دور المثقف في نشر الانتماء لدى الأجيال القادمة:

شعر أحمد شوقي أنموذجًا

إعداد:

الأستاذ الدكتور/صبري فوزي أبوحسين

أستاذ الأدب والنقد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بمدينة السادات

وعضو اتحاد كتاب مصر

مما هو مقرر لدى العقلاء والنبلاء من العامة والخاصة أن الثقافة ليست عبَثًا ولا تَرَفًا ولا مَسْلاة أو مَلْهاةً، بل إنها أساس التعرف على الحياة والأحياء, و خلاصة علم البشر وسجل مفاخرهم ومآثرهم، وسبيل معرفة المعوج من المستقيم من سلوكيات البشر؛ ولذا أقبل العقلاء على التسلح بها، والبحث فيها ونشرها، والعملِ على إحيائها واستدعاء نماذجها الإيجابية في كل عصر ومَصْر، ودَعَوْا إلى أن تظل في عصرنا- كما كانت من قبل- ضرورةً من ضرورات الحياة العقلية، وغذاءً للعقول والقلوب، وتهذيبًا للنفس وتزكيةً للجَنان، وتمرسًا على إجادة الآداب المنظومة والمنثورة، والفنون المسموعة والمقروءة والمشاهدة؛ لترويض الأخلاق وإلانة الطبائع، والإعانة على اكتساب المُرُوآت، ورأوا فيها مُقوِّمًا لشخصيتنا، مُحقِّقًا لقوميتنا، عاصمًا لنا من الفناء في الأجنبي، مُعينًا لنا على أن نعرف أنفسنا ونُعرِّف بها؛ لأن الأمم تحيا بثقافتها وآدابها؛ ولذلك نرى المؤرخين يقدمون في تاريخهم تاريخَ الثقافات والآداب على تاريخ الوقائع، بل أفردوا لهما تاريخًا قائمًا بذاته يثبت ما يختص بالعلوم والمعارف في كل حضارة، مخبرًا عن نشأة الثقافات والآداب بينها واتساع نطاقها وأسباب ترقيِّها ودورها الإيجابي في إصلاح الحياة والأحياء؛ فالمثقف سلاح للبناء وأساس للتعمير، إذ آتاه الله بسطة في العلم و وفرة في الفهم، جعلته قادرًا على السمو بالمجتمعات إلى فضاء التعايش السلمي بعيدًا عن سفوح التنابز وحضيض التناوش وتحويل الاختلافات والتمايز من حواجز فرقة وأسباب صراع إلى أدوات ثراء وإثراء وقيم وانسجام وتناسق وبناء. ومن أولويات دور المثقف والأكادمي تمحيص المسار للأمة وتنقية سياقاتها الحضارية من كل شائبة تعيق التلاحم بين المجتمع على اختلاف الألسن والألوان، حيث ينقل هذاالتنوع إلى أسباب للتعايش وسبل للتعاضد.

وإني في هذا البحث: (دور المثقف في نشر الانتماء لدى الأجيال القادمة، شعر أحمد شوقي أنموذجًا) نعيش مع ثلاثة اصطلاحات علمية أساسية، هي: (المثقف والانتماء والأجيال القادمة)، ولا ريب في أنه يوجد بينها ترابط بيِّن وتواصل واضح؛ فهي تمثل ثلاثية الحياة الفاعلة: العقل والقلب والإنسان، العقل يكمن في المثقف، والقلب يحيا في المُنتمي، والإنسان هو ذلك الكائن الذي يملأ الحياة فعلاً وانفعالاً، ويتمثل في الأجيال الحالية والقادمة، وفي كل جيل: مثقفًا ومتلقيًّا للثقافة. إننا مع ثالوث الخطاب الفكري من مرسل هو(المثقف)، ورسالة، هي (الانتماء)، ومتلق للرسالة هو(الأجيال القادمة).

