أهمية دراسة علمي العروض والقافية:

لعل الخطوة الأولى الممهِّدة لدراسة هذين العلمين الجليلين، وتبين قيمتهما ومكانتهما، تتمثل في التعرف على فوائدهما العديدة وقيَمهما المتنوعة، والاقتناع بسمو مكانتهما بين العلوم، حتى يُوجَد الدافع النفسي العقلي لدى المتلقي دارسًا وباحثًا، لاسيما إذا علمنا أنه نال جفاءً وسوءَ تقدير من جهابذة أعلام من السلَف والخلَف، على حد سواء!!!

و لا ريب في أن هذا المنهج العروضي له قيم عديدة وفوائد متنوعة، قد ظهرت وآتت أكلها وأعطت ثمارها في ميادين شتى، أراها تتمثل في الآتي:

الميدان العقدي:

يساعد المنهج العروضي التقليدي المتلقي على الاعتقاد العقلي- بعد اليقين القلبي- بأن القرآن الكريم ليس بشعر، وبأن الرسول-صلى الله عليه وسلم- ليس بشاعر، وذلك إذا ما طبق مقاييسه على النصين الكريمين:القرآن والسنة؛ إذ يجدهما يخالفان تلك المقاييس بجلاء؛ ولذا ذهب بعضهم، تدفعه الروح الدينية، إلى جعل تعلم العروض فرض عين(<!--). إن المتلقي لا يعرف أن هذين النصين المقدسين ليسا بشعر معرفةَ دراسةٍ لا تقليد إلا عن طريق المقاييس العروضية والقافوية؛ "إذ الشعر : ما اطردت فيه وحدته الإيقاعية التزامًا . أي-كما قال القدامى- (كلامٌ موزون قصدًا بوزن عربي). وبذا يدرك أن ما ورد منهما على نظام أنساق الشعر الوزنية لا يُحكم عليه بكونه شعرًا ؛ لعدم  قصده" ؛"لأنه لم يُقصَد به الشعر ولا نيته، فلذلك لا يعد شعرًا ، وإن كان كلامًا مُتَّزِنًا"، ولأن أقل الشعر بيتان فصاعدًا وما ورد موزونًا من القرآن الكريم أو الحديث الشريف لا يمثل غالبًا إلا شطرًا أو بيتًا... ولأن هذا الموزون- من النصين المقدسين- إنما تحقق فيه الوزن بسبب الوقف، وهما نصان مبنيان على الوصل، فمثلاً قوله تعالى:

إنْ نا/ أع طي/نا كلْ/كو ثرْ

ف صلْ/ لِ لربْ/ بِك وان/حرْ(<!--)

بالوقف على الكوثر أي إسكانها، يأتي على نسق بحر الخبب(أو المتدارك عند بعضهم!)، وبالوصل أي فتح راء الكوثر، ينكسر الوزن ويخرج النص المقدس من دائرة الشعر. كما دخله شذوذ في (فصلْ)(<!--) .. وهكذا في سائر النصوص القرآنية والنبوية التي جاءت موزونة عروضيًّا(<!--) .

الميدان اللغوي:

