصاء الأفعال المضارعة

نسبتها المئوية

[84]فعلاً، بنسة 2،47%

[46]ماضيًا

8،54%

[38]مضارعًا

2،45%

<!--إحصاء الأفعال في القسم الثاني:

مجموع الأفعال في القسم الثاني

إحصاء الأفعال الماضية

نسبتها المئوية

إحصاء الأفعال المضارعة

نسبتها المئوية

[94]فعلاً، بنسة 8،52%

[34]ماضيًا

2،36%

[60]مضارعًا

8،63%

وقراءة هذه الجداول الإحصائية تعطينا دلالة على حضور التعبير الفعلي في كل أبيات النص، وتنوعه بين ماض وحاضر فقط، مع غلبة المضارع على الماضي بفارق يصل(10%). وهذا يدل على أن الشاعر منفعل بحاضر الأزهر ومهموم بواقعه، ومتابع عصره، لكنه غير مستشرف لمستقبل الأزهر، ولا مقدم رؤية إصلاحية لما ينبغي أن يكون عليه الأزهر في قادم أيامه!

و يتضح لنا أن الصيغة الفعلية في القسم الثاني من القصيدة زادت عن القسم الأول بعشرة أفعال، بنسبة(10%)، وذلك لأنه القسم المعني بواقع التعليم الأزهر وتعديد ما فيه من سلبيات، وما يجب علينا نحن الأزهريين من أعمال وسلوكيات لتلافي هذا السلبيات.

كما بلاحظ أن عدد الأفعال المضارعة (94 فعلاً) أعلى من عدد الأفعال الماضية(84 فعلاً)، وهذا يدل على حضورية الشاعر وواقعيته، وعنايته الذاتية بالأزهر الحاي، وهذه نزعة إيجابية هادفة بناءة تحسب للشاعر، ويدل عليها ويقررها قول الشاعر في ختام القصيدة:

يا أزهر الماضي وكم في النفس من      ذكرى يؤججها أسًى وتحسرُ

عذرًا إذا شط اليراع فأنت من           يعفو إذا شط اليراع ويعذرُ

إلى أن يقول:

نفثات أشجان زحمن مشاعري           ومن الشجون مقيد ومحرر

أشدو وفي عيني وبين جوانحي          دمع يجول ومهجة تتفطر

لكنني في عيدك الألفي لا              أنسى الرجاء فرب كسر يجبر

مهما نظمت لك الوفاء وصغته        درا فإني في الوفاء مقصر

 إن(حسن جاد) عاشق لـ(الأزهر الماضي) رافض أو منتقص  لـ(الأزهر المعاصر في زمنه!) ومن ثم جاء معجمه الشعري مكونًا من ألفاظ وعبارات تمجيدية تفخيمية في المقطع الأول من النص، أما المعجم الشعري للمقطع الثاني فجاء انتقاديًّا وانتقاصيًّا لأنه يعرض لحال الأزهر الذي عاصره وعاشه شاعرنا، رحمه الله تعالى.

المصدر: كلية الدراسات العليا بجامعة الأزهر، بالقاهرة، في العام الجامعي 2019م
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 899 مشاهدة

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

327,238