 وقد أدى أمير الشعراء أحمد شوقي[1868-1932م] هذه الرسالة بشعره خير أداء وأتمَّه، فمال زال شعره الوطني معبرًا عن حالتنا، غارسًا الانتماء بكل أنواعه فينا، الانتماء إلى المكان(مصر)، والإنسان(المصريون)، والزمان(الماضي والحاضر)، محددًا الأزمات والمتاهات، معالجًا إياها بحلول شعرية سحرية شفافة، ومن ثم كانت قراءتي الانتماء في ديوانه.

  ولكي نحدد دور المثقف في تلك الأجيال لابد من بيان شافٍ لتلك الاصطلاحات، على النهج التالي:

<!--المثقف(cultured/ L'homme de la culture)

(المثقف)في المفهوم اللغوي:اسم مفعول من الفعل (ثقَّف)الذي يدور جذره اللغوي في معجمنا العربي على دلالة كلية، هي الحماية والتأمين، قال ابن فارس في معجمه مقاييس اللغة:" الثاء والقاف والفاء كلمة واحدة إليها يرجع الفروع، وهو إقامة دَرْءِ الشيء. ويقال ثَقَّفْتُ القناةَ إذا أقَمْتَ عِوَجَها(<!--)". وتتفرع إلى دلالات جزئية، هي: الحذق، وسرعة الفهم، والفطنة، والذكاء، وسرعة التعلُّم، وتسوية المعوجِّ من الأشياء، والظفَر بالشيء(<!--)، والمثقف يمتلك: "كل ما فيه استنارةٌ للذهن، وتهذيبٌ للذوقِ، وتنميةٌ لِمَلَكة النقد والحُكْم لدى الفرد والمجتمع(<!--). و(المثقف) في المفهوم الاصطلاحي: ناقدٌ اجتماعيٌّ، "همُّه أن يحدِّد، ويحلِّل، ويعمل من خلال ذلك على الإسهام في تجاوز العوائق التي تقف أمام بلوغ نظام اجتماعي أفضل، نظامٍ أكثر إنسانية، وأكثر عقلانية"، كما أنه الممثِّل لقوَّةٍ محرِّكةٍ اجتماعيًّا، "يمتلك من خلالها القدرةَ على تطوير المجتمع، من خلال تطوير أفكار هذا المجتمع ومفاهيمه الضرورية(<!--)".

<!--الانتماء(association/ affiliation)

(الانتماء) من الاصطلاحات العالمية المتكررة في كلام التربويين والمثقفين، ويُعرف (الانتماء) لغةً بأنه الانتساب إلى شيء ما، وهو مفردة مشتقّة من النمو والكثرة والزيادة، قال ابن فارس:"النون والميم والحرف المعتل أصل واحد يدل على ارتفاع وزيادة(<!--)". أمّا (الانتماء) اصطلاحًا فهو الارتباط الحقيقي، والاتصال المباشر مع أمرٍ مُعيّن تختلف طبيعته بناءً على الطريقة التي يتعامل فيها الفرد معه، ويعرف أيضاً بأنه التمسك والثقة بعنصر من عناصر البيئة المحيطة بالأفراد، والمحافظة على الارتباط به وجدانيًّا، وفكريًّا، ومعنويًّا، وواقعيًّا؛ مما يدلّ على قوة الصلة التي تربط بين الفرد والشيء الذي ينتمي له، سواءً أكان انتماؤه لوطنهِ، أو عائلتهِ، أو عمله، أو غيرهم. و يتميّز (الانتماء) بمجموعة من الخصائص، تتمثل في أنه يعد شعورًا ثابتًا، ومباشرًا، وكاملاً، وتامًّا، كما أن(الانتماء) يُعد عاملاً من عوامل بناء المجتمع؛ فعندما ينتمي الإنسان إلى مجتمعه يؤدي ذلك إلى تشجيعه للمحافظة عليه، والحرص على نموه، وازدهاره بشكل دائم(<!--). و(الانتماء) عدة أقسام، منها الانتماء الديني، والانتماء العائلي، والانتماء الوطني، والانتماء السياسي، والانتماء الفني، والانتماء الرياضي...والحاجة إلى الانتماء: مصطلح أشاعه الغرب، يقصدون به وصف حاجة الإنسان إلى الشعور بإحساس من الانضمام و(الانتماء) داخل مجموعة اجتماعية، يتمتع بالاحتياجات الفسيولوجية، والأمانية، والاجتماعية، والنفسية.