*يساعد هذا المنهج  الباحث اللغوي في تحليله الظواهر اللغوية المتنوعة[صوتية، صرفية، لهَجية، نحوية..] الموجودة في النص الشعري التراثي؛ ممَّا يضيف إلى الفصحى ويعمل على إثرائها وتطويرها، ومتابعة عطائها الذي لا ينضب في مجالات علوم اللغة وفقهها كافة؛ وذلك للعلاقة المتينة بين اللغة والشعر؛ إذ إن الشعر من المصادر الرئيسة التي استمد منها العلماء قواعد اللغة وأصولها. ولكنهم وجدوا فيه بعض الألفاظ والتراكيب التي تشذ عن هذه الأصول التي استنبطوها منه ومن كلام العرب المحتج بكلامهم فدفعهم ذلك إلى التأمل والتماس العلل؛ فالشعر ديوان العرب الفصحاء، إذا التبس عليهم اللفظ أو التركيب التمسوه في النص الشعري، والأداة الأولى لهذا الالتماس هو إتقان مقاييس العروض الخليلية، إذ يجعل الباحث على ذكر عميق بلغة الشعر العالية الخاصة، التي لها منهجها المميز في المستوى النطقي والمستوى الكتابي، ينبغي أن يدرس وحده منفصلاً عن النثر، ومن ثم قيل: الشعر موضع ضرورة يحتمل فيه وضع الشيء في غير موضعه دون إحراز فائدة ولا تحصيل معنى وتحصينه، كما قيل: الشعراء أمراء الكلام، يجوز لهم ما لا يجوز لغيرهم(<!--). ووجد باب علمي خطير الدور، يدرس في مصادر اللغة والعروض والنقد، يسمى الضرائر الشعرية، يختص بتبيين معالم لغة الشعر الخاصة. ويعنون بالضرائر أن ذلك من تراكيبهم الواقعة في الشعر المختصة به، ولا يقع ذلك في كلامهم النثريّ، وإنما يستعملون ذلك في الشعر خاصة دون الكلام لأنه موضع قد أُلفت فيه(<!--)، وقد دخلت الضرائر ميدان اللغة والنحو-وهي مبحث من مباحث علمي العروض والقافية-؛ لأنها تضطر الشاعر إلى تغيير بناء اللفظ؛ زيادةً أو حذفًا أو خروجًا عن القياس، فتناول اللغويون ذلك بالبحث من خلال معاجم اللغة وأشاروا إلى هذه الضرائر، ودخلت ميدان النحو لكونها تدفع الشاعر إلى مخالفة القياس في بناء الجملة وفي عمل الأدوات، وكذا التغيير في تركيب الجملة...ومن ثم نجد أكثر اللغويين عروضيين، وأكثر العروضيين لغويين.

الميدان الأدبي:

 هذا المنهج العروضي التقليدي يعطي المتلقي المتمكن ملكة القدرة على تمييز الشعر من النثر، وتبيُّن سليم وزن الشعر من مكسوره، ومعرفة ما فيه من تغيير إيقاعي داخلي في أجزائه المختلفة:بدءًا وحشوًا وعروضًا وضربًا، وقافية؛ مما يساعد الناقد الأدبي في تبيُّن مواطن اللذة الإيقاعية أو مدارك الهبوط الموسيقي في النص الشعري الذي يواجهه تذوقًا وتحليلاً، فيعلم مبلغ اقتدار الشاعر على تصريف الكلام وتنويع الأنغام، فبدونهما لا يستطيع الناقد أن يحيط بعناصر الشعر، أو يحسن التذوق له؛ فالشاعر الفحل يغلب الوزن ولا يغلبه الوزن، إنه لاعب بالألفاظ يمتعه تقليبها وتسييرها كيف يشاء، والشعراء جميعًا سواء في هذا النوع من اللعب وإن تباعدوا جدًّا وهزلاً، والذي يعرف ما بين الشعراء في هذا من فروق هو الناقد الذي يستطيع الحكم على قدرة الشاعر في النظم(<!--)، والعروض أداة رئيسة في وصوله إلى تلك الغاية.

كما أن هذا المنهج يساعد المتذوق، والباحث في عالم الشعر، على التفطُّن لما يزدان به الشعر العربي من اتساق في الوزن وتآلف النغم وانسجام في الموسيقى وتفنن في القوافي. وتربية الإحساس بمدى اطراد الأوزان وانسياب النغم، ولذلك أثر في غرس الذوق الفني ، وتهذيبه،  أو يعين على التفطُّن والشعور بما يفسد هذا الاتساق والاطراد في النص الشعري مقروءًا كان أو مسموعًا.  و"تلك ميزة يكبرها عشاق الفن وأرباب الذوق السليم. أَفَيرضيك أيها المعرض النافر أن تظل من أرباب الذوق السقيم؟(<!--)"!!

الميدان الإبداعي:

* مما لا ريب فيه أن لعلم العروض بمنهجه التقليدي تأثيرًا في المبدعين من الفحول والناشئة؛ إذ لا غنًى لأي متلقٍ شاعر عن معرفة أبرز أسس هذين العلمين قبل إبداعه وأثناءه وبعده؛ حتى لا يقع في خلط بحور الشعر بعضها ببعض، أو يقع في الكسر أو التغيير الزحافي أو العِلِّي القبيح غير الجائز، أو عيوب القافية من إيطاء أو إقواء أو سناد أو غيرهما مما هو مفصَّل في أدبيات هذين العلمين؛ فهو يذكِّر الفحول دائمًا بالقواعد الموسيقية التي درج العرب على نظم أشعارهم عليها منذ جاهليتهم الأولى حتى آننا هذا.

