جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
حُطْ في الخرج بقلم علي الشافعي
مثل شعبي مشهور في بلاد الشام , وفي فلسطين والاردن على وجه الخصوص , ولابد من مرادف له في بلاد بني عرب ,على طولها وعرضها , فالحال من بعضه . والخُرْج ــ يا دام سعدكم ــ لمن لا يعرفه هو قطعة من الخيش او الجلد تخاط وتوضع على ظهر الدابة , يضع فيها الفلاح او البدوي مشترياته ولوازمه لنقلها من مكان لاخرى, وفي الحقيقة الخرج خاص بالحمار او هكذا على حسب معلوماتي المتواضعة , وحسب رؤيتي لاستعمالات الفلاحين له , حيث يذهب الفلاح الى ارضه ويعود محملا بخيراتها على ظهر الحمار . فكما سبق وقلت لكم اني فلاح ابن فلاح .
بعض الامثال ــ اعزائي ــ يتغير مدلولها عبر الزمن , وهذا المثل احد هذه الامثال التي تغيرت مدلولاتها عبر السنين , اذ كانت تضرب عند واقعة ما , واصبحت تضرب عند حادثة مغايرة لها , كيف ذلك ؟ سأقول لكم قصة مثلنا ثم دلالته الجديدة, بعد ان تصلوا على الحبيب :
يحكى ان شيخا صالحا في قرية نائية , هو امام المسجد فيها ومطّلع على احوال اهل بلدته , فكّر في طريقة يجمع فيها الصدقات من الفقراء , ويوزعها على الاشد فقرا , دون احراج المتبرع فلا يستحي من قلة ما تجود به نفسه , فاخذ الشيخ يطوف بالحمار وعلى ظهره الخرج , طالبا من الناس ان يضعوا صدقاتهم في صرة , فيقول للمتبرع بالعاميّة( حط في الخرج ) دون ان ينظر اليها , فيبضع المتصدق صدقته مهما كانت قليلة دونما احراج , وكذلك يعطي بنفس الطريقة . ومن يومها شاعت الجملة بين الناس واصبحت مثلا لتدل على ستر الامر وحفظه , فاذا قيل لاحدهم سمع خبرا : حط في الخرج , فذلك يعني اكتمه واستره احفظ السر , ولا تطلع عليه احد .
تحول معني المثل في عصرنا الى ما يشبه سلة المهملات او المحذوفات , فاذا قال لك احدهم : حط في الخرج , فذلك يعني اهمل ما سمعت , وارم به من خلف ظهرك , فقائله او راويه اما كاذب او فشار ( كنت وكنت وكان ابي , وفعلت واخرجت وساهمت ) او منافق , او يعِد بما لا يقدر على تنفيذه .
في يوم من الايام جاءني صديق , وطلب مني ان ارافقه الى مقر احد المرشحين لمجلس الامة الموقر, وهو جار لصاحبنا ويعتب عليه اذا لم يحضر , ذهبت معه , وكانت هذه صدقا اول مرة ازور فيها مقرا انتخابيا , فانا لا اجد نفسي هناك , المهم وصلنا صيوانا ضخما في ارض خلاء اضاءتُه مبهرة , تكفي لإنارة حي فقير بكامله لمدة عام , في مدينة هي من افقر مدن المملكة , واكثرها نسب بطالة .
استقبلنا استقبالا حافلا من قبل جوقة من الشبان والصبايا , يضعون على صدورهم صورا لهذا النائب , (على اعتبار ما سيكون ) . جلست مبهورا من الاضاءة والتطبيل , لدرجة احساسي انني لست انا , و قلت ما الذي اتى بي الى هنا , نظرت الى صاحبي نظرة عتاب , قائلا : سامحك الله , قال انتظر ستخرج من تجربتك هذه بمقال , واخرج انا بعشاء فاخر . بعد قليل سمعنا جلبة قوية باب الصيوان , توقفت سيارة فارهة , نزل منها رجل يلمع , عائد من الصالون لتوه , سلم وتوجه فورا نحو المنصة . قلت لصاحبي : من هذا ؟ قال هذا جارنا , مشروع النائب ولكن بعد التلميع الاوّلي , وهناك تلميع اخر من الحكومة ان قدر له ان يفوز في الانتخابات ويتسلم المنصب . صمت الناس وكأن على رؤوسهم الطير واحاطت به جوقة ممن يُسمَوْن (مندوبو الدعاية الانتخابية ) , عرفت فيما بعد ان كلا منهم بقبض مبلغا محترما نظير الترويج لهذا المشروع الوطني الضخم بجثته , ومركزه في المستقبل . المهم انطلقت حنجرة الرجل بصوت خشن متقطع , مدليا بيانه الانتخابي , واعدا بوعود عجز ترامب عن تحقيقها للشعب الامريكي :ـ سنجعل الاردن واحة خضراء , فيها حدائق غناء تدر السمن والعسل , سأرفع معيشة المواطن والحد الادنى للأجور من 200 الى 800 دينار في الشهر , صفقت الجوقة فصفق الحاضرون , ثم اكمل سعادته : سأحارب الفقر والبطالة , بفتح المشاريع واستخراج كنوز الوطن المخبأة في باطن الارض , بحيث يتمنى شباب الخليج المجيئ للعمل في الاردن , فغرت فمي ونظرت لصاحبي كأني اقول : ( واسعة شوي ) , فقال صاحبي : انتظر , فالقادم اعظم . اكمل الرجل سأحارب الفساد والمفسدين واقدمهم للعدالة , وسوف اهتم بالتعليم فأوسع المدارس , وارفع كفاءتها , واجعل الحد الاعلى لطلبة الصف الواحد طالبا 30بدلا من سبعين حاليا , وارفع راتب المعلم بحيث لا يضطر للعمل بعد الظهر , وادعم المزارع واسدد ديونه , لينعكس ذلك على الاسعار . وطبعا بعد كل وعد عاصفة من التصفيق تبدا من الجوقة وتنتهي بالجمهور . اما على مستوي علاقتنا بالخارج ؛ فلن اسمح للأمريكان ان يسرحوا ويمرحوا في بلاد العربان , وسأحقق الوحدة العربية وانهي الخلافات , اما بالنسبة للقضية الفلسطينية فإنني اعدكم واقول : يا اخوان ! أراضي ال67 تأخذوها من هذا الشارب , وهذا وعد , وسأحاول اعادة اللاجئين الى ديارهم , ووو ووالخ .
كنت الاحظ ان الناس لا يصفقون الا بعد تصفيق الجوقة , وان عيونهم لا تتجه نحو النائب ( المشروع ) وانما خارج الصيوان .
بعد لحظات حصلت جلبة جديدة توقفت سيارات نقل صغيرة تابعة لاحد المطاعم الفخمة , وما ان انهى الرجل كلمته , حتى نزلت المناسف وسرعان ما تحلق الحاضرون حولها , واخذ سعادته يدور على الحاضرين , يسألهم عن الطعام ان كان اعجبهم , ولا ينسي ان يذكرهم انه يريد مؤازرتهم ودعمهم , فهو حامل همومهم للحكومة , دارت بعد ذلك الحلويات والمرطبات ثم تفرّق الجميع . في الطريق سألت صاحبي عن رايه بما سمع قال لي : يا رجل (حط في الخرج ) , سيلمّع تلميعه اخرى من قبل الحكومة تنسيه الطريق الى مدينته , قلت : يعني انك لن تنتخبه , قال : ولن اذهب للانتخابات اصلا , ف ( كله بيضحك على كله ) , لا عليك كما قلت لك خرجنا بعشاء فاخر وخرجت انت بمقال ساخر .
خلاصة الامر ــ يا سادة يا كرام ــ ان الكلام الذي بحاجة لان يوضع في الخرج كثير , خاصة الذي يلامس هموم المواطن البسيط ويدغدغ احلامه , من تصريحات حكومتنا الفاضلة ووعودها , يعني اذ رأيتم على شاشات التلفزة صاحب معالي او صاحب سعادة او صاحب دولة يخطب واعدا الاردنيين بسنوات سمان , وخير عميم في قادم الايام , وانه سيحارب الفقر والبطالة , وسيقبض على الفاسدين ويقدمهم للعدالة , وسيخفض المديونية التي الهبت ظهر المواطن بالضرائب , فماذا تقولون ؟ وماذا تقولون لمعالي الوزير الذي هدد كوريا , ان تتخلي عن اسلحتها النووية , والا... كوريا هذه هي التي وقف زعيمها يوما قائلا لبوش , الذي تتراقص شوارب العربان خوفا من مجرد ذكر اسمه : ليعلم سيادته اننا لسنا عربا , وان صواريخنا تصل البيت الابيض , يعني كما يقال في المثل الشعبي : ( تركت جوزها ممدود وراحت تبكي عَ ابو مسعود ).الايجدر بنا وضع كلامه في الخرج .
بالمناسبة لا حظت انتفاخ خلفية صديقي , اقصد جيب بنطاله الخلفية , فسالته قال : هذه بيانات ودعايات انتخابية , ازيّن بها خلفيتي الثقافية , وبعد الانتخابات اضعها في اقرب حاوية , وحط بالخرج . طبتم وطابت اوقاتكم .