جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
من الطبيعي والمعتاد أن يفزع الإنسان من أي مشهد مفزع ، ويجري هذا الأمر دون إرادة الإنسان ، لأن الفزع هو رد فعل انعكاسي مفاجيء ، لا دخل للإرادة فيه . ولقد أفزعني ، شأني في ذلك شأن أي كائن حي سوي ، مشهد الأطفال السوريين ، الذين أذيع وانتشر خبر مقتلهم ، بفعل غارة جوية كيميائية ، قام بها طيران النظام السوري ، علي مواقع تخضع لسيطرة قوات المعارضة السورية . وكمبدأ عام فإن من ارتكب هذه القتلة ، وهو يعلم ، ويقصد ، قتل أطفال علي هذا النحو المريع ، يكون قد انتسب أو نسب إلي البشر خطاً ، بل ولايصح انتسابه إلي بعض فصائل الوحوش ، التي لا تقتل إلا من أجل أن تأكل . فهو وحش ضاري فتاك ، يقتل من أجل القتل . فالفاعل من وجهة نظري ـ سواء أكان الفاعل هنا هو النظام ، أو المعارضة ، أو طرف ثالث غير معلوم لنا ـ ينطبق عليه هذا الوصف بالضرورة . ومع أن الصورة التي تصدرت المشهد للأطفال ، جري تصديرها ومعها أصابع إتهام ، تشير إلي اتجاه واحد دون غيره ، هو النظام . وأنا لست مع النظام السوري ، وغير متعاطف مع الأسلوب الذي آل به إليه الحكم ، ولا مع أسلوب حكمه ، في إطار كوني من غير أبناء الشعب السوري ، وجكمي علي النظام يعد من قبيل الكلام . كما أنني وبنفس القدر لست مع المعارضة السورية المهجنة ، وغير متعاطف بحال مع أسلوب المعارضة المسلحة ، الذي تمارسه ضد الدولة السورية ، ولا مع علاقاتها المشبوهة مع دوائر إقليمية أو دولية ، سواء كانت دولاً أو أنظمة أو دوائر مخابراتية . أنا مع الشعب السوري المكلوم ، والدولة السورية الموحدة . وأعتقد جازماً أن الأطراف الموالية للنظام ـ تعصباً ـ لو تبين لها بحق ، أن النظام هو من أرتكب تلك المجزرة الحمقاء ، لانفضت من حوله ، وربما انحازت إلي جانب المعارضة ، وعندها لن يصمد النظام طويلاً . كما أنني أعتقد جازماً ، وبذات القدر ، أن الأطراف المتعاطفة والمساندة ، إلي جانب بعض عناصر المعارضة ، لو تبين لها بحق أن المعارضة ، أو فصيل منها ، هي من ارتكب تلك المجزرة الوحشية ، لانفضت من حولها ، وانصرفت عنها ، ومنعت عنها مساندتها ، ومعاونتها ، وربما انحازت إلي النظام ، ليس حباً فيه ، وإنما كرها ونكاية في المعارضة . هذه الأطراف علي الجانبين يشغلها الوقوف علي الحقيقة ، ولا شيء سوي الحقيقة . فما هي الحقيقة ؟ . يمكننا القول بأريحية المراقب : أنه يصعب الوقوف علي الحقيقة المجردة من الهوي والغرض ، إلا من خلال لجنة تحقيق دولية ، من خارج أنظمة الأمم المتحدة ولجانها ، لضمان الحيدة والنزاهة . وما تنتهي إليه اللