الحداثة في النقد الأدبي: تعريفًا وتصنيفًا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[المحاضرة الأولى لطلاب الفرقة الثانية بكلية الدراسات العليا، في تخصص الأدب والنقد، في مقرر (النقد الأدبي الحديث)]
إعداد الدكتور/صبري فوزي أبوحسين
أستاذ ورئيس قسم الأدب والنقد في كلية الدراسات الإسلامية والعربية بالسادات
بسم الله الرحمن الرحيم:
محاضرة اليوم عن الحداثة(modernism) في النقد الأدبي: مفهومًا وأصنافًا، وتاريخا، والموقف منها، ومناهج نقد الحداثة، وخصائص الحداثة، على النحو التالي:
أولا: مدخل تمهيدي:
مر النقد الأدبي الحديث في حضارتنا العربية بطورين اثنين: طور النقد الأدبي الكلاسيكي (التقليدي)، وطور النقد الأدبي الرومانتيكي (التجديدي)، وحدث بعدهما ما يعرف بمرحلة الحداثة(modernism) ثم ما بعدها، وهو في ذلك التطور متابع لحركة النقد الأدبي العالمي، وبيان ذلك على النحو التالي:
و يقصد بمصطلح النقد الأدبي في العصر الحديث: " الاستعمال المنظم للتقنيات غير الأدبية ولضروب المعرفة غير الأدبية أيضًا، في سبيل الحصول على بصيرة نافذة في الأدب "... حتى يفضي إلى دراسة دقيقة للنص، تشبه تحليل الأشياء تحت المجهر.وسر هذا التعريف السابق منطو في كلمة " منظم "، ذلك لأن أكثر هذه التقنيات والنظم لم يكن مجهولاً في النقد القديم ولكنه كان يستعمل بطريقة عفوية عارضة، ولم تكن العلوم المؤثرة في النقد قد تطورت تطورًا كافيًا لتستعمل منهجيًّا، ولا كانت زاخرة بالمعرفة لتسدي له يدًا جليلة!
فالنقد الأدبي الذي كتب في هذا العصر، مختلف من حيث النوع عن أي نقد سبقه. وسواء أسميناه "نقدًا جديدًا"، أو " نقدًا حديثًا"، كما سماه كثيرون أو " نقدًا عمليًّا " أو " نقدًا عاملاً، فإن صلته الوحيدة بالنقد العظيم في العصور الماضية لا تعدو الصلة بين الخالف والسالف. فليس القائمون به أشد ألمعية أو أكثر تنبها للأدب من أسلافهم؛ بل إنهم، في الحق، لا يتطاولون في هاتين الناحيتين إلى عمالقة النقد القديم يونانيًّا وعربيًّا .
وقد ذهب الناقد الإنجليزي جون كرو رانسوم- الذي كان له أثر كبير في ترويج اصطلاح " النقد الجديد " لكتاب ألفه بهذا الاسم – إلى أن الفرق في النوع بينه وبين النقد القديم،قائم على أساس الدراسة المستقصية الحديثة لخصائص المبنى الشعري، كما ذهب إلى أن عصرنا هذا يتميز تميزا غير عادي في النقد، وأن الكتابات النقدية المعاصرة، من حيث عمقها ودقتها، قد فاقت جميع النقد القديم. وهذا كلام لا يعتوره الشك، ولكنا لا نستطيع أن نتملق أنفسنا، فندعي أن تفوقنا إنما هو في سعة باع نقادنا إذا قايسناهم بأسلافهم؛ كلا، بل من الواضح أن هذا التفوق إنما يكمن في الأساليب والمناهج... ففي متناول النقد الحديث ضروب من المعرفة عن السلوك الإنساني، وفي جعبته تقنيات جديدة مثمرة، فإذا أمكن تركيز بعض هذا كله، وأمكن توحيد أعمال عدد من النقاد، وبعث الانسجام فيما هو لامع مبدد منها؛ لأنها تجيء أحيانا متأرجحة أو ناقصة ! إذا أمكن ذلك كله اتسعت في مستقبل النقد دروبه ومناظره وانطلقت دراسات أدبية تحليلية جدية من نوع يميز عصرنا.
ولكن حتى حين ينزع الناقد الحديث ليتخصص في أحد هذه العناصر النقدية الموروثة فإنه يضع إلى جانبها عناصر أخرى غير موروثة، أو يجريها معدلة تعديلًا عميقًا بما أحرزه تطور العقل الحديث من مميزات وخصائص، فيدخل في متاهات ويدخل متلقيه فيها(<!--).
كان من آثار النهضة الحديثة في مصر والشرق العربي أن سلك دارسو الأدب العربي نفس المسالك التي انتهجها الغربيون في دراسة آدابهم وأن يخضعوه لبعض الطرق العلمية التي خضعت لها الآداب الأجنبية منذ القرن الثامن عشر إلى الآن. فأثمر ذلك عن جملة مدارس نقدية، هي:
* المدرسة الكلاسيكية المحافظة الإحيائية
ويمثلها الشيخ حسين المرصفي، والشيخ سيد بن علي المرصفي، والأستاذ أحمد فارس الشدياق، والشيخ محمد عبده، وغيرهم...
* المدرسة التجديدية المستوردة:
حاول الدكتور محمود أمين العالم-الناقد الاشتراكي الواقعي المعروف- أن يحصر لنا اتجاهات المثاقفة مع هذه المناهج النقدية الوافدة المستوردة في أربع مدارس تجمع عددًا من المناهج المختلفة في طرائق الإجراء المتفقة في جذورها الفلسفية، هي :
1 - المدرسة الوجدانية التي تضم النظرية الرومانتيكية كما في ممارسات مدرسة الديوان، ومدرسة أبولو، وجهود جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وتطبيقات المنهج النفسي عند أحمد محمد خلف الله، والنويهي، والخولي، ومصطفى سويف، ويحيى الرخاوي .
