نسمات مديحة حسن

شعر / خواطر / قصة قصيرة / وطنيات

 

يبدو أنه لا يروق للبعض أن يتحدث في قضية تجديد الخطاب الديني لا تصريحاً ولا تلميحاً باعتبار أنها تمثل خروجاً علي الدين ، إن لم يكن من باب الكفر والزندقة ، فلا أقل من باب التفلت من الدين ، والتخفف من أعباءه وتكاليفه علي نحو أو آخر . كما لا يحلو للبعض الخوض في غمارها دفعاً للباب الذي تأتي منه الريح ، فيتم إغلاقه كي يستريح ، لأنه يعفي نفسه من مؤونة المواجهة والصدام مع القائل بوجوب تجديد الخطاب الديني ، والقائل بعدم وجوبه أو لزومه . ولا يرغب البعض في الولوج فيه ـ بالقبول أو الرفض ـ درءاً للفتنة المحتملة بين الفرقاء .
والأغلبية من الناس لا يشغلها ما يعتقده كل بعض من هذه الأبعاض ، ويمارس الدين علي نحو مبسط ، كما وصله علي ألسنة الخطباء والوعاظ . ويعتقد أن الدين قد جاءه علي نحو ما جاء غيره ، دون سفسطة أو فذلكة ، ودون تعقيدات فقهية أو عقائدية . وقد جاء الدين للعوام كما جاء للمتخصصين الخواص ، وجاء للشخص الأمي كما جاء للفيلسوف الألمعي . وليس هناك دين مخصوص لكل فئة .
وتجديد الخطاب الديني من الأمور القديمة قدم الدين ، وإلا لما كان هناك علوماً للدين من الأصل ، وقد كان باب الإجتهاد مفتوحاً علي مصراعيه ، فظهرت علوم العقائد ، وعلوم الفقه ، وعلوم الحديث ، وعلوم القرآن ، إلي آخر قائمة علوم الدين . وظل الأمر هكذا حتي أغلق باب الإجتهاد ، فتجمدت العلوم وتوقفت عند الهوامش والشروح ، وهوامش الهوامش وشروحها ، وشرح شروح هوامش الهوامش .
ويعد من نافلة القول الذهاب إلي تأكيد المؤكد من أن لا محل للقول بتجديد القرآن أو الثابت من السنة النبوية الصحيحة ، فالقرآن محفوظ بحفظ الله له إلي أن تقوم الساعة ، وكذا السنة الصحيحة سنداً ومتناً . والتجديد حين يلحق قولاً متعلقاً بهما ، فهو تجديد للفهم عنهما . أي أنه تجديد للأفهام وليس تجديداً للنصوص . وهذا كان مما يلزم توضيحه ابتداءاً ، من باب ما لا يلزم الواجب إلا به فهو واجب .
ولو سئلت عن قناعتي الشخصية بضرورة تجديد الخطاب الديني ، فستكون إجابتي أنه ضرورة وفريضة . ضرورة وفريضة تاريخية ، وضرورة وفريضة واقعية ، وضرورة وفريضة مستقبلية .
فمن حيث كونه ضرورة وفريضة تاريخية ، فذلك لمواكبة الأزمان وتطاولها ، وامتدادها عقوداً وقروناً . فإذا اعتبرنا أن الخطاب الديني في القرن الأول هو الفهم الأول للدين ، كنا أمام أحد احتمالين هنا ، هما : الإحتمال الأول : أن تتجمد أفهام القرون التالية عند هذا الفهم . وبالتالي تتجاوز الأفهام فهم القرن الأول إلي القرون التالية باختلاف ظروفها وأحوالها ، فيمارس الإنسان الدين في جانب ، ويمارس حياته في جانب آخر . وهذا الفصام النكد بين الدين والحياة ليس من مقاصد الشريعة .
الإحتمال الثاني : ألا تتجمد أفهام الدين عند فهم القرن الأول ، وبالتالي يتواكب فهم القرن الأول مع أفهام القرون التالية ، مراعياً الظروف والأحوال الخاصة بكل قرن . وبذلك لا تلمس أي انفصام ما بين الدين وسلوك الإتسان ، إذ أن ممارسة الدين في الحياة ، وممارسة الحياة في الدين ممارسة آلية آنية بلا تكلف ، ولا افتعال ، ولا مشقة . وذلك يتوافق مع مصادر الشريعة . ولو جري إعمال هذا الإحتمال لما كان للجماعات الدينية أي إحتمال للوجود ، إذ أن تجديد الخطاب الديني متواتر ، بما لا يحتاج الإنسان معه إلي متطفلين علي علوم الدين ، كي ينقلون له أفهامهم السقيمة باعتبارها هي الدين .