كما أن لهذين العلمين دورًا مؤثرًا في بناء الملَكة الشعرية وتنميتها وتطويرها لدى الناشئة من المبدعين، فهذان العلمان يصقلانُ موهبة الشعراء ، ويساعدان في تهذيبها، وتجنيبها الخطأَ والانحرافَ في قول الشِّعر، و أمنِها من التغييرِ الذي لا يجوز دخوله فيه، أو ما لا يجوز وقوعه في موطن دون آخر، فمعرفة العروض تسهل على الشاعر ما تَعَوَّج من الشعر، لأنها نصابه ونظامه وعموده وقوامه .

وهناك عدد كبير من الشعراء وُلِدوا أو صُنِعوا شعريًّا على يد عروضيين ماهرين أخذوا بأيديهم خطوة خطوة، حتى صاروا شعراء. وتفرس سير الشعراء تدل على أن وراء إبداع كل منهم عروضيًّا ناقدًا ومعلمًا... ولذا حُقَّ للخليل الفراهيدي أن يفتخر قائلاً:"إنما أنتم معشر الشعراء تبع لي، وأنا سكان السفينة: إن قرظتم ورضيت قولكم نفقتم وإلا كسدتم...(<!--)". إنها صناعة تقيم لبضاعة الشعر في سوق المحاسن وزنًا، وتجعل تعاطيه بالقسطاس المستقيم سهلاً بعد أن كان حزْنًا. قال ابن طباطبا(ت322هـ):""الشعر- أسعدك الله- كلام منظوم، بائن عن المنثور الذي يستعمله الناس في مخاطباتهم، بما خص به من النظم الذي إن عدل عن جهته مجته الأسماع، وفسد على الذوق. ونظمه معلوم محدود، فمن صح طبعه وذوقه لم يحتج إلى الاستعانة على نظم الشعر بالعروض التي هي ميزانه، ومن اضطراب عليه الذوق لم يستغن من تصحيحه وتقويمه بمعرفة العروض والحذق به، حتى تعتبر معرفته المستفادة كالطبع الذي لا تكلف معه. وللشعر أدوات يجب إعدادها قبل مراسه وتكلف نظمه. فمن تعصَّت عليه أداة من أدواته، لم يكمل له ما يتكلفه منه، وبان الخلل فيما ينظمه، ولحقته العيوب من كل جهة...(<!--)".

كما ينمي هذا العلم موهبة الإنشاد، ويطور القدرة على قراءة الشعر قراءة صحيحة مؤثرة، ويرشد إلى كيفية توقِّي الأخطاء التي يتورط فيها القارئ المنشد إذا كان الشعر غير مضبوط بالشكل، أو إذا تسرَّب إليه شيء من الفساد أو التحريف في الرواية أو الطباعة أو نحو ذلك.

الميدان التراثي والثقافي:

*يساعد علم العروض مَن يشتغلون برواية الشعر ونقده وتحقيق نصوصه المطبوعة والمخطوطة في تقويم المعوج وإصلاح الفاسد من الأبيات، والوصول إلى الصورة الصحيحة للنصوص الشعرية في تذوق النصوص وتحليلها، وبيان ما فيها من جوازات أو ضرورات شعرية.

كما يعين على معرفة ما يرد في التراث الشعري- والنثري أحيانًا- من الاصطلاحات العروضية التي لا يمكن أن يعيها إلا من له إلمام بالعَروض ومقاييسه . مثل قول العربي القديم لما اتُّهم القرآن الكريم أمامه بأنه شعر:" لقد عرفت الشعر ورجزه وهزجه وقريضه فما هو به(<!--)"، ومثل جاء في الأثر الصحابيِّ الشريف:"من قرأ القرآن في أقل من ثلاث فهو راجز، إنما سماه راجزًا لأن الرجز أخف على لسان المنشد واللسان أسرع به من القصيد"(<!--

 ومثل قول الشاعر:

وقصيدةٍ قد بتُّ أنظر بينَها      حتى أقوِّم مـيلَها وسنادها

نظرَ المثقِّف في كعوب قناتِه    حتـى يـقيمَ ثِقافُه منآدَها(<!--)

وقول الآخر:

وشعرٍ قد أرِقْتُ له غريبٌ        أجانبه المساند والمحالا(<!--)

وقول الشاعر الأندلسي(<!--):

يا كاملاً شـوقي إلـيه وافر    وبسيط وجدي في هواه عزيز

عاملت أسبابي لديك بقطعها    والقطع في الأسباب ليس يجوز(<!--)

وقوله:

كففت عن الوصال طويل شوقي     إليك وأنت للروح الخليل

وكـفك للطويل فدتـك نـفسي     قبيح ليس يرضاه الخليل(<!--)

قال الجاحظ(ت255هـ) عن الاصطلاحات العروضية:"وضع الخليل بنُ أحمدَ لأوزان القصيد وقِصار الأرجاز ألقاباً لم تكن العربُ تتعارف تلك الأعاريضَ بتلك الألقابِ، وتلك الأوزانَ بتلك الأسماء، كما ذكرَ الطَّويلَ، والبسيطَ، والمديد، والوافر، والكامل، وأشباه ذلك وكما ذكرَ الأوتادَ والأسباب، والخَرْم والزِّحاف، وقد ذكرت العرب في أشعارها السِّناد والإقواء والإكفاء، ولم أسمع بالإيطاء، وقالوا في القصيدة والرّجَز والسّجع والخُطَب، وذكرَوُا حروفَ الرويّ والقوافي، وقالوا: هذا بيتٌ وهذا مصراع"(<!--) وقد صار إيراد هذه الاصطلاحات أسلوبًا شائعًا في الشعر العباسي،  ومُحَسِّنًا لفظيًّا في شعر عصر الدول والإمارات(<!--)، مما يجعل فقه العروض الخليلي والتثقف به مطلوبًا لمعايشة النص الشعري في تلك العهود.

  إن هذا العلم العربي  الأصيل له المقام الأعلى في معاشرة النص الشعري إبداعًا أو تذوقًا أو نقدًا أو قراءة، وإن الاستهانة به استهانة بالشعر نفسه، واستهانة بعد هذا بوجدان الأمة وأخلاقها؛ فخطرهما من خطر الشعر، وإن خطر الشعر لعظيم...ومن ثَم كان حرص العلماء قديمًا وحديثًا على تيسير هذا النهج الخليلي، وتقديمه في ثوب قشيب، حسب رؤية كل مؤلف، وطبيعة التوجه الثقافي لعصره.

وتلك الفوائد لعلم العروض مقررة عند القدماء والمحدثين، قال ابن عبدربه في منظومته العروضية:

قال ابن عبدربه:

فَداوِ بالأعراب والعَروض ... داءك في الأمْلال والقَريض

كلاهما طِبّ لداء الشَعرِ ... واللّفظ من لَحن به وكَسْرِ

ما فَلْسف النَّيطس جالينوسُ ... وصاحبُ القانون بَطْليْموس

ولا الذي يَدْعونه بهرْمس ... وصاحب الأركند والإقليدس

فَلسفَة الخَليل في العَروض ... وفي صَحيح الشِّعر والمَريض

وقال ابن جني(ت 392 هـ)مقررًا قيمة العروض:" العروض ميزان الشعر، وبه يُعرف صحيحه من مكسوره، فما وافق أشعار العرب في عدة الحروف والحركات والسكنات، فهو شعر كما أنه شعر. وما خالفه فيما ذكرناه فليس شعرًا، وإن قام ذلك وزنًا عند بعض الناس لم يسمَّ شعرًا حتى يوافقه فيما قدمناه(<!--)".

وما أعظم إيجاز العلَّامة الجوهري(ت393هـ) لهذه الفوائد بقوله:"العروض ميزان الشعر، وهي ترجمة عن ذوق الطباع السليمة. وفوائدها ثلاث:إحداها أنه يستعين بها مَن خانَه الذوق. وثانيتها أنه يُعرَف بها مفارقة القرآن للشعر ومباينته له. وثالثتها أنه يُعلَم بها ما يجوز في الشعر مما لا يجوز فيه(<!--)".