2 - مدرسة الذوق الفني كما تجلّت في نقد طه حسين الذي بدأه تقليدياً ثم متأثراً بمناهج الحتمية العلمية التاريخي عند هيبولت تين، ثم الجمع بين منهج البحث العلمي والتذوق الفني بعد ذلك وكما نجد لدى محمد مندور - في نظراته النقدية
3 - اِلمدرسة النقدية الجدلية : التي تتخذ من مفهوم الانعكاس أساساً في فحص العمل الأدبي، كما في كتابات: حفني ناصف، وسلامة موسى، ومجلة الطليعة السورية، وعمر فاخوري، ومفيد الشوباشي، ورئيف خوري. ثم مجلة الثقافة الجديدة، وحسين مروّه، والشرقاوي، والخميسي، ولويس عوض، ومحمد دكروب، وصلاح حافظ، وعبد العظيم أنيس، ومحمود العالم، وعبد المحسن طه بدر، وغالي شكري ... الخ ثم في أتباع البنيوية التكوينية عند( غولدمان ) أمثال : جابر عصفور، ومحمد بنّيس، ومحمد برادة، وأتباع باختين أمثال : يُمنى العيد، وسيد البحراوي، وأمينة رشيد .
4 - المدرسة النقديّة الوضعيّة والبنيويّة كما في كتابات أدونيس، وصلاح فضل، وفريال غزول، وسيزا قاسم، وخالدة سعيد، وكمال أبو ديب، وعبد الفتاح كليطو، والغذامي، وعبد الكريم الخطيبي(<!--)...وعلى الرغم من سعي بعض النقاد إلى تطوير رؤية أصيلة للنقد، كما نجد لدى شكري عياد، فقد ظل التيار المهيمن معتمدًا على تيارات النقد الغربي كما نجد في التيارات الشكلانية والماركسية والبنيوية والنفسية وغيرها التي تتضح في أعمال نقاد مثل محمود أمين العالم وعز الدين إسماعيل ومحمد برادة وعبدالعزيز المقالح، وصلاح فضل، وجابر عصفور، وعبدالملك مرتاض،... وغيرهم.
النقد الغربي:
تركت التيارات النقدية الغربية أثرًا بعيدًا في تطور النقد الحديث في مختلف الثقافات التي احتكت بها وبحكم الهيمنة الحضارية الغربية على العالم المعاصر. غير أن تلك التيارات تعود بدورها إلى جذور متعددة أبرزها الجذور اليونانية/ الرومانية المعروفة بالكلاسيكية. فقد بدأ النقد الأوروبي متفاعلاً مع المقولات الأفلاطونية والأرسطية وغيرها ثم تطور حسب تطور الثقافة الأوروبية ومستجدات الإبداع الأدبي. فظهر الصراع بين القديم والجديد في فترة مبكرة ثم هيمن النموذج الكلاسيكي على القرن الثامن عشر الميلادي إلى أن جاء النقد الرومانسي عند الألمانيين جوته وشليجل، والإنجليزي كوليردج وهازلت وغيرهم ليحل محل ماسبقه، وليمهد لنقد القرن التاسع عشر في عدد من البلدان الأوروبية، كما نجد لدى ماثيو آرنولد في إنجلترا الذي أكد على أهمية العلاقة بين الفن والمجتمع وسانت بوف في فرنسا الذي ركز على السيرة الذاتية.
أما في القرن العشرين الميلادي فقد تشعبت اتجاهات النقد الأدبي بين الشكلانية التي هيمنت في الثلاثينيات والأربعينيات من القرن عند الشكلانيين الروس في روسيا وبعض دول أوروبا الشرقية كما عند شكلوفسكي، والماركسية التي تطورت على يد نقاد مثل الهنغاري لوكاتش والروماني لوسيانجولدمان، والنفسية التي أفادت من تنظيرات فرويد ويونج، إلى غير ذلك من تطورات عرف بها نقاد مثل تي إس إليوتوآي أي رتشاردز في الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وميخائيل باختين في روسيا ونورثروب فراي في كندا ورولان بارت في فرنسا.
وقد لعب علم اللغة الحديث كما طوره السويسري فرديناند دي سوسير دورًا مهمًا في التأثير على الشكلانية والبنيوية. وفي الثمانينيات والتسعينيات هيمنت تيارات عرفت بتيارات "ما بعد البنيوية" مثل النقد النسوي، و النقد التقويضي (التفكيكي) وما بعد الاستقلالي والتاريخاني الحديث(<!--).
ثانيًا: مفهوم الحداثة لغويًّا:
هي مصدر الفعل (حدث)، جاء في المعاجم: "حدَثَ حُدوثاً وحَداثَةً: نَقيضُ قَدُمَ، وتُضَمُّ دالُه إذا ذُكِرَ مع قَدُمَ.وحِدْثانُ الأَمْرِ، بالكسر: أوَّلُهُ وابْتِداؤُه، كحَداثَتِهِ،والحدثان من الدَّهْرِ: نُوَبُهُ، كحوادِثِهِ وأحْداثِهِ.والأَحْداثُ: أمْطارُ أوَّلِ السَّنَةِ.ورجُلٌ حَدَثُ السِّنِّ وحَديثُها: بَيِّنُ الحَداثَةِ والحُدوثَةِ، فَتِيُّ. والحَديثُ: الجديدُ، يقال: هو حديث العهد بكذا أي قريب عهد به والحديث: الخَبَرُ، كالحِدِّيثى، ج: أحاديثُ، شاذٌّ، وحِدْثانٌ، ويُضَمُّ،ورجُلٌ حَدُثٌ وحَدِثٌ وحِدْثٌ وحِدِّيثٌ: كثيرهُ.والحَدَثُ، مُحَرَّكَةً: الإِبْداءُ، و(المُحدِث): المجدِّد في العلم والفن (<!--)" .