أما من حيث كون تجديد الخطاب الديني ضرورة واقعية ، فذلك حتي نستدرك ما فاتنا ، وقد فاتنا الكثير . فإذا لم ندرك ذلك ، ونعترف به ، فسيظل فهمنا للدين كما هو ، ويظل البون شاسعاً بين فهمنا للدين وفهمنا للواقع ، ويتسع الفارق إلي حد استغراق وتجمد فريق في القرون الأولي ، وتفلت الفريق الآخر من الدين ، وتحلل الروابط بينهما ، بحيث لا تبقي رابطة قائمة تحفظ علي المرء دينه ، وتحفظ للدين كينونته .
وإذا لم نستدرك ما فاتنا لأطلت الجماعات الإسلامية بقرونها علي رؤوسنا بأفهام شاذة مغلوطة ، منقوصة ومدسوسة ، مهدت السبل لدعاوي التطرف والإرهاب . ولن تنهض المؤسسات الدينية الرسمية في مواجهتها ، لتراخيها وترهلها وضعفها ، لاعتمادها لغة الخطاب الديني النمطية بصورتها التقليدية ، الموجودة في كتب التراث المفتقرة للقراءة المعاصرة ، سواء الموجود منها علي أرفف مكتبات التراث ، أو تلك الموجودة في قاعات الدرس في أيادي الطلاب . وتمثل هذه الجماعات البديل الموضوعي لغياب هذه المؤسسات لملء هذا الفراغ ، والقيام بدورها سواء علي نحو علني ، أو تحت أقبية السراديب علي نحو سري .
وإذا لم نستدرك ما فاتنا لأسلمنا أجيال الأطفال للمجهول من حيث بناء الشخصية وبناء العقل ، وبالتالي بناء المستقبل كله وفقاً للطرح الراهن للتربية والتعليم . فلو بدأ التجديد بالتربية لأسلمنا الطفل لوالدين حالهما كما أسلفنا بشأن الشباب . وإذا أسلمناه للتعليم لاقتصر التجديد علي تغيير غلاف كتاب التربية الإسلامية إلي غلاف القيم والأخلاق ، ولتم ـ كما ذهب البعض ـ بحذف بعض الآيات القرانية والأحاديث النبوية من الكتاب المقرر ، وكأنه لا مصدر للمعرفة الدينية سوي هذا الكتاب . وقد غاب عنهم المعارف التي تبثها الشبكة العنكبوتية ومواقع التواصل الاجتماعي بلا توقف .
وإذا توافرت لنا بحق الإرادة الكاملة لتجديد الخطاب الديني ، لأدركنا أن ذلك لا يمارس من خلال بعض المعالجات الشكلية والجزئية ، وإنما من خلال المواجهة الشاملة ، والتجديد الكامل ، الذي تتواكب فيه الأفهام الدينية مع الأفهام الواقعية بلا مسافة فاصلة سوي مسافة الضابط بالمضبوط .
أما من حيث كون تجديد الخطاب الديني ضرورة وفريضة مستقبلية ، فذلك متعلق بالمستقبليات وعلومها ، حيث يجري العمل فيها بعقليات محكومة بأفهام الدين . وتكون لدينا أجيال تفكر في هذه المستقبليات بعقول مسلمة . ولن تكون هذه المرحلة كائنة إلا إذا سبقتها خطوات في المواجهة الشاملة والتجديد الشامل .
أما عن تغيير الخطاب الديني فلا محل له من الإعراب ، ولا وجود له في الواقع ، ولا سبيل إلي الإلتجاء إليه . لأن التغيير يعني محو تاريخنا القائم واستبداله بآخر ، أي : هدم تاريخنا القائم ، وبناء تاريخ جديد . وبعض التاريخ دين .

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 33 مشاهدة
نشرت فى 7 نوفمبر 2018 بواسطة nsmat

مديحة حسن كاتب وشاعر

nsmat
شعر / خواطر / وطنيات / قصة قصيرة / اخري »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

164,087