<!--الأجيال القادمة(The next generations/ Les générations du futur)

الأجيال جمع (الجيل)، وقد احتل مفهوم (الجيل) أهمية مركزية في الفكر الغربي؛ فتقدم الإنسانية مرتبط بالتعاقب التدريجي والمستمر، وبتأثير كل جيل في الجيل الذي سيعقبه، والقوة الخلاقة لجيل الشباب هي التي تعجل بالتطور، وقدر باحثون دوام الجيل بثلاثين سنة، وهي الفترة التي يكون فيها الإنسان استكمل تكوينه وأصبح قادرًا على الإنتاج والإبداع. وقد أعد ”فرانسوا مونتري“ سنة 1920م رسالة دكتوراه عنوانها ”الأجيال الاجتماعية“ اعتمد فيها التعريف التالي:“ الجيل هم مجموعة محدودة في الزمن“، ويقرر“مونتري“ أن الأجيال تحدد إيقاع التاريخ وسيره، ويقترح من خلال ملاحظته للتغيرات الاجتماعية سيرًا عشريًّا للأجيال؛ فالجيل المعين يظهر كل عشر سنوات، ويستغرق ثلاثين عامًا؛ مما يؤدي إلى تعايش مجموعة من أجيال ثلاثة على الأقل في الفترة نفسها، كما يميز ”مونتري“ بين نوعين من الأجيال: الجيل العائلي والجيل الاجتماعي، فالاجيال العائلية متواصلة تتوالد كل يوم في إطار التعاقب من الأجداد إلى الأبناء (كل 30 سنة) في حين تقوم الأجيال الاجتماعية على تطور الجماعة وما يربط بينهما من أحاسيس ومعتقدات، وهي تتعاقب بسرعة أكبر أي كل عشر سنوات(<!--).

وقد وظف النقد الأدبي مصطلح (الجيل) للدلالة على مجموعة من السمات والخصائص التي تميز بين نمط إبداعي وآخر، ولرصد التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها فترة ما وتنعكس تجلياتها على النص محل البحث والدراسة، وأيضاً للإشارة إلى التطورات التي تمر بها تقنيات الأدب وفنياته. وارتبطت فكرة (الجيل) بالحيوية والتجدد والقدرة على الإعلان عن الإضافة والابتكار، وإذا فتحنا أرشيف الثقافة العربية سنجد معارك بين شباب الأدب وشيوخه، القديم والجديد، وفي حقبة لاحقة سنعثر على صراع بين رؤى رجعية وأخرى تقدمية، يمين ويسار ووسط، وسنصادف هذه المقولات فضلاً عن التنظير لها... ويهمنا في هذا المجال اصطلاح (جيل الألفية)، المقصود به: هؤلاء الأشخاص الذين وُلدوا في الفترة الزمنية التي تتراوح بين أوائل الثمانينيات وحتى منتصف التسعينيات وأوائل الألفية الثانية،القادرين بشكل خاص على استخدام منصات التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. أنهم مجموعة الشباب المتحفز، الذي يمتلك رؤية يسعى إليها، ربما تكون هذه الرؤية تطويرًا لما هو مستقر في الذهن من أفكار تجاوزها مناخ العصر، أو ثورة تبدع أشكالاً أدبية مغايرة مما يكسب الثقافة زخمًا ويجعلها قادرة على الابتكار(<!--).

