جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
لا ادري من اين ابدأ , ولا كيف , وسط اختلاط المشاعر بالذكريات , مشاعر الفرح والفخر والسعادة وراحة الضمير بذكريات الماضي , هل ابدا بالذكريات , ام مشاعر اللحظة التي اعيشها ؛ ساعة دخولها علي تحمل الشهادة في يد وفي اليد الاخرى دفتر مذكرات لأكتب لها كلمة للذكرى بمناسبة التخرج . لكنني اثرت ان ابدا بالذكريات بعد ان توحدوا الله وتصلوا على رسوله , فأقول :
قطعة الهية التكوين ملائكية القسمات تناولتها بين يدي , تأملتها !! كل ما فيها صغير وجميل ؛ رأسها وجهها عيناها انفها فمها , اما قلت لكم ملائكية القسمات , ضممتها الى صدري وقبلتها وخرجنا بها انا وامها من المستشفى الى السيارة منطلقين الى لبيت والفرح يغمرنا , متعجلين الوصول لنزف البشرى لإخوانها , كان ذلك في صيف عام 1996. احببناها كما لو كانت اول العنقود رغم انها اخره , ربما لأننا لم نسمع في بيتنا صراخ وليد منذ خمسة اعوام , تلك السمفونية التي اعشق .
في بداية ربيع ذلك العام اذكر انني حُبسْتُ ثلاثة ايام بلياليها في حبس انفرادي لأجل عينيها , ذلك انني عانيت من فرط نشاط في الغدة الدرقية , فقرر الاطباء حرقها باليود المشع . وحُوِّلت الى وحدة الاشعة , كنت اتخيل ان يتم حرقها بتسليط نوع من الاشعة على مكانها من الرقبة , لكنني حالما وصلت ادخلت حجرة منفردة , ناولني الطبيب كوبا من الماء وقال لي : اشرب , وبعد ان شربت قال : بالشفاء , لكن انتبه فبعد ساعة من الان سيبدأ جسمك بالإشعاع ولمدة ثلاثة ايام , لذلك عليك ان لا تستعمل المواصلات العامة , فهذا الاشعاع خطر على الاجنة في بطون الامهات , ثم قال : هل زوجك حامل ؟ قلت : نعم . قال : عليك الابتعاد والاعتكاف في حجرة خاصة ثلاثة ايام , فالاقتراب لأقل من ثلاثة امتار خطر على الجنين , وقد يؤدي الى تشوهات خَلْقية . وقد كان , فما ان وصلت الى البيت حتى دخلت تلك الزنزانة الانفرادية ثلاثة ايام سويا , يقدم لي الطعام والشراب من وراء حجاب .
وصلنا البيت بالوليدة الجديدة فبدا القوم يختارون لها من الاسماء ما لذ على الاسماع وطاب في الافهام , قلت : لا تتعبوا انفسكم , انا من سيسميها . ايامها كان الناس يتداولون اسم سمو الاميرة ( هيا بنت الحسين ) وفوزها في سباق الخيل , حتى اطلقوا عليها لقب (الفارسة الهاشمية ) قلت : وجدتها سأسميها على اسمها , فان لم تكن فارسة على حصان , فلتكن فارسة في العلم والبيان .
عاشت هيا طفولتها وادعة هادئة لا يكاد يسمع لها صوت , تحب اللعب بألعابها وتجلس ساعات طوال , كان عندنا ايامها سيارة (اوبل ستيشن ) , فكانت اذا ما خرجنا تحب الجلوس في الصندوق طوال الرحلة , تلعب بما توفر امامها من ادوات , وتتابع معالم الطريق . فوفرنا لها فرشة بمخدة وغطاء وبعض الالعاب , فاذا ما ملّت اللعب غطت في نوم عميق .