وإذا كان الجاحظ(ت255هـ) قد رُوي له ذم للعروض فقد روي له أيضًا مدح، قال:" العروض ميزان، ومعراض بها يعرَفُ الصحيح من السقيم، والعليل من السليم، وعليها مَدَار الشعر، وبها يسلم من الأَوَد والكَسْر"(<!--).

 وقال المظفر العلوي(ت656هـ) :" وأما إقامةُ الوزن فهوَ عبارةٌ عن ذوْقٍ طبيعي حفِظَ فصولَه من الزيادةِ والنُقصان وعدّلها تعديلَ القِسْطِ بالميزان. ولو أن كلّ ناظمٍ للشعر يفتقرُ في إقامة وزنهِ، وتصحيحِ كسْرِه، وتعديلِ فصولِه إلى معرفةِ العَروض، والقوافي، لما نظَمَ الشِعرَ إلا قليلٌ من الناس. على أن الشاعر إذا عرَفَهما لم يستغن عنهما(<!--)".

وقد نقل الشيخ بدر الدين الدماميني (ت837هـ) في شرحه المسمى العيون الغامزة فصلًا ذكره ابن بري التازي، فيه فوائد خاصة ببيان مدى الفائدة من علمي العروض والقافية، لا بأس من الإحاطة بها،  وأعرضه بتصرف على النحو التالي:

يقول ابن بري: "قد تجافى بعض المتعسفين عن هذا العلم ووضعوا منه واعتقدوا أن لا جدوى له واحتجوا بأن صانع الشعر إن كان مطبوعًا على الوزن فلا حاجة له بالعروض، كما لم يحتَجْ إليه مَن سبق الخليل من العرب، وإن كان غير مطبوع فلا يتأتَّى له نظم العروض إلا بتكلف ومشقة... ولأن بعض كبراء الشعراء لم يقف عند ما حده الخليل وحصره من الأعاريض بل تجاوزها... ولأنه يُخرج بديع الألفاظ ورائق السبك إلى الاستبراد والركاكة، وذلك حالةَ التقطيع والتفعيل، وربما أوقع المرء في مهوى الزلل ومقام الخجل بما يتحول إليه صوغ البنية من منكر الكلام وشنيع الفحش(<!--). والحق الذي يعترف به كل منصف أن لهذا العلم شرفًا على ما سواه من علوم الشعر؛ لصحة أساسه واطراد قياسه ونبل صنعته ووضوح أدلته. وجدواه حصر الأوزان ومعرفة ما يعتريها من الزيادة والنقصان، وتبيين ما يجوز منها على حسن أو قبح وما يمتنع، وتفقد محالِّ المعاقبة والمراقبة والخرم والخزم، وغير ذلك مما لا يتَّزن على اللسان ولا تتفطَّن إليه الفِطَر والأذهان؛ فالجاهل بهذا العلم قد يظن البيت من الشعر صحيح الوزن سليمًا من العيب وليس كذلك. وقد يعتقد الزحاف السائغ كسرًا وليس به...

ثم قال:" وهل علم العروض للشعر إلا بمثابة علم الإعراب للكلام؟ فكما أن صنعة النحو وُضِعت ليُعافي بها اللسان من فضيحة اللحن فكذلك علم العروض وُضع ليعافي به الشعر من خلل الوزن، فلولاه لاختلطت الأوزان واختلفت الألحان وانحرفت الطباع عن الصواب انحرافَ الألسنة عن الإعراب. وقد وقع الخلل في شعر العرب كثيرًا. وأنشد الأصمعي(ت216هـ)وغيره من كبار الأئمة بيت عبيد الأبرص هكذا مكسورًا:

هي الخمرُ تُكنَى الطَّلا      كما الذئبُ يُكنَى أبا جَعْدَةْ

ووقع في شعر علقمة قوله في فكه أخاه شأسًا:

دافعت عنه بشعري    إذ كـان فـي الفـداء جَحَدْ

فكان فيه ما أتاك وفي تسعين أسرى مقرنـين صفَدْ

دافع قومي في الكتيبة إذ  طار لأطراف الظـباة وقَدْ

فأصبحوا عند ابن جفنة في الأغلال منهم والحديد عُقَدْ

إذ مُخنب في المخنبين وفي النهكة غير بـادي ورشَدْ

فهذه القطعة مما أدخلت في جملة شعره وهي مختلة الوزن، حتى قال بعضهم إنها ليست بشعر.. (<!--)

ولعل من أبلغ مقولات العروضيين المحدثين في ذلك الشأن محقق كتاب الكافي في العروض والقوافي:" إذا أريد لديوان العرب أن يبقى فلا بد أن تبقى أنغام الشعر في آذان العرب. ولهذا سبيلان: الحفاظ على الشعر نفسه، والحفاظ على علم الشعر، وفي مقدمة مفرداته العروض والقافية... إن الغربيين يرعون العروض أجل رعاية، فيقولون فيه ويكثرون القول، وينشرون كتبه يشرحون فيها أصوله ودقائقه ويتابعونه في مراحل تطوره، ويعنون في تقديمهم للدواوين ببيان أوزانها عناية ملحوظة؛ لأنهم يعلمون حق العلم أن الاستهانة بالعروض ليست استهانة بجملة مصطلحات معقدة، بل هي استهانة بالشعر نفسه، واستهانة بعد هذا بوجان الأمة وأخلاقها... وإذا أريد لديوان العرب أن يبقى فلابد أن تبقى أنغام الشعر في آذان العرب. ولهذا سبيلان: الحفاظ على الشعر نفسه، والحفاظ على علم الشعر، ومنه باب العروض والقافية(<!--)".

 إنه من العلوم الجليلة الفائدة في نواح معرفية شتى، بحيث بات لا يستغني عنه قطاع كبير من المثقفين، مهما كانت درجة ثقافتهم اتساعًا ومحدوديةً، على النحو الذي اتضح سابقًا، حيث يستعين بهما اللغوي، ودارس البلاغة، والناقد، والمحقق، والمبدع فحلاً كان أو نشئًا، والمصحِّح اللغوي، والمؤدِّي المُلْقِي للشعر، والمحكِّم لمسابقات الشعر التي عقدت قديمًا، وما زالت تُعقَد  ...إلخ

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--) شرح الصبان على منظومته في علم العروض ص3، والمدار العروضية ص136.

(<!--) دخل في هذه التفعيلة علة الحذذ(حذف الوتد المجموع من آخر التفعيلة"علن") فصارت(فا). وهي علة غير واردة في البحر المتدارك. وفي هذا شذوذ.

<!--) دخل في هذه التفعيلة زحاف الخبن(حذف ألف فاعلن) وعلة القطع (حذف نون فاعلن وإسكان لامها فصارت(فصلْ) على               زنة(فعِلْ) وحُوِّلت إلى (فعو). وفي هذا شذوذ.

<!--) راجع ملف:"الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الموزونة عروضيًّا" المنشور في صفحة المجالس بموقع الوراق. ومن الجميل في هذه القضية عبارة جاحظية فاصلة، في كتابه البيان والتبيين، باب ما قيل في المخاصر والعصي وغيرهما، نصها:" خالف القرآنُ جميعَ الكلام الموزونِ والمنثور، وهو منثورٌ غير مقفّىً على مخارج الأشعار والأسجاع".وقال ابن فارس:" ، قال ابن فارس:" الشِّعرْ - كلام مَوْزونٌ مُقفّى دَالٌّ عَلَى معنىً. ويكون أكثرَ من بيت. وإنما قلنا هَذَا لأنّ جائزاً اتِّفاقُ سَطرٍ واحد بوزن يُشبه وزنَ الشِّعر عن غير قصد... راجع الصاحبي، باب الشعر.

<!--)) قائل هذه العبارة الخليل بن أحمد. راجع منهاج البلغاء ص143.