فلفظة (الحداثة) لفظة عربية، تدور حول معاني: سن الشباب، وأول الشيء وابتدائه، يقال: أخذ الأمر بحداثته أي بأوله وإبتدائه. والمُحْدَثون: المتأخرون من العلماء والأدباء، وهم خلاف المتقدمين .. وهذا التعريف صادر ممن تبع طريقة اللغويين كأبي عمرو بن العلاء ومن سار سيره ممن يهتمون بالإبداع القديم لحاجتهم إليه في التفسير والشرح للنصوص القرآنية والنبوية، وحاجتهم إليه في التقعيد النحو والصرفي واللغوي والبلاغي!
ويدور الجذر اللغوي(ح/د/ث) حول دلالة كلية حددها ابن فارس في معجمه مقاييس اللغة، بقوله: "الحاء والدال والثاء: أصل واحد وهو كون الشيء لم يكن .. على عكس قدُم الشيء يقدُم قِدْمًا وقَدامةً، أي: مضى على وجوده زمن طويل فهو عتيق. وواضح مدى حضور الزمن وهيمنته على هذه الدلالة الكلية. وهذا ما يقرره دعاة الحداثة من أن "مفهوم الزمن وعلاقة الإنسان بالزمن يأخذ أهمية مركزية بين أطياف مفهوم الحداثة. فالإنسان في الحداثة يصنع زمنه ويرسم ملامح مصيره بإرادته. فالزمن في الحداثة لا يأخذ صورة دورات متكررة صائرة إلى بداياتها. إنه لحظات متقطعة متنافرة متقدمة، إنه صولة الإنسان وتجسيد لإرادته الخلاقة. والإنسان في هذا التصور يصنع تاريخه ويهندس لحظات وجوده تحددا وابتكارا وإبداعا. وفي أصل هذا التصور للزمن بوصفه حركة إنسانية واعية تجلت فكرة التقدم الإنساني وفكرة المصير الذي تقرره إرادة البشر. إنها الحرية التي تتمثل في الخروج عن وصاية الزمن، إنها الإرادة التي تنتزع نفسها من قبضة الحتمية المتمثلة في دائرة الزمن".
الاشتقاق الأوربي لكلمة الحداثة:
كلمة الحداثة في أصلها الاوربي مشتقة من لفظة (modern)، ويفرق الدكتور خضر عريف في كتابه (الحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة بين مصطلح الحداثة والتجديد والمعاصرة) فيقول : " والذي يدفع إلى ذلك الظن الخاطئ هو الخلط بين مصطلح الحداثة (modernism)، والمعاصرة (modernity)، والتحديثmodernization)) وجميع تلك المصطلحات كثيرًا ما تترجم إلى " الحداثة " على الرغم من اختلافها شكلا ومضمونا وفلسفة وممارسة . والواقع أن الاتجاه الفكري السليم يتفق مع التحديث، ولكنه لا يتفق مع الحداثة . وإن يكن مصطلحا modernity و modernization يمكن الجمع بينهما ليعنيا المعاصرة أو التجديد، فإن مصطلح modernism يختلف عنهما تماما . إذ ينبغي أن نفرق بين مصطلحين أجنبيين، من المؤسف أن كليهما يترجم ترجمة واحدة وهي ( الحداثة، والتحديث).
أما المصطلح الأول فهو : modernity الذي يعني إحداث تجديد وتغيير في المفاهيم السائدة المتراكمة عبر الأجيال نتيجة وجود تغيير اجتماعي أو فكري أحدثه اختلاف الزمن .
أما الاصطلاح الثاني فهو modernism ويعني مذهبا أدبيا، بل نظريه فكرية لا تستهدف الحركة الإبداعية وحدها، بل تدعو إلى التمرد على الواقع بكل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية . . . وهو المصطلح الذي انتقل إلى أدبنا العربي الحديث، وليس مصطلح modernity الذي يحسن أن نسميه المعاصرة؛ لأنه يعني التجديد بوجه عام دون الارتباط بنظرية ترتبط بمفاهيم وفلسفات متداخلة متشابكة(<!--) .
ثالثًا: مفهوم الحداثة اصطلاحيًّا:
يأخذ مفهوم الحداثة (modernism) مكانه اليوم في حقل المفاهيم الغامضة، إن يكن من المفاهيم المبهمة. وإذا كان هذا المفهوم يعاني من غموض كبير في بنية الفكر الغربي الذي أنجبه، فإن هذا الغموض يشتد في دائرة ثقافتنا العربية ويأخذ مداه ليطرح نفسه إشكالية فكرية مهمة تتطلب بذل مزيد من الجهود العلمية لتحديد مضامينه وتركيباته وحدوده. يراها الأستاذ عبدالله العروي من ألغز المفاهيم، مرحلة سؤال يحتوي كل سلسة المفاهيم!
وبعيدًا عن التوظيفات الساذجة والشائعة لمفهوم الحداثة، التي تختزله إلى صيرورته الزمنية الراهنة، حيث يجري الحديث عن الزمن الحاضر، أو المرحلة الراهنة، أو العصر الحديث، أو المجتمع المعاصر، يمكن القول بأن الحداثة هي غير بعدها الزمني.
وفي وصف طابع هذه الإشكالية يقول محمد محفوظ: "يبدو أن مصطلح الحداثة وكأنه نص مفتوح على كل مضامين التقدم المعاصر، بحيث أنك لا تفرق بشكل صارم بين مضمون مصطلح الحداثة وبين مضامين مفاهيم التحديث والتقدم والعصرية أو الجديد. ويمتد التداخل ليشمل المعايير والقيم وأنماط السلوك واللباس وطراز السكن أي كل مناحي الحياة في آخر المطاف(<!--)!
وقد وجدت تعاريف عدة لمصطلح الحداثة(modernism)/ ((La modernité، وقد تنوعت مجالات استخدام المصطلح في الفلسفة والاجتماع والتاريخ؛ فقد استقطب مفهوم الحداثة اهتمام الأدباء والفلاسفة وعلماء الاجتماع، منذ عصر النهضة حتى اليوم، واحتل مكانه المميز في الأنساق الفكرية الكلاسيكية عند كارل ماركس K.Marx، وإميل دوركهايم E.Durkheim، وماكس فيبر M.Weber، واستطاع لاحقا أن يأخذ مركز الأهمية في أعمال المحدثين،...
ويهمنا أن نقف مع بعض التعاريف الاصطلاحية لنخلص منها إلى تعريف نرتضيه!
* الحداثة وتعرف باللغة الإنجليزية باسم (modernism)، وهي الشيء الجديد، والذي يعطي صورة معاكسة عن الشيء القديم، وتعرف أيضاً بأنها: الانتقال من حالة قديمة إلى حالة جديدة، تشمل وجود تغيير ما. إنها مفهوم فلسفي مركب قوامه سعي لا ينقطع للكشف عن ماهية الوجود، وبحث لا يتوقف أبدا عن إجابات تغطي مسألة القلق الوجودي وإشكاليات العصر التي تثقل على الوجود الإنساني.
* تعرّف الحداثة –تاريخيًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا-على أنّها فترة تاريخية وفنية امتدت منذ عام 1865م حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، وتزامنت مع تقدم الصناعة والتكنولوجيا، بِحيث ظهرت كاستجابة لِلتقاليد والمعتقدات والأفكار الموروثة التي عرضها المفكرون العظماء؛ مثل: عالم النفس النمساوي سيجموند فرويد، والفيلسوف الألماني كارل ماركس، والفيلسوف الألماني فريدرك نيتشه، والعالم البريطاني تشارلز داروين، وبهذا أُعيد النظر في معتقدات قديمة سائدة لِمحاولة تغييرها، لذا فإنّ الحداثة تتبنى أفكاراً، ومعتقدات، وعادات الغرب الجديدة، كما أنّها ترتكز على العلم، والمنطق، والديمقراطية.
ويرى ناصيف نصار في مجال التمييز بين الحداثة والتقليد "أن الحداثة هي المفهوم الدال على التجديد والنشاط الإبداعي، فحيث نجد إبداعا نجد عملا حداثيا، وبهذا المعنى فإن الحداثة ظاهرة تاريخية إنسانية عامة نجدها في مختلف الثقافات. وتتحدد الحداثة في هذا المعنى بعلاقتها التناقضية مع ما يسمى بالتقليد أو التراث أو الماضي، فالحداثة هي حالة خروج من التقاليد وحالة تجديد".
وغالبا ما يرسم الباحثون في ميدان العلوم الإنسانية حدودا فاصلة بين مفهومي الحداثة والتحديث. حيث يرون أن مفهوم: الحداثة (modernism) يتمايز عن مفهوم التحديث Modernization في اللغتين الفرنسية والإنكليزية. فالحداثة هي موقف عقلي تجاه مسألة المعرفة وإزاء المناهج التي يستخدمها العقل في التوصل إلى معرفة ملموسة.
أما التحديث Modernization فهو عملية استجلاب التقنية والمخترعات الحديثة حيث توظف هذه التقنيات في الحياة الاجتماعية دون إحداث أي تغيير عقلي أو ذهني للإنسان من الكون والعالم. ويرتكز المفكرون عادة في تعريف الحداثة إلى فكرتين أساسيتين هما: فكرة الثورة ضد التقليد، وفكرة مركزية العقل(<!--).
وتعرف عند الأدباء والنقاد تعريفات عدة، منها:
ينقل لنا الدكتور محمد هدارة مقولة سادن الحداثة الأول وكاهنها في عالمنا العربي: على أحمد سعيد الملقب بأودنيس وهو من رواد الحداثة العربية ومفكريها رابطا بينها وبين الحرية الماسونية : " إن الإنسان حين يحرق المحرم يتساوى بالله " . ثم يتنامى المفهوم الماسوني لكلمة الحرية إلى صيغته التطبيقية الكاملة في قوله " : إن التساوي بالله يقود إلى نفيه وقتله، فهذا التساوي يتضمن رفض العالم كما هو، أو كما نظمه الله ن والرفض هنا يقف عند حدود هدمه، ولا يتجاوزها إلى إعادة بنائه، ومن هنا كان بناء عالم جديد يقتضي قتل الله نفسه مبدأ العالم
القديم، وبتعبير آخر لا يمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأن يهدم صورة العالم الراهن وقتل الله نفسه(<!--) " . ولا يخفى ما في هذا التعريف من شطط عقدي وفكري، وصدمة للعقل العربي المسلم، كان أحد أسباب الموقف السلبي الانتقاصي للحداثة إبداعًا ونقدًا!
ويعرفها الدكتور أحمد مختار عمر تعريفًا علميا محددًا، بأنها: مصطلح أُطلق على عدد من الحركات الفكريَّة الدَّاعية إلى التَّجديد والثَّائرة على القديم في الآداب الغربيّة وكان لها صداها في الأدب العربيّ الحديث خاصّة بعد الحرب العالميّة الثَّانية "يميل كثير من المبدعين الآن إلى الحداثة باسم التَّجديد وتارة الصِّدق الفنيّ". وواضح أنه تعريف خاص بالحداثة الإبداعية شعرًا ونثرًا؛ فهو يشير إلى الحداثة في الأدب، التي هي " تمرد الكتّاب في فترة الحداثة ضد الطريقة المعتمدة في سرد القصص، وضد الشعر العمودي الذي كان سائدًا في القرن التاسع عشر، وتبنّوا الشعر الحر كبديل عن ذلك، بالإضافة إلى سرد القصص بِشكل عفوي وغير منظم، وكان أحد الأساليب المستخدمة في الأدب هو أسلوب تيار الوعي، وهو أسلوب يتجاهل التركيبة المعتادة للجملة، ويمتاز بِتشتت أفكار النص لِيمثل الحالة الذهنية المتشتتة لِلشخصيات الموجودة في القصة، أو الرواية، أو القصيدة، وذلك لِعكس الحالة النفسية للأفراد كنتيجة للآثار التي خلفتها الحرب العالمية؛ واعتُبِرت بعضٍ من الكتب فاحشة وبذيئة، وحُظِر بعض منها؛ مثل: رواية عوليس للكاتب الإيرلندي جيمس جويس، والتي حظرت لِسنوات عديدة في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية. وهذا التمرد هو الجانب السلبي في إبداع الحداثة!
ويذكر الدكتور أحمد مختار عمر أن مضادها (اللاَّحداثة)-وأفضل القول بـ: (القدامة): مبدأ يقول بوجوب اتِّباع التقاليد الموروثة في الإبداع الشِّعريّ وعدم إحداث أيّ تجديد "إنه من أنصار التبعيّة واللاّحداثة"(<!--).
ويعرف الدكتور جابر عصفور الحداثة بأنها:
"حالة وعى متأخر تبدأ بالشك فيما هو قائم والتساؤل عما هو مسلم به، وتتجاوز ذلك إلى صياغة إبداعية جذرية لتغيير حادث في علاقات المجتمع ليجسد موقفًا من هذا التغيير. كما يقرر أن الحداثة لا تعني مجرد الجدة. إنها حالة وعى تنبثق في اللحظة التي تتمرد فيها الأنا الفاعلة للوعي على طرائقها المضادة في الإدراك. إنها البحث المستمر للتعرف على أسرار الكون من خلال التعمق في اكتشاف الطبيعة والسيطرة عليها وتطوير المعرفة بها، ومن ثم الارتقاء الدائم بموضع الإنسان من الأرض. أما سياسيًّا واجتماعيًّا؛ فالحداثة تعني الصياغة المتجددة للمبادئ والأنظمة التي تنتقل بعلاقات المجتمع من مستوى الضرورة إلى الحرية، من الاستغلال إلى العدالة، ومن التبعية إلى الاستقلال ومن الاستهلاك إلى الإنتاج، ومن سطوة القبيلة أو العائلة أو الطائفة إلى الدولة الحديثة، ومن الدولة التسلطية إلى الدولة الديموقراطية. "تعني الحداثة الإبداع الذي هو نقيض الاتباع، والعقل الذي هو نقيض النقل(<!--)".
ففي تعريفه هذا ربط بين الحداثة والوعي والشك والتساؤل والتغيير الجذري!
* كما عرفها الدكتور محمد فتوح أحمد بأن" الحداثة لها حدان: حد إيجابى يتضمن إدراك الجدة، وحد سلبى يتعلق بمفهوم المخالفة للقدامى، كما قرر أن الحداثة تحرص على ترحيب أنوار العقل وتوسيع رقعة انتشاره وترسيخ مكانة الشخصية الإنسانية وتجديد بنية الوعى الخاص في بنية الكل(<!--) .. وهذا التعريف به غموض فهو ليس جامعًا مانعًا وليس محددًا!
كما ينقل لنا الدكتور محمد هدارة تعريف رولان بارت الحداثة بأنها انفجار معرفي لم يتوصل الإنسان المعاصر إلى السيطرة عليه فيقول : " في الحداثة تنفجر الطاقات الكامنة، وتتحرر شهوات الإبداع في الثورة المعرفية مولدة في سرعة مذهلة، وكثافة مدهشة أفكارا جديدة، وأشكالا غير مألوفة، وتكوينات غريبة، وأقنعة عجيبة، فيق بعض الناس منبهرا بها، ويقف بعضهم الآخر خائفا منها، هذا الطوفان المعرفي يولد خصوبة لا مثيل لها، ولكنه يغرق أيضا". ويتابع الدكتور هدارة قائلا : كما يصفها بعض الباحثين الغربيين " بأنها زلزلة حضارية عنيفة، وانقلاب ثقافي شامل، وأنها جعلت الإنسان الغربي يشك في حضارته بأكملها، ويرفض حتى أرسخ معتقداته الموروثة(<!--).
إن الحداثة مفهوم متعدد المعاني والصور، يمثل رؤية جديدة للعالم مرتبطة بمنهجية عقلية مرهونة بزمانها ومكانها". فهي رفض الجمود والانغلاق والقبول بمبادئ الانفتاح والتفاعل مع الثقافات الإنسانية، وهي تعني إطلاق الحرية وفسح المجال لكل التعبيرات الاجتماعية للقيام بدورها.
إنها مرحلة تبلغها المجتمعات الإنسانية من خلال عملية التراكم التاريخي، والخروج من دائرة الوصاية التاريخية التي فرضت على العقل الإنساني في عصور الظلام. وتعتمد على الحرية الإنسانية وتأكيد دور الإنسان الحر لهدم عالم الوصاية وتدميره بمختلف تجلياته وحدوده ومرتسماته، وهيمنة العقلانية، والانفجار المعرفي، والوعي الإنساني، وضرورة الحضور الثقافي لهذا الوعي في مختلف مجالات الحياة، والمعرفة العلمية هي المحور الأساس في فهمنا للكون وحقائقه وعلله وتجلياته بصرف النظر عن المعارف التراثية والتقليدية التي سادت في العصور الماضية من تاريخ الإنسانية.. والإنسان في الحداثة يصنع زمنه ويرسم ملامح مصيره بإرادته. ويشكل الحق دائرة مركزية في أصل الحداثة. فالحق ينبثق من إرادة البشر وليس من عالم الطبيعة والقوى الخارقة لها. ـ والإنسان جوهر الحداثة. ويحدد (هايدغر) خمسة مظاهر للأزمنة الحديثة وهي: العلم، والتكنولوجيا، والفن، والثقافة، ومن ثم الانسلاخ عن المقدس.وهذا أخطر ما في أسس الحداثة!
الحداثة في النقد الأدبي:
هي دعوة إلى أن ينفصل النقد الأدبي عن العلوم الإنسانية الأخرى من فلسفة وتاريخ واجتماع وعلم نفس والاقتصاد والأخلاق، وما إلى ذلك، وأن يكون له كيانه المستقل وشخصيته البارزة. إن الحداثة في النقد الأدبي من ناحية ثورة على صلة النقد بالعلوم الإنسانية، ومن ناحية أخرى دعوة إلى جعل اللغة وعلمها منطلقًا لدراسة النص الأدبي؛ فالنص الأدبي بما فيه من شكل ومضمون، إنما هو علامات لغوية، يدرس من داخله، ويدرس كليًّا، من خلال معطيات علم اللغة، وإفرازات المناهج العديدة في شكلها، وطرحها، وإجراءاتها.
رابعًا: تاريخ الحداثة الأدبية:
الحداثة تشمل مجموعة من التغييرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، بالإضافة إلى أخذ تلك التغييرات على أنها عصرية. الجدل حول الحداثة يتناول هذه التغييرات التي يبدو أنها بدأت في أوروبا في أواخر القرن الخامس عشر، أو بداية القرن السادس عشر.
بعض المفكرين يؤرخون بداية الحداثة عام 1436، مع اختراع غوتنبرغ للطابعة المتحركة. وبعض آخر يرى أنها تبدأ في العام 1520 مع الثورة اللوثرية ضد سلطة الكنيسة. ومجموعة أخرى تتقدم بها إلى العام 1648 مع نهاية حرب الثلاثين عام ومجموعة خامسة تربط بينها وبين الثورة الفرنسية عام 1789أو الثورة الأمريكية عام 1776، وقلة من المفكرين يظنون أنها لم تبدأ حتى عام 1895 مع كتاب فرويد "تفسير الأحلام"، وبدأت حركة الحداثة (modernism) في الفنون والآداب (<!--)
ويطلق مصطلح الحداثة بوجه عام على مسيرة المجتمعات الغربية منذ عصر النهضة إلى اليوم ويغطي مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأدبية. لقد أدخل التقدم المستمر للعلوم والتقنيات، وثورة التكنولوجيا، إلى الحياة الاجتماعية عامل التغيير المستمر والصيرورة الدائمة التي أدت إلى انهيار المعايير والقيم الثقافية التقليدية. وفي ظل هذه الصيرورة الاجتماعية بمختلف اتجاهاتها تحدد السياق العام لمفهوم الحداثة بوصفه ممارسة اجتماعية ونمطا من الحياة يقوم على أساسي التغيير والابتكار. وغني عن البيان أن أكثر اللحظات في التاريخ أهمية وإبداعا اللحظات التغييرية الحداثية، وهي اللحظات التي يتم فيها الكشف عن منطق خاطئ مضلل وإبداع منطق جديد. حيث نجد في الفلسفة نقدية كانط التحليلية، ومثالية هيغل الكلية، ومادية ماركس الجدلية، وظواهرية هوسرل التأويلية، وبنيوية فوكو التفكيكية. وهي من أهم اللحظات التاريخية في الحداثة الفلسفية.
أما عن دور الحداثة في التاريخ، فيعد الفيلسوف هيغل أول شخص اهتم بمفهوم الحداثة، وربطها مع التطوّرات الفكرية التي ظهرت في أوروبا، والتي اتّسمت بظهور تيارات أدبيّة وفنية لم تكن معروفة سابقًا. وأثرت الحداثة بشكل ملحوظ على مسمّيات العصور التاريخيّة، فظهرَ كل من عصر التنوير وعصر النهضة في أوروبا كعصرين جديدين، وأشار الفيلسوف هيغل لهذا التطوّر بأنه الانتقال إلى حقبة جديدة تختلف عن الحقب الماضية، وكأي مفهوم مستحدث واجهت الحداثة الكثير من الانتقادات؛ بسبب التغيّرات التي أدت إليها، والتي لا تتناسب مع الأفكار الشعبيّة، وآراء بعض الفلاسفة والمفكّرين. وظهر تيار الحداثة في الغرب نتيجة للمد الطبيعي الذي دخلته أوروبا منذ العصور الوثنية في العهدين اليوناني والروماني، امتدادا إلى عصر الظلمات، مرورا بالعصور المتلاحقة التي تزاحمت بكل أنواع المذاهب الفكرية، والفلسفات الوثنية المتناقضة والمتلاحقة، وقد كان كل مذهب عبارة عن ردة فعل لمذهب سابق، وكل مذهب من هذه المذاهب كان يحمل في ذاته عناصر اندثاره وفنائه .لقد عشق الغرب شتى المذاهب والتيارات الفكرية فلم يعد في حياة الغربي إلا أن تنفجر هذه المذاهب انفجارًا رهيبًا يحطم كل شيء، يحطم كل قيمة، لتعلن يأس الإنسان الغربي وفشله في أن يجد أمنا أو أمانا (<!--) " . وقد جاءت الحداثة لتمثل هذا الانفجار الفكري الرهيب اليائس، انفجار الإنسان الذي لا يعرف الأمن والأمان في ذاته آلاف السنين .