نماذج لدور المثقف في نشر الوعي بالانتماء:

قام المثقف المصري خلال العصر الحديث بهذا الدور الفاعل، وأكبر دليل إبداعي على ذلك ما في إبداع مثقفنا العظيم: أمير الشعراء أحمد شوقي، القائل:

وإني لغِرِّيدُ هذي البطاح      تَغَذَّى جَناها وسَلْسالها

ترى مصر كعبة أشعاره       و كـــلِّ مــعـــلــقــة قــالها(<!--)

ففي هذين البيتين بيان لرسالة الشاعر المحافظ تجاه وطنه؛ إذ كان الوطن –وما زال وسيظل بإذن الله تعالى- مدارًا فكريًّا أساسيًّا عند المثقف الشاعر؛ إذ عبر عن مشاعره الجيّاشة تجاهه سواء كانت هذه المشاعر فرحًا أو حزنًا أو حنينًا، وقد تحول الوطن في عيون المثقفين الشعراء إلى محبوب ساكن في القلب وحاضر في الرّوح، ترى عندهم الوطن مكانًا وإنسانًا وأحداثًا، يسجلون كل ما فيه من خير ونصر، ويصدون عنه كل شر وضر، يخدمونه لسانيًّا كم يحفظونه سنانيًّا. يقول شاعرنا محمد التهامي(1920-2015م):

لا المالُ في هذه الدنيا ولا الولدُ       بمُسعدِ الفردِ إن لم تسعدِ البلدُ

وكيف أسعد في نُعمى تُدَلِّلني         وذي بلادي على الأهوال تُضطهدُ

فالعيشُ إن جاءني صفوًا ليُسعدَني     من دون شعبي ففيه المُرُّ والنكَدُ(<!--)

ونعيش هنا مع نماذج من الشعر الوطني لأكبر الشعراء المحافظين في مصرنا، أمير الشعراء شوقي، يقول الأستاذ أنطون الجميل(1887-1948م): "أما وتر الوطن فلم يكن شوقي أقل براعة وحذقًا في النقر عليه، فوطنيات شوقي خليقة بأن تُجمَع وتُدرَّس في المدارس لتنشئة الطلبة على حب الوطن؛ فهو يقدس الوطن ويتكلم عن العاطفة الوطنية كعقيدة دينية، أليس حب الوطن من الإيمان؟!(<!--)". وأكبر دليل إبداعي على ذلك الوتر في شعر أمير الشعراء مطولته التاريخية الهمزية، التي أبدعها في عام 1896م، حيث وقف- ممثِّلاً الحكومة المصرية، وكان عمره خمسة وعشرين عامًا- في مدينة جنيف بسويسرا يلقى كلمة مصر في المؤتمر الشرقي الدولى. وكان خطابه قصيدة طويلة تتكون من 289 بيتًا من الشعر، ذكر فيها أطرافًا من تاريخ مصر القديم والحديث، والتي وصفها الدكتور محمد حسين هيكل بقوله:" هي رواية من الروايات الخالدة لتاريخ مصر، منذ الفراعنة إلى عهد أبناء محمد علي، وقف فيها الشاعر وقفة مصري صادق العاطفة تفيض عليه ربة الشعر تاريخ بلاده منذ عرفها التاريخ، أي منذ عرف التاريخ شيئًا اسمه التاريخ، وأنت تراه في هذا التاريخ ممتلئ النفس فخرصا بمجد مصر حين يرتفع بها المجد إلى عليا ذراه، آسفًا حزينا حين تمر بمصر فترة ظلم وذلة، مستفزا للهمم حافزًا لعزائم أهل جيله والأجيال التي بعده كي يعيدوا مجد الماضي وعظمته، وتراه في انتقاله من الفخر إلى الأسف إلى الاستفزاز يسير مع الحوادث متدفقًا مندفعًا فوق موج الماضي، آتيًا من لا نهايات القدم، كأنما هو قيثارة آلهة ذلك الزمان البعيد، يدفع إليها كل جيل نسائمه، فتتغنى وتشدو بأهازيج النصر تارة، وبترانيم المسرة تارة، وبشجو الألم أحيانًا... وأنت إذ تقرأ قصائده: على سفح الأهرام، وأبو الهول، وتوت عنخ آمون، يهزك الشعور بصورة هذا الماضي في قداستها ومهابتها، وتمتلكك نفس الشاعر فترتفع بك من مستوى الحياة الدنيا إلى سماوات الخلد؛ ذلك بأن شوقي يهديك المعنى الذي كانت تلتمسه نفسك فلا تقع عليه ويرسم أمامك -بوضوح وقوة وسمو خيال ونبل عاطفة-كل ما ينبض به قلبك ويهتز له فؤادك (<!--)" ومطلعها: 