<!--)) يعد سيبويه (180هـ) أول من درس الضرائر في كتابه، ثم تلاه أبوبكر بن السراج (316هـ)، وأبو سعيد السيرافي (368هـ)، و أبو جعفر القزاز (412هـ)في كتابه "ما يجوز للشاعر في الضرورة"وعند ابن عصفور (669هـ) في "ضرائر الشعر"، و "شرح الجمل"، و "المقرب" وأبو الفضل الصفار القاسم بن علي البَطَلْيوسي (بعد 630هـ) في "شرح كتاب سيبويه"،  و أبو حيان (745هـ) ، في "ارتشاف الضرب"، وأبو المعالي محمود شكري الآلوسي (1342هـ) في كتابه "الضرائر"، وجرى على هذا جمعٌ غير قليل من العروضيين المعاصرين وغيرهم مفيدين من التصنيفات المذكورة السابقة مع اختلاف يسير. ومن النحويين المحدثين الدكتور عبد الوهاب العدواني في كتابه:"الضرورة الشعرية. دراسة نقدية لغوية"، والدكتور محمد حماسة عبد اللطيف في مصنَّفه:"الضرورة الشعرية في النحو العربي"، والدكتور خليل بنيان الحسون في كتابه " في الضرورة الشعرية"... و يختلف موقف أحمد بن فارس (395هـ) من ضرائر الشعر عن موقف النحويين جميعهم؛ إذ لا يكاد يعترف بما يسميه النحاة ضرورة، فيتعيّن على الشاعر أن يقول بما له وجه في العربية، ولا ضرورة فيه حينئذٍ. فإن لم يك ثمت وجه منها رُدَّ وسمّي باسمه الحقيقي وهو الغلط أو الخطأ، ولا داعي للتكلف واصطناع الحيل للتخريج، وما جعل الله الشعراء معصومين يُوَقُّون الخطأ والغلط، فما صحَّ من شعرهم فمقبول، وما أبته العربية، وأصولها فمردود. وقد ألف ابن فارس مصنفاً لهذا الغرض سمَّاه "ذمُّ الخطأ في الشعر" ولخَّص فيه موقفه من الضرورة الشعرية.راجع وعروض الشعر العربي ص216، ولغة الشعر:دراسة في الضرورة الشعرية، د/محمد حماسة، طبع دار الشروق سنة 1996م.

<!--)) راجع مقدمة الأستاذ الحساني عبدالله في تحقيقه الكافي للتبريزي، ص4.

<!--))صفوة العروض ص9، أ/عبدالعليم إبراهيم، طبع مكتبة غريب بالقاهرة د.ت.

<!--)) السكان: ذنب السفينة الذي به تعدل. و قد رد في الأغاني، باب أخبار ابن مناذر ونسبه، 8/184. من حوار دار بين الخليل بن أحمد وبين ابن مناذر و لما سمع  ابن مناذر هذا الفخر النثري، قال: والله لأقولن في الخليفة قصيدةً أمتدحه بها ولا أحتاج إليك فيها عنده ولا إلى غيرك. فقال في الرشيد قصيدته التي أولها:

ما هيج الشوق من مطوقةٍ         أوفت على بانةٍ تغنينا

<!--))عيار الشعر لابن طباطبا العلوي ص 5-6، تحقيق د/عبدالعزيز المانع طبع الخانجي بالقاهرة سنة 1985م.

(<!--)سيرة ابن هشام2/289،  

<!--)) هو سيدنا عبدالله بن مسعود، رضي الله عنه‘ ورد في النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير الجزري فصل(الرجز)،  راجع: العروض والقافية: دراسة في التأسيس والاستدراك ص52.

(<!--) الشعر لعدي ابن الرقاع العاملي  ورد في الحيوان ، والبيان والتبيين، والأغاني، والشعر والشعراء لابن قتيبة، ودلائل الإعجاز.  راجع الموشح للمرزباني ص13، وتأويل مشكل القرآن لابن قتبة ص14، والعروض والقافية: دراسة في التأسيس والاستدراك ص52.

<!--)) الشعر لذو الرمة، في البيان والتبيين، ودلائل الإعجاز، والقوافي للتنوخي، راجع الموشح ص13، والعروض والقافية: دراسة في التأسيس والاستدراك ص52.

<!--)) من شعر أحمد بن إسماعيل بن صفوان الأندلسي(ت763هـ) أثبته ابن الخطيب في كتابه الإحاطة في أخبار غرناطة. ومن أمتع التجارب الأدبية التي فيها توظيف للمصطلحات العروضية تجربة أبي العلاء المعري في كتابه"الفصول والغايات في تمجيد الله والمواعظ، راجع فصل:غاياته تاء.

<!--)) لأنه علة نقص خاصة بالوتد المجموع.الوافي ص188.

<!--)) لأنه يفضي إلي الوقف على اللام وهي متحركة، والعرب إنما تبتدئ بالمتحرك، وتقف على الساكن.الوافي ص41.