و الإرهاصات المبكرة للحداثة الأدبية بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على يدي " بودلير " الفرنسي صاحب ديوان " أزهار
الشر "، -الذي يعد بودلير مؤسس تيار الحداثة من الناحية الفنية الأدبية- والذي نادى بالغموض في الأحاسيس والمشاعر، والفكر والأخلاق، كما قام المذهب الرمزي الذي أراده على تغيير وظيفة اللغة الوضعية بإيجاد علاقات لغوية جديدة تشير إلى مواضع لم تعهدها من قبل . . . ويطمح أيضا إلى تغيير وظيفة الحواس عن طريق اللغة الشعرية، لذا لا يستطيع القارئ، أو السامع أن يجد المعنى الواضح المعهود في الشعر الرمزي . . وإن الحداثة لم تنشأ من فراغ، بل هي امتداد لإفرازات المذاهب والتيارات الفكرية ولاتجاهات الأدبية والايدلوجية المتعاقبة التي عاشتها أوروبا في القرون الخوالي، والتي قطعت فيها صلتها بالدين والكنيسة وتمردت عليه، وقد ظهر ذلك جليا منذ ما عرف بعصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي، عندما انسلخ المجتمع الغربي عن الكنيسة وثار علي سلطاتها الروحية، التي كانت بالنسبة لهم كابوسا مخيفا، وسيفا مسلطا على رقابهم محاربا لك دعوة للعلم الصحيح، والاحترام لعقل الإنسان وتفكيره، وفكره .
وكان من الطبيعي أن نرى تخبط الغرب، وتقلباته وثوراته على كل شيء من حوله، ما دام لا توجد أرضية صلبة مستوية ينطلق منها، لتصور مقبول للحياة والإنسان والكون عامة ولا ثوابت قوية لهم لتكون مرتكزا يتكئون عليه نحو تقدمهم المادي، ورقيهم الفكري والحضاري، مما أدى إلى ظهور كثير من المتناقضات والتضاد، وأن يهدموا اليوم بمعاول التمرد والثورة ما بنوه بالأمس، إضافة إلى انعدام الروابط المتينة بين هذه الأفكار على اختلاف مشاربها وتباين اتجاهاتها سوى أنها تلتقي في مستنقع المادية الملحدة، لذا نجدهم يتقلبون خلال المذاهب الفكرية والأدبية التي ووسمتهم بخاتمها، وطبعتهم بطابعها، ولونتهم باتجاهاتها فتولدت عندهم الكلاسيكية التي كانت امتدادا طبيعيا لنظرية المحاكاة والتقليد التي أطلقها أرسطو، والتي تعني أن الإنسان محدود الطاقات، متمسك بأهداب التقليد، مع الميل إلى التحفظ واللياقة، ومراعاة المقام، والخيال المركزي المجند في خدمة الواقع .
ثم تأسس الاتجاه الرومانسي على أنقاض الكلاسيكية التي وقفت عاجزة أمام تحقيق ما كان يصبو إليه الغرب من التخلص من آثار القديم ومحاكاته، فوجدوا ضالتهم في مذهب توري متمرد على كل أشكال القديم وآثاره، فقدست الرومانسية الذات، ورفضت الواقع، وثارت على الموروث، وادعت أن الشرائع والعادات والتقاليد هي التي أفسدت المجتمع، ويجب العمل على تحطيمها، والتخلص منها، ولكن الأمر غير المتوقع مع ما نادت به الرومانسية، وجاهدت من أجل تحقيقه أنها قد فشلت فشلا ذريعا في تعيير الواقع، فأوغل دعاتها في الخيال والأحلام، والتحليق نحو المجهول .
وقد تحول الغرب كما هي طبيعته فرارا من المجهول إلى المجهول، ومن الضلال إلى الضلال، ومن اللاواقع إلى ما هو أبعد من اللاواقع وكان ذلك ديدنهم على مدى قرون طوال يبحثون عن لا شيء لعلهم يجدون ذواتهم الضائعة في اتجاه جديد يخلصهم من معاناتهم وضياعهم وتيه نفوسهم، فاتجهوا نحو ما عرف بالبرناسية، ثم فروا منها إلى ما عرف بالواقعية التي تطورت فيما بعد إلى الرمزية التي كانت حلقة الوصل بين تلك المذاهب الفكرية والأدبية وبين ما عرف اليوم بالحداثة، وعلاقتها بالجانب الأدبي على أقل تقدير، وكان على رأس المذهب الرمزي الكاتب والأديب الأمريكي المشهور " إدغار آلان بو " الذي تأثر به رموز الحداثة وروادها في العرب أمثال مالاراميه، وفاليري، وموبسان، كما كان المؤثر الأول والمباشر في فكر وشعر عميد الحداثيين في الغرب والشرق على حد سواء الشاعر الفرنسي المشهور " بودلير " كما ذكرنا آنفا .
وقد نادى إدغار بأن يكون الأدب كاشفا عن الجمال، ولا علاقة له بالحق والأخلاق، وهذا ما انعكس على حياته بشكل عام، حيث كان موزعا بين القمار والخمر والفشل الدراسي والعلاقات الفاسدة، ومحاولة الانتحار . وعلى خطا إدغار سار تلميذه بودلير ممعنا في الضلال ومجانبا للحق والفضيلة.