همَّت الفلكُ واحتواها الماءُ    وحَدَاها بمَنْ تُقِلُّ الرجاءُ(<!--)

استعرض فيها تاريخ مصر الحضاري منذ بداية التاريخ حتى عهده، استعراض المؤرخ الشاعر الفقيه المعجب المخلص...وهو مؤمن بفضل الوطن ونعمه عليه، يقول:

وللأوطانِ في دمِ كلِّ حُرٍّ       يدٌ سلَفتْ ودَيْنٌ مُستحقُّ(<!--)

وقد بالغ في تصوير قيمة الوطن ومكانته قائلاً:

وطني لوشغلت بالخُلْد عنه    نازعتني إليه في الخلْدِ نفْسي(<!--)

وأشد منه قوله يخاطب أبناء مصر مغاليًا في بيان مكانة مصرنا:
وَجهُ الكِنانَةِ لَيسَ يُغضِبُ رَبَّكُم          أَن تَجعَلوهُ كَوَجهِهِ مَعبودا
وَلُّوا إِلَيهِ في الدروسِ وُجوهَكُمْ            وَإِذا فَرَغتُمُ فَاعبُدوهُ هُجودا(<!--)

ويكاد يتغزل في وطنه في كل غرض ومضمون في إحدى خمرياته يقول:

وطني أسفت عليك في عيد الملا    وبكيت عليك من أسف ومن إشفاق

لا عــيـــد لــي حــتــى أراك بـأمــة        شـــمَّـــاء راويــــة مــــن الأخــلاق(<!--)

وتظل مصر معشوقة شوقي في غربته ومنفاه، يقول:

وسلا مصرَ هل سلا القلبُ عنها      أَو أَسا جُرحَه الزمان المؤسّي ؟

كلما مرّت الليالي عليه               رقَّ ، والعهدُ في الليالي تُقَسِّي

مُستَطارٌ إذا البواخِرُ رنَّتْ            أَولَ الليلِ ، أَو عَوَتْ بعد جَرْس (<!--)

ويصور عاطفته نحوه بعد غربة وبعد عودة قائلا:

أيا وَطَني لَقَيتُكَ بَعدَ يَأس     كَأَنّي قَد لَقيتُ بِكَ الشَبابا

وَكُلُّ مُسافِرٍ سَيَئوبُ يَوما     إِذا رُزِقَ السَلامَةَ وَالإِيابا

وَلَو أَنّي دُعيتُ لَكُنتَ ديني    عَلَيه أُقابِلُ الحَتمَ المُجابا

أُديرُ إِلَيكَ قَبلَ البَيتِ وَجهي    إِذا فُهتُ الشَهادَةَ وَالمَتابا(<!--)

والتضحية فعل واجب تجاه الأوطان، يقول:

وَلِلأَوطانِ في دَمِ كُلِّ حُــرٍّ    يــَدٌ سَـلَــفَت وَدَيــنٌ مُسـتـَحِقُّ

وَمَن يَسقى وَيَشرَبُ بِالمَنايا     إِذا الأَحرارُ لَم يُسقوا وَيَسقوا

وَلا يَبني المَمالِكَ كَالضَحايا     وَلا يُدني الحُقوقَ وَلا يُحِقُّ

فَفي القَتلى لِأَجيالٍ حَــياةٌ      وَفي الأَسرى فِدًى لَهُمُ وَعِتقُ

وَلـــِلــحُـــرِّيَّــةِ الحَــمــراءِ بابٌ      بــِكُـــلِّ يَــدٍ مُــضـــَرَّجَــةٍ يُدَقُّ(<!--)

