المركز الرابع عشر مكرر غسان محمد ... العراق عن قصته للضرورة أحكام
للضرورة أحكام
مثلما ساقته قدماه صباح كل يوم وخو ذاهب لعمله بأحد المطاعم ، ساقته مرؤته ليتصدق على متسول يتخذ له موقعا دائما بإتجاه طريقه ، وبإنتهاء عمله عصرا يعرج محمود على الشحاذ فيرى حفنة من النقود الورقية قد اعتلت قطعة من القماش المهلهلة أفترشها أمامه ، أخذ يطرح محمود سؤال على نفسه : ترى كم يجمع هذا المتسول يوميا من المال ؟
لم تأتي صيغة سؤاله هذا من باب الحسد وأنما لخلق مقارنة بين حالة المتسول هذا وبين ظرفه ، حيث هو رب أسرة ﻷربعة أطفال وزوجته ، فﻻ تكاد أجرته اﻷسبوعية تكفي لمعيشة عائلته ، إﻻ أن هناك قاسما مشتركا بات يجمعهما هو عدد ساعات عملهما .
أهتزت أركان غضبه حين أبلغه صاحب المطعم بإستغناءه عن خدماته ، طاردته لحظة سماعه لهذا الخبر المشؤوم أسئلة شبحية مع نفسه : كيف سأعيل عائلتي وأنا عاطل عن العمل ؟ ومن أين لى بدفع إيجار سكناى ؟ وماذا عساى فاعﻻ أذ لم أحصل على عمل ما ﻷشهر قادمة ؟
يعود لداره بعد أن صفعته الخيبة وهو يحمل فوق رأسه هموم معيشة أطفاله ، ورغم محنته هذه ظل متمسكا بقناعته برحمة الله الواسعة ، لم يستكن من يومها ليتقاعس بمنزله مندبا حظه بل هم يبحث عن عمل جديد له .
لم يخل مرور محمود الصباحي أثناء بحثه عن العمل من رؤية ذاك الشحاذ ، ليتذكر كيف كان يمنحه صدقة صباح مل يوم وهو يذهب لعمله ، أما اليوم فهو صار أحوج لتلك الصدقة ، وبلحظة خاطفة وهو يتحسس بنظره لتلك النقود التي تعترش قطعة قماشه البالية ، يداهمه سؤال عشوائي : هل يحق لى أسترجاع تلك النقود التي تصدقت بها لهذا المسكين ؟ أو على أقل حال يسلفني إياها كقرضة حسنة ؟
أمتلك محمود علم اليقين بأن سؤاله هذا ليس له وجود سوى في عالم جدلي ﻻ صحة له في المنطق ، سوى في نظريته اﻹفتراظية ، فراح يطلق بعدها قهقهة فاترة ساخرة في سره .
تتكرر خيبته بالحصول على عمل له ، ومع عودته لمنزله كل مرة تبدأ زوجته بتحريك عناكب شجارها معه ، لتنشر خيوطها بإرجاء منزلهما لتمتد حول سريرهما ، دامت تفعل كل ذلك من أجل حصانة أطفالها من الجوع والعوز ، فذلك من حقها المشروع مثلما هو له نصيب من ذلك الحق ، حيث هو لم يكن جليس داره يوما ، بل لم يتهاون في مسعاه بالبحث عن العمل .
في اليوم الثالث من ذلك اﻹستغناء عن عمله ، تفاقمت عزيمته في إيجاد عمﻻ له أذ هو أوصى أغلب أصدقاءه ليبحثوا له عن عمل يناسبه ، لكن حزه وبكل مرة يقف له بالمرصاد ، ومنذ يومها لم يود العودة لداره كى ﻻ يشاهد تلك العناكب وهي تحيك خيوطها حول سرير الزوجية ، كذلك سيؤلمه مشهد أطفاله وهم يتناولون بعض من طعام زوج شقيقته الذي تبنى إطعام أطفال محمود طيلة فترة بطالة أبيهم عن العمل ، فلم يعد محمود يطيق النوم ليﻻ على سريره ليحتظن ظله بدل جسد زوجته اﻷبيض الطري ، فكر جليا بإيجاد حل أنسب له ولو بصفة غير دائمية ، فذلك أرحم من توغله في مغارة زوجته الشجارية ، وبينما هو شارد في عصارة تفكيره المشوش تستوقفه فكرة سائغة التصرف بها ، لتدخل جعبة حلوله التي أنصبت في أخراجه من مأزقه هذا : هل ستضطر لإستﻻف بعض المال من اﻷصدقاء لتحل أزمة بطالتك ولو لبعض الوقت ، كى تغلق على زوجتك باب مغارتها ؟
رغب بأن يكون سؤال عقله له يحتوى الترك في اﻹجابة عليه ، حتى ﻻ يتقوقع في دائرة اﻹحراج حيث ﻻ أحد سيسلفه ذلك المال خصوصا بهذا الزمن ، كما وانه لن يدع هيبته تسقط من على سلم كرامته إذا فكر بدخول رواق السرقة ولو من أضيق أبوابه ، هنا تحرك ناقوس ضميره ليعزف له لحنه النقي ، لينشدها فمه بحرقة اﻷلم : كﻻ .. كﻻ .. لن أفعلها فالموت عندي أهون من أن أسرق .. ماذا أفعل إذا يا إلهي ؟
أقتربت قدماه أكثر من مرآب الشحاذ ليتمعن كمية المال المتربع على قطعة قماشه التي يتفاءل بها دائما ، ليجده وفيرا يسال له اللعاب ، خصوصا والحصول عليه ﻻ يحتاج لمشقة تذكر .
هنا قرر محمود أن ينفذ ما جال بخاطره مؤخرا من فكرة سخيفة ومعيبة ، رغم عدم إقتناعه بها أصﻻ ، إﻻ أنه وجدها أرحم من بقاء أطفاله جياع ، كما وأرحم من بقاء باب مغارة زوجته مشرعا ، كذلك هو أرحم من نومه ليﻻ برفقة ظله .
في الصباح الباكر التالي شاهد المتسول رجﻻ وقد أفترش اﻷرض قبالته مرتديا مﻻبس رثة واضعا على عينيه نظارات سوداء ماسكا عكازه ، وتقبع أمامه شبيهة قطعة قماشه المتهرئة .