ثم أعقب بودلير رائد من رواد الحداثة في الغرب وهو رامبو الذي لا يقل شأنا عنه في المناداة إلى الهدم العقلاني لكل الحواس، وأشكال الحب والعذاب والجنون، ودعا إلى أن يكون الشعر رؤية ما لا يرى، وسماع ما لا يسمع، وفي رأيه أن الشاعر لا بد أن يتمرد على التراث ن وعلى الماضي، ويقطع أي صلة مع المبادئ الأخلاقية والدينية، وتميز شعره بغموضه، وتغييره لبنية التراكيب، والصياغة اللغوية عما وضعت عليه، وتميز أيضا بالصور المتباعدة المتناقضة الممزقة وقد تعاقب ركب الحداثيين في الغرب، وسلكوا نفس الطريق الذي بدأه بودلير، ورامبو، وساروا على نهجهما، ومن هؤلاء مالارمييه، وبول فاليري، حتى وصلت الحداثة الغربية شكلها المتكامل النهائي على يد الأمريكي اليهودي عزرا باوند، والإنجليزي توماس اليوت .
وغدت الحداثة الغربية سلسلة متصلة الحلقات يتناقلها اللاحقون عن السابقين، وهي إلى جانب ذلك متصلة شديدة الاتصال بما سبقها من وجودية ورمزية وسريالية ومادية جدلية ومادية تاريخية وواقعية واشتراكية علمية وبرناسية، ورومانسية، وبكثير من الأفكار والمبادئ والتيارات التي كانت قاعدة لها، ومنطلقا فكريا مدها بكل ما حملته تلك المذاهب من فكر وأيدلوجيات، وتمرد على كل ما هو سائد وموروث، وتجاوزت حدود الأدب واللغة ليطال الدين والأخلاق والقيم والعلم . فهي تحطيم للماضي والحاضر والمستقبل وهكذا نمت الحداثة الغربية وترعرعت في أوحال الرذيلة، ومستنقعات اللاأخلاق، وأينعت ثمارها الخبيثة على أيدي الشيوعيين من أمثال نيرودا، ولوركا، وناظم حكمت، وفتشنكو، والوجوديين أمثال سارتر، وسيمون دي بوفوار، وألبير كامو، وآتت أكلها على أيدي الجيل المنظر والداعم لها والمحفز على السير في ركابها من أمثال ألوي أراجون، وهنري لوفيفر، وأوجين جراندال، ورولان بارت، ورومان ياكوبسون، وليفي شترواس، وبياجيه، وغيرهم كثر (<!--) .
ومما لا جدال فيه أن الحداثة كمذهب أدبي تجديدي قامت في أساسها الأول على الغموض وتغيير اللغة، والتخلص من الموروث بكل أشكاله، وأجناسه، وتجاوزهم للسائد والنمطي .
خامسًا: الحداثة في النقد الأدبي الغربي:
أخذت الحداثة "في أوربا رواجًا تفاوت في الشدة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتفاوت بين بلد وبلد في أوربا. فمن مقالات الناقد النرويجي جورج براندر سنة1883م تحت عنوان (رجال الاختراق الحديث) الى المختارات الشعرية التي نشرت في المانيا سنة 1885م تحت عنوان (شخصيات شعرية محدثة) تدعو إلى تحطيم كل ما هو قديم وتقليدي، إلى مقالة فرجينيا ولف سنة 1888م تحت عنوان (أحدث التيارات الادبية ومبدأ الحداثة).
ثم انطلقت لفظة الحداثة ومشتقاتها وأقبل الناس عليها من خلال نزاع شديد حول مفهومها حتى صدر كتاب (رحيل الحداثة) سنة 1909م لصاموئيل لبلنسكي، في برلين. ولكن امتدت الحداثة بعد ذلك على أنماط مختلفة وحركات عدة حتى كانت سنة 1922م حين صدرت قصائد وروايات متعددة لشعراء وكتاب ارتبط اسمهم بالحداثة: قصيدة الارض اليباب لإليوت، ورواية يوليسيس لجويس وأناشيد رلكة ومسرحيات ومراثٍ وغير ذلك، مما جعل الناقد هاري لفين يعتبر سنة 1922سنة المعجزات... وامتدت الحداثة بعد ذلك لتكتسب مع السنين معاني متعددة، وتلبس مناهج نقدية عديدة (<!--).
انتقال الحداثة الى العالم الاسلامي:
وفدت الحداثة الى العالم الاسلامي بوساطة" البعثات التي عادت من أوربا أو الذين انطلقوا من أنفسهم يطلبون العلم هناك أو يهاجرون إلى طلب الرزق في أوربا وأمريكا، أو الرجال الزاحفين علينا من بلاد الغرب زحفًا عسكريًّا أو زحفًا دينيًّا أو عن طريق مؤسسات الفساد وأنديته كالماسونية والروتاري وغيرهما. قوى هائلة عملت على نقل الفكر الحداثي للعالم الإسلامي، قوىً خارجة عنّا وقوى منّا "، بدءًا من سلامة موسى الذي خطا في التبعية خطوة بعيدة تدعو إلى قطع الصلة مع ماضينا وأرضنا وديننا والارتماء كلية في تبعية وعبودية للغرب؛ إذ يقول في كتابه (اليوم والغد): "كلما ازددت خبرة وتجربة وثقافة توضحت أمامي أغراضي في الأدب كما أزاوله. فهي تتلخّص في أنه يجب علينا أن نخرج من آسيا وأن نلتحق بأوروبا. فإني كلما ازددت معرفة بأوروبا زاد حبي لها وتعلقي بها وزاد شعوري بأنها مني وأنا منها"، ويهاجم سلامه موسى الثقافة العربية والاسلامية ويهاجم رجالها وادباءها وشعراءها وتاريخها هجوماً وقحاً.
وجاء طه حسين من فرنسا كذلك، بعد ذلك بسنوات قليلة ينشر الدعوة إلى تحطيم تاريخنا وديننا وأدبنا والى الالتحاق بأوروبا وزخارف حضارتها. فنشر كتابه: (مستقبل الثقافة في مصر) نهج فيه نهج سلامة موسى ولكن بأسلوبه الخاص المتميز، مدعياً أن عقلية مصر عقلية يونانية، وأنه لابد م