ومصرنا جميلة روحانيًّا، يقول مخاطبا إياها:

لكِ كالمعابد روعة قدسية          وعليك روحانية العبادِ

أسست من أحلامهم بقواعد       ورفعت من أخلاقهم بعماد

ومصر منبع النبوغ، يقول:

وخذ النبوغ عن الكنانة، إنها     مهد الشموس ومسقط الآراد(<!--)

أما عن المواطنة بين أبناء مصرنا فمعروفة منذ الأزل بأنها نسيج واحد متماسك، لا ينال منه عدو كائد، ولا يُشوِّهُه متربِّص حاقد، نسيج واحد عرقيًّا وعقائديًّا وسياسيًّا ولغويًّا؛ فـ"طبيعة المصريين جبلت على السلام والتسامح وحسن العشرة والمجاملة والذوق منذ استقر سكانها على ضفاف النيل، وبرعوا في الزراعة والصناعة والحضارة(<!--)" يحيا في أمن وأمان وسِلْم وسلام، وتعاون واتحاد، وتعمير واجتهاد، يحترم كل منا عقيدة الآخر، وثقافة الآخر، وميول الآخر، كل حر فيما يعتقد، ويفكر، ويبدع، ما دام في إطار الخير والحق والجمال. عبَّر عن ذلك أمير الشعراء قائلاً:

أعهدتَنا والقبطَ إلا أمةٌ          للأرضِ واحدةٌ ترومُ مراما
نُعلي تعاليمَ المسيحِ لأجلِهم     ويُوقِّرون لأجلِنا الإسلاما
الدينُ للديَّان جلَّ جلالُه         لو شاءُ ربُّك وحَّد الأقواما
يا قومُ بانَ الرشدُ فاطوُوا ما جرى    وخُذوا الحقيقةَ وانبِذوا الأوهاما

هذي رُبوعكمُ وتلك ربوعُنا       مُتقابلين نُعالج الأياما
هذي قبوركمُ وتلك قبورُنا        مُتجاورين جماجمًا وعظاما
فبحرمة الموتى وواجبِ حقِّهم    عيشوا -كما يقضي الجوار- كراما(<!--)

فـ(شوقي) هنا يعلن الوحدة الوطنية بين فرعي الأمة المصرية، ويقرر أنها قدر إلهي وإرادة ربانية، وذلك بتوقير كلٍّ منهما لدين الآخر وعقيدته، وبحسن التجاور الدنيوي المتمثل في الربوع والمساكن، والتجاور الأخروي  المتمثل في المدافن والمقابر، وهذا ينتج عيشة كريمة أنجزها الأجداد والآباء الراحلون ويحرص عليها الأحياء منا.

ولما وصل إلى دخول الديانة المسيحية مصر بعد 169 بيتًا من هذه القصيدة العصماء، قال، يفي سيدنا المسيح -عليه السلام- حقه يوم مولده قائلا:

ولد الرفق يوم مولد عيسى     والمروءات والهدى والحياءُ

وازدهى الكونُ بالوليدِ وضاءتْ     بسناهُ من الثَّرى الأرجاءُ

وسرَتْ آيةُ المسيحِ كما يَســــ         ــري من الفجرِ في الوجود الضياءُ

تملأُ الأرضَ والعوالمَ نورًا        فالثرى مائجٌ بها وَضَّاءُ

لا وعيدٌ، لا صولةَ، لا انتقامٌ     لا حسامٌ، لا غزوةٌ، لا دماءُ

ملَكٌ جاور الترابَ فلمَّا    ملَّ نابتْ عن الترابِ السماءُ

وأطاعتْه في الإلهِ شيوخٌ        خُشَّعٌ، خُضَّعٌ له، ضُعَفاءُ(<!--)

فـ(شوقي) يقرر سماحة رسالة سيدنا عيسى، وأنها قائمة على المحبة والنور، لا عنف فيها ولا إكراه ولا قسوة ولا إقصاء. وهو ينطلق من الحقيقة الإلهية السامية:

إنما الأرض والفضاء لربي     وملوك الحقيقة الأنبياء

لهمُ الحبُّ خالصًا من رعايا     هم، وكلُّ الهوى لهم والولاءُ

إنما ينكرُ الدياناتِ قومٌ        هم بما ينكرونَه أشقياءُ(<!--)

وبقرر شوقي هذه الوحدة برؤية طريفة قائلا:

يا بني مصر لم أقلْ أمةَ القِبــْ     ــــــــــطِ فهذا تشبُّثٌ بمُحالِ

واحتيالٌ على خيالٍ من المجــــ      ــــــــدِ ودعوى من العِراضِ الطِّوالِ

إنما نحنُ: مسلمينَ وقبطاً         أمةٌ وُحِّدتْ على الأجيالِ

سبقَ النيلُ بالأبوِّة فينا             فهْو أصلٌ وآدمُ الجدُّ تالي
نحنُ من طينِه الكريمِ على اللـــ     ــــه، ومن مائِه القُراحِ الزُّلالِ
مرَّ ما مرَّ من قرونٍ علينا       رُسَّفًا في القيودِ والأغلالِ

وانقضى الدهرُ بين زغردة العُرْ    سِ وحَثْوِ الترابِ والإعوالِ
ما تحلَّى بكم يسوعُ وكُنْــ          ــــنَّا لطه ودينِه بجَمالِ(<!--)

فالنيل أصل مصر والمصريين، فطينه أساس أجسادهم وماؤه سبب حياتهم، ومن ثم صدقت مقولة عالم التاريخ اليوناني هيرودوت :"مصر هبة النيل"؛ ومن ثم وجب على شباب الوطن أن يكون إيجابيًّا:

يا شبابَ الديارِ مصرُ إليكم         و لـواء العــريــن للأشــبالِ
هيِّئُوها لِمَا يَلِيقُ بمنْفٍ               و كريمِ الآثــارِ والأطــلالِ

وانهضوا نهضة الشعوب لدنيا      و حــيــاةٍ كـبـيـرةِ الأشغالِ
وإلى اللهِ مَنْ مشَى بصليبٍ           في يَدَيه، ومَنْ مشَى بهِلالِ(<!--)

ثم يقول محذرًا من الفتنة الطائفية، ومشيرًا إلى الغلا ة الإرهابيين وشخصيتهم الأحادية:

لا تجعلوا الدينَ بابَ الشرِّ بينكمُ      ولا مـحــلَّ مـبـاهــاةٍ وإذلالِ
مـا الديـنُ إلا تــراثُ النـاسِ قـبـلـكمُ     كــلُّ امــرئٍ لأبــيـه تـابعٌ تـالي
ليس الغلُوُّ أمينًا في مشورتِه       مناهجُ الرُّشدِ قد تخفَى على الغالي
لا تـطـلـبـوا حـقَّــكمْ بـغـيًا ولا صلَفًا        ما أبعدَ الحقَّ عن باغٍ ومختالِ(<!--)

... وهكذا يأخذ (شوقي) في تسجيل مفاخر مصر التاريخية والبشرية والطبيعية في كل روائعه، مفخرة بعد مفخرة، وإنجازًا بعد إنجاز، فرِحًا مُفرحًا، ويعيش مع أحزانه وآلامه باكيًا مبكيًا، ويعدد سلبياته كناقد موضوعي، ويعالجها كطبيب نفسي... وهذا كان –وما زال-ديدن كثير من شعرائنا المثقفين المخلصين لوطنهم مكانًا وإنسانًا وزمانًا.

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

(<!--)راجع معجم مقاييس اللغة 1/382، تح الأستاذ عبدالسلام هارون، طبع دار الفكر سنة 1979م.

(<!--)راجع في ذلك: "لسان العرب"، لابن منظور، دار صادر - بيروت، 1388 هـ/ 1968م، مادة (ثقف)، ومعجم مقاييس اللغة 1/382.

(<!--)راجع في ذلك: المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية - القاهرة، 1979م، مادة (ثقف)..

(<!--)راجع في ذلك:

1- "المثقفون في الحضارة العربية"، لمحمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، 1995م.

2- "تهميش المثقفين ومسألة بناء النخبة القيادية"، لبرهان غليون، مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت، 1995م.

3- "المثقف العربي والنضال القومي"، لناجي علوش، المجلس القومي للثقافة العربية - الرباط، 1985م.

4-راجع مقال من هو المثقف للأستاذ إبراهيم الشافعي، منشور على الرابط :https://www.alukah.net/fatawa_counsels/0/13999/#ixzz636NGRMnA

(<!--) مقاييس اللغة 2/583.

<!--(<!--) راجع الرابط: https://mawdoo3.com.

(<!--)Mentré François: Les générations sociales, ,Paris, 1920.

(<!--)راجع مقال: مفهوم الجيل الأدبي ودلالاته،: (محمد إسماعيل زاهر) تاريخ النشر: 11/09/2010م http://www.alkhaleej.ae/alkhaleej/page

(<!--)الشوقيات من قصيدة (تمثال نهضة مصر) ص500، تدقيق محمد فوزي حمزة مكتبة الآداب سنة 2012م.

(<!--)أغنيات لعشاق الوطن، من قصيدة (صيحة في وجه الاستعمار) ص6، نظمها سنة 1947م، طبع الهيئة  العامة للكتاب سنة 1987م.

 (<!--)شوقي للأستاذ أنطون الجميل ص36، طبع مؤسسة هنداوي سنة 2014م..

(<!--) من مقدمة الشوقيات ص 25، وقد صدرت هذه المقدمة عام 1926م.

(<!--)الشوقيات ص 57-69.

 (<!--)من قصيدة (نكبة دمشق) سنة 1926م ص448.

 (<!--)من قصيدته (الرحلة إلى الأندلس) في منفاه بالأندلس، بعد عزل الخديوي عباس حلمي الثاني، ص384.

(<!--) من قصيدة سنة 1924م، عندما أطلقت وزارة سعد زغلول سجناء حبسهم الإنجليز في محاكمة ظالمة، واحتفل بإطلاقهم شباب الأمة، الشوقيات ص229.

(<!--) الشوقيات ص458.

(<!--) الشوقيات ص 384، قالها في منفاه بالأندلس بعد عزل الخديوي عباس حلمي الثاني.

(<!--) الشوقيات ص106-107. وكانت هذه البائية فاتحة شعره بعد عودته من المنفى، أنشدت بدار الأوبرا سنة 1920م.

(<!--)الشوقيات ص 448، من قصيدة (نكبة دمشق) التي ألقيت في يناير سنة 1926م، بحديقة الأزبكية في حفل لمساعدة منكوبي سوريا

(<!--)الشوقيات ص 262، من قصيدة (على سفح الأهرام) التي ألقيت تحية للأديب السوري أمين الريحاني سنة 1922م.

(<!--) راجع مقال: (التسامح واحترام الآخر في شعر أحمد شوقي)، بقلم: صبري أبوعلم، منشور على الرابط: https://middle-east-online.com الاثنين:23/6/ 2008م.

(<!--)الشوقيات ص 551، من قصيدة (بطرس غالي باشا) التي قالها شوقي سنة 1911م، في الذكرى السنوية لاغتياله.

(<!--)الشوقيات ص64.

(<!--)الشوقيات ص65.

(<!--)الشوقيات ص529، من قصيدة(يا شباب الديار)، في تكريم واصف غالي باشا سنة 1906م.

file:///D:/%D8%A8%D8%AD%D8%AB%20%D8%AF%D9%88%D8%

0 تصويتات / 302 مشاهدة
نشرت فى 2 نوفمبر 2019 بواسطة sabryfatma

الأستاذ الدكتور صبري فوزي عبدالله أبوحسين

sabryfatma
موقع لنشر بحوثي ومقالاتي وخواطري، وتوجيه الباحثين في بحوثهم في حدود الطاقة والمتاح. والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

324,383