<!--)) البيان والتبيين1/101.

(<!-- ) هاك نماذج شعرية فيها توظيف لمصطلحات العروض، وردت في كتاب نفح الطيب:

"وقال أبو جعفر البيري، رفيق ابن جابر الأندلسي- رحمه الله تعالى -في العروض على مذهب الخليل:

خلّ الأنام ولا تخالط منهم         أحداً ولو أصفى إليك ضمائره

إنّ الموفّق من يكون كأنّه         متقاربٌ فهو الوحيد بدائره

وقال على مذهب الأخفش:

إنّ الخلاص من الأنام لراحةٌ         لكنّه ما نال ذلك سالك

أضحى بدائرةٍ له متقارب         يرجو الخلاص فعاقه متدارك

وله:

دائرة الحبّ قد تناهت         فما لها في الهوى مزيد

فبحر شوقي بها طويلٌ         وبحر دمعي بها مديد

وإنّ وجدي بها بسيطٌ         فليفعل الحسن ما يريد

وهذا المعنى استعمله الشعراء كثيراً، ومنهم الشيخ شهاب الدين بن صارو البعلي. قال أبو جعفر المترجم به: أنشدنا شهاب الدين المذكور لنفسه بحماة:

وبي عروضيٌّ سريع الجفا         يغار غصن البان من عطفه

الورد من وجنته وافرٌ             لكـنّه يـمنع مـن قـطفه

قال: وأنشدني أيضاً لنفسه:

وبي عروضيٌّ سريع الجفا         وجدي به مثل جفاه طويل

قلت له قطّعت قلبي أسىً         فقال لي التقطيع دأب الخليل

<!--)) كتاب العروض ص1، تحقيق د/رجب محمود سليمان.

<!--)) عروض الورقة ص 9.

<!--)) كتاب تحسين القبيح وتقبيح الحسن للثعالبي(ت429هـ) ص81، تحقيق شاكر العاشور طبع وزارة الأوقاف العراقية سنة 1981م. و راجع: العيون الغامزة ص235.

<!--)) نضرة الإغريض في نصرة القريض ص27، تحقيق د/نهى عارف الحسن طبع مجمع اللغة العربية بدمشق سنة 1976م.

(<!-- ) وذكر مقولة أبي العتاهية من أنه أسن من العروض، وكذلك مداعبةً خادشة للحياء جرت بين أبي نواس وعنان جارية الناطفي!!!... ثم ذكر هجاء نثريًّا قاله الجاحظ  في علم العروض...

<!--)) ديوان عبيد بن الأبرص ص3، وديوان علقمة ص112، و العيون الغامزة ص234. ثم عرض الدماميني(ت827هـ) بمنتقصي هذا العلم قائلاً:" وإنما يضع من هذا العلم مَن نبا طبعُه البليد عن قَبوله ونأى به فهمه البعيد عن وصوله. كما حكى الأصمعي أن أعرابيًّا مبتدئًا كان يجلس إلى بعض الأدباء وكلما أخذوا في الشعر أقبل بسمعه عليهم حتى أخذوا في العروض وتقطيع الأبيات ولى عنهم، وهو ينشد:

قد كان إنشادهم للشعر يعجبني     حتى تعاطوا كلام الزنج والروم

ولـيتُ منقـلبًا والله يعصمني      مـن التقـحُّم في تلك الجراثيم

... وغير ذلك من أقوال بعض السلف ممن حاول النيل من مكانة العروض ومُنَظِّره.

ومثل هذا يُردُّ عليه -كما يقول الدماميني-بقول الخليل:

لو كنت تعلم ما أقول عذرتني    أو كنت أجهل ما تقول عذلتكا

لكن جـهلت مقالتي فـعذلتني     وعلـمت أنك جاهل فعذرتكا

<!--))الكافي ص8. وراجع ملف"الخلاصة الهادية إلى علمي العروض والقافية"، وملف "أهمية دراسة علمي العروض والقافية"، للدكتور/صبري أبوحسين المنشورين في صفحة المجالس بموقع الوراق. 

 

 

المصدر: كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنات بمدينة السادات
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 448 مشاهدة
نشرت فى 15 أكتوبر 2019 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

326,312