الإنسان في حقيقته
الإنسان في حقيقته زمن والله هو خالق الزمن
وعمر الإنسان سهم بدأ وانطلق ، وحياته هي مدة انطلاق هذا السهم
والحياة الدنيا هي المرحلة الإعدادية للحياة الآخرة فهي دار ممر إلى دار مقر ويجدر بالعاقل أن يؤمن بأن لهذا الكون من صانع .. فأثر الأقدام يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير والماء يدل على الغدير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج ، ألا تدلان على الخالق الحكيم ..
قال علماء الفيزياء :
إن الزمن في حقيقته هو البعد الحركي الرابع للأشياء، فالجسم المادي له بُعدان سطحيان: طول وعرض، وبُعد حجمي: هو عمق أو ارتفاع .. فإذا تحرك هذا الجسم صار الزمن بعداً رابعاً له، ويضيف علماء الفيزياء أن الجسم إذا تحرك بسرعة الضوء توقف الزمن، وأصبحت كتلته لا نهائية، وإذا تجاوز سرعة الضوء تراجع الزمن، وإذا قصَّر عنها تراخى الزمن، لذا فإن الإنسان عليه أن يتحرك ويسعى ليملأ فراغ حياته فالحياة فراغ هائل إذا لم تملأها بعمل الخير امتلأت بالشرور التي تضمره النفس الأمارة بالسوء
لهذا فإن رسولنا الكريم يقول : - " إن لكم معالم فانتهوا إلى معالمكم، وإن لكم نهاية فانتهوا إلى نهايتكم، وإن المؤمن بين مخافتين، بين أجل قد مضى لا يدري ما الله صانع به وأجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، فليأخذ العبد من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، من شبابه قبل الكبر، ومن حياته قبل الممات فو الذي نفس محمد بيده، ما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار"
وقد قال أحد الحكماء :
ثلاثة أشياء إذا حفظتهم لا تُبالي بما ضيَّعت بعدهم، دينك .. ووقتك .. ومالك .. وفي استثمار الوقت وإنفاقه فيما يعود بالفائدة قالوا : مُجالسة الصالحين تحولك من ستة إلى ستة : من الشك إلى اليقين .. من الرياء إلى الإخلاص .. من الغفلة إلى الذكر .. من الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة .. من الكبر إلى التواضع .. من سوء النية إلى النصيحة.
وقالوا : من جالس الحكماء وقر ومن جالس السفهاء حقر .
فالأحمق الخاسر مَن ضاع عمره في عِلم لم يعمل به، ففاته لذات الدنيا وخيرات الآخرة ومن صدقة العلم العطاء والبذل وتعليمه للناس فخذ ما استطعت من الدنيا وأهليها، لكن تعلّم قليلاً كيف تعطيها .. إن كانت النفس لا تبدى محاسنها في اليسر صار غناها من مخازيها.
ومن ليس يسخو بما تسخو الحياة به فإن أحمق بالحرص ينتحر..
إن الخالق سبحان لم يقذف بنا إلى الدنيا لنعاني فيها .. بل إن كل ذرة في الكون تشير بإصبعها إلى رحمة الرحيم .. حتى الألم لم يخلقه الله لنا عبثاً وإنما هو مؤشر وبوصلة تشير إلى مكان الداء وتلفت النظر إليه فلا تنفق لحظة من حياتك في ظلم إنسان أو حيوان أو حتى طائر ، فمن يظلم يُظلم ولو بعد حين ومن قهر من لا يستطيع رد ظلمه عليه - جرّعته الحياة نفس القهر الذي جرّعه لغيره وربما أشد منه ،
ومن يظلم الخلان أو ينس حقهم تجئه فنون الحادثات بأظلم ..
والحياة كما يقولون ديون قد يتأخر سدادها بعض الوقت لكنها دائماً واجبة السداد في الدنيا وفي الآخرة
وشاءت حكمة الله أن يجعل لهذه الحياة العليا الأبدية حياة ( دنيا ) إعدادية، وخلق الإنسان فيها ليزكي نفسه ويطهرها، ولتكون هذه التزكية ثمناً للجنة، لهذا منح الله الإنسان مقومات هذه التزكية ؛ فجعل له كوناً مسخراً تسخير تعريف وتكريم، وعقلاً هو أداة المعرفة ومناط التكليف، وفطرةً تكشف للإنسان خطأه وانحرافه، وشهوةً يرقى الإنسان بها صابراً وشاكراً وحرية اختيار تحسن العمل وتقي الزلل، وقوةً فيما يبدو تحقق الاختيار، ومنهجاً يصحح المسار، كل هذا على مسرح مكاني هو الأرض، وفي ظرف زماني هو العمر، فالعمر رأسمال الإنسان في حياته الدنيا، إذا أنفقه الإنسان في تزكية نفسه كان ثمناً لجنة ربه، قال تعالى
﴿ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ(15)آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ(16)كَانُوا قَلِيلًا مِنْ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ(17)وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ(18)وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ﴾
( سورة الذاريات: 15 )
وقال تعالى : -
﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِي(19)إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِي(20)فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ(21)فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ(22)قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ(23)كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ ﴾
إن الزمن الذي هو عمر الإنسان وهو رأس ماله الوحيد، وهو وعاء عمله الصالح والذي جعله الله
ثمناً للجنة .