لم تكن تستسيغ اللعب مع اخوانها وكذلك هم , نظرا لفارق العمر بينها وبينهم , كانت احيانا تطلب منهم ان يشركوها في العابهم فيرفضوا بحجة انها صغيرة ولا تعرف ان تلعب فتخرب اللعبة , فتبكي وتقول : ( تاركينّي مثل البسِّة اللي امها ماتت ), والبسة يعني القطة بلغة اهل الشام . فتاتي الينا انا ووالدتها شاكية باكية , فنصيح عليهم احيانا واحيانا تربت الام على ظهرها وتقول لها لا عليك تعالي نلعب ( هاي العجانة) و(حدارجة بدارجة ) وهما لعبتان من التراث الفلسطيني تعتمدان على عد الاصابع مع الغناء . فاذا ما اكتفت من امها اتت الي لترتحلني , فاردفها على ظهري , وامسك بيديها بين اكتافي واغني ( نيخ يا جملنا نيخ , جملنا محمل بطيخ).
كان عمرها سنتان حين بدأت ترافق اخوتها الى دكان جارنا ابي مسعود , رجل كبير في السن فتح دكانا متواضعة لخدمة اهل الحي والأطفال خاصة , فاعتاد الاطفال على الذهاب الى دكانه لشراء الحلوى والشبسات والعصائر والمثلجات , او بعض ضرورات البيت . عدت يوما من عملي لتروي لي ام العيال اشد نصف ساعة رعبا في حياتها كلها , حيث ان الصغيرة غافلت امها اثناء انشغالها في المطبخ وخرجت , في ذلك الوقت يكون جميع اخوتها اما في المدارس او الجامعات , ولا يبقى في البيت سوى الام والطفلة , فأخذت الام تبحث عنها وتصيح وتُولوِل وتنادي عليها بحركات جنونية , بعد ان تأكدت انها ليست في البيت , الى ان اسعفها عقلها فنادت على جارنا ابي مسعود , وطلبت منه ان يبحث عنها , ذلك انه في العادة الرجل الوحيد المتواجد في الحي في الفترة الصباحية , حيث رجال الحي في اعمالهم , ليجدها تجلس بكل براءة امام دكانه منتظرة ان يفتح , فعاد بها تحمل قطعة من البسكويت وتضحك .
درجت هيا قليلا فدخلت روضة الاطفال , نذكر انا ووالدتها اول انشودة عادت من الروضة ترددها حيث طلبنا منها تكرارها مئات المرات
روضة البيارق ما احلاها انا برعوم فوق رباها
تحيا تحيا روضة البيارق
دخلت هيا المدرسة وتدرجت في صفوفها , ومرت الايام وتزوج الاولاد ففرغت الغرفة عليها فعانت من الوحدة مرة اخرى , لكن اخوانها عوضوها عن ذلك حبا ومودة فأصبحت دلولة العائلة ودلوعتها , اغدقوا عليها الهدايا واقاموا لها المناسبات , وكان لها في كل نزهة يقوم بها احدهم نصيب . تدرجت في صفوفها الى ان وصلت ساعة الاختيار , فقد نجحت في الثانوية العامة وجاءت تطلب راينا في اختيار التخصص المناسب في الجامعة , قلت : يا ابنتي نحن لا نفرض عليك تخصصا ما , فانت ادري بميولك وقدراتك , ولكني كنت اتمنى ان يختص احد ابناني في اللغة العربية وآدابها , فيرث مكتبتي الادبية والفكرية , ويتفوق على ابيه , قالت بعد تفكير : اما التخصص فأعدك , واما التفوق في الدراسة فستجد ما يسرك وتقر به عينك بإذن الله , واما التفوق عليك في الفكر والاسلوب فذلك ما لا اعدك به , فالعين لا تعلو على الحاجب .
اقول : هيا اليوم تحمل درجة البكالوريوس في اللغة العربية وآدابها بتقدير ممتاز , وتستعد لمعركة الحياة وخوض غمارها , وقفت لتقول : شكرا بابا على كل شيء . فقلت على الفور : شكرا بابا , الحمد لله فاليوم اكملت رسالتي , والقيت عصا الترحال , ثم تناولت الدفتر منها وكتبت :
يا زينة الزينات يا قرة العين
يا تالي العنقود يا روح ابيها
يا اللي غلاها في القلب والشرايين
تسلم حبيبتنا وتسلم ايديها
يوم مبارك يا غلا الروح والعين
هاي الشهادة يا هيا تستاهليها
الفرحة هاذي انتظرها من سنين
عقبال ما نفرح باللي تليها
يحميك ربي من عيون الحسودين
ويبارك الخطوات اللي تخطيها
حبيبة بابا عقبال الدكتوراه .