ربى الدرع

إعادة احتساب المسار

أبدى أحد أقاربي الذي يسكن في نخلة جميرا الواقعة في عرض الخليج العربي إعجابه بقطتي الجميلة، ورغبته الشديدة في اقتنائها وتوفير سبل العناية كافة بها، فأعطيته إياها باطمئنان، ولكن وبعد شهر واحد من «الرفاهية» أخبرني أنها هجرت بيت الإطلالة البحرية خلسة ولم يستطع العثور عليها بأي شكل، وبعد خمسة أشهر وبعد أن احتسبناها عند الله غرقاً أو توهاً أو بحثاً عن صاحب أكثر ثراءً، طرقت القطة «الفقرية» باب منزلي في الشارقة في لحظة لقاء لا نراها سوى بالمسلسلات المكسيكية، فكانت مفاجأة عظيمة لي بأنها قطعت كل تلك المسافة براً وبحراً وبلا دليل لتعود إليّ، أما المفاجأة الكبرى فهي أنها جاءت لتلد أولادها الخمسة عندي باعتبار أن منزلي هو مسقط رأسها هي أيضاً.
وكم سمعت عن قصص مشابهة لحيوانات جابت آلاف الكيلومترات لتهتدي إلى منازلها بلا مساعدة، ولو طلبتها للزمها منظومة معقدة من ثلاثة أقمار صناعية تدور حول الأرض، وأنظمة استقبال معلومات تستطيع تحديد الموقع بدقة في الأبعاد الثلاثة، والمعروفة بالـ GBS، فبهذه التقنية تعمل الأقمار الثلاثة لتحديد موقعها وإرشادها إلى حيث تريد أن تذهب، وذلك باعتمادها على تقاطعات أسطح تلك الأقمار الصناعية الكروية الثلاثة مع سطح الكرة الأرضية وتحديد الموقع بدقة متناهية.
ورغم أن إدراك القطة يعلم علم اليقين أن «أهل مكة أدرى بشعابها»، تلك التي لا تدري عنها هي شيئاً، إلا أنها أقدمت على رحلة العودة الخطرة تلك بلا تردد، ففي تركيبتها جهاز ملاحة خاص بها Navigation، وهو حبل سري ربط يوماً أماً بجنينها وإن قُطع عند الولادة لكي يعيش الطفل، لكنه بقي وصلاً لا مرئياً بأم الحياة، يشد حنينه بلا حبل، وتشير بوصلته إلى حيث شهقت رئتاه الشهقة الأولى، فإذا تعددت مسارات حياته وتشعبت، تحتسب بوصلة القلب المسار مجدداً بلا كلل أو ملل بصوتها الواثق حتى في أصعب لحظات الضياع إرباكاً وتشويشاً، في حلكة طرق الحياة الوعرة أو حتى المسدودة، فتشير إلى حيث يكمن سر هذه الجاذبية الغامضة، والتي تلتصق «أبداً بأول منزل» حسب بيت الشَّعر الذي نصبه أبو تمام في عرض الصحراء ثم عاد إليه بحنين نبضة الحب الأولى