هو بضعة أيام ، كلما انقضى يوم انقضى بضع منه، أو لأنه أثمن ما يملكه الإنسان وهو رأس ماله
لذا فإن الخسارة الحقيقية أن يخسر الإنسان رأس ماله .. ألم نقل: إن الإنسان زمن، أو إن أثمن ما يملكه هو الزمن، أو إن رأس ماله هو الزمن، وهل الخسارة الحقيقية في التجارة ؟ كلا .. الخسارة أن يخسر الإنسان رأس مال ..
والزمن يعني الحركة نحو هدف ثابت، وهو الموت، أليست هذه الحركة التي هي ما مضي من الزمن يستهلكه الإنسان دون فائدة هي الخسارة الحقيقية ..
خسارة الإنسان تعني أن الزمن يستهلكه ويقربه من أجله فإذا بلغ أجله، ووصل العد التنازلي إلى الصفر، انتهى الإنسان واستهلكه الزمن، وأصبح خبراً بعد أن كان مخبراً، قال الشاعر عن : -
الموت ..
ما في الحياة بقاء ... ما في الحياة ثبوت
نبني البيوت وحتما ... تنهار تلك البيوت
كل البرايا ستفنى ... وسبحان من لا يموت .
خسارة الإنسان أن ينفق عمره الذي هو رأسماله الوحيد إنفاقاً استهلاكياً في غير ما خلق له
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال في خطبته
(( أيها الناس، لا خير في العيش إلا لعالم ناطق، أو مستمع واعٍ، أيها الناس، إنكم في زمن هدنة، وإن السير بكم لسريع، وقد رأيتم الليل والنهار يُبليان كل جديد، ويُقربان كل بعيد، ويأتيان بكل موعود، فقال له المقداد: يا رسول الله، وما الهدنة ؟ قال: (( دار بلاء وانقطاع، فإذا التبست عليكم الأمور، كقطع الليل المظلم فعليكم بالقرآن، فإنه شافع مشفَّع، وشاهد مصدق، فمـن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار، وهو أوضح دليل إلى خير سبيل، من قال به صدق، ومن عمل به أُجر، ومن حكم به عدل ))
أما إذا أنفق الإنسان الوقت فيما خُلق له من معرفة لله، والتزام بمنهجه، ودعوة إليه، وصبر على كل ذلك فقد تجنب الخسارة، بل حقق ربحاً مجزياً، قال تعالى : -
﴿ وَالْعَصْرِ(1)إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ(2)إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾
العمر يجري فهو يمر مرَّ السحاب، ويجري جري الرياح، سواء أكان زمن مسرةٍ أو فرح، أم كان زمن اكتئاب وترح، وإن كانت أيام السرور تمرُّ أسرع، وأيام الهموم تسير أبطأ، لا في الحقيقة، ولكن في شعور صاحبها، ومهما طال عمر الإنسان، فهو قصير، مادام الموت نهاية كل حي ..
وعند الموت تنكمش الأعوام والعقود، حتى تصبح لحظات كالبرق الخاطف أو كأنها حلم ثم انقضى، قال تعالى
﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾
و قال تعالى : ( قال كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم )
ومن خصائص : الوقت أن ما مضى منه لا يعود ولا يُعوض، ولا يباع ولا يشترى ولا يدخر ويقرض ولا يبدل ولا يستبدل ولا يعار ولا يستعار .. قال الحسن البصري: " ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا بن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة "
ولما كان الوقت سريع الانقضاء وكان ما مضى منه لا يرجع ولا يعوض كان الوقت أنفس وأثمن ما يملك الإنسان، وترجع قيمة الوقت إلى أنه وعاء لكل عمل، فهو رأسمال الإنسان الحقيقي، إنه الحياة من ساعة الميلاد إلى ساعة الوفاة، قال الحسن البصري: " يا ابن آدم إنما أنت أيام مجموعة، كلما ذهب يوم ذهب بعضك " .
الحقيقة أنه ليس عمر الإنسان الحقيقي هو تلك السنوات التي يعيشها الإنسان من يوم ولادته إلى يوم وفاته، إن عمره الزمني الذي يقاس بالسنوات هو أتفه أعماره، إنما عمره الحقيقي هو ما قدمه من إنجازات و حجم الأعمال الصالحة الخالصة لله عز وجل.
عمر الإنسان لا يقاس بالسنوات وإنما يقاس بالإنجازات ..
بقلم الكاتب
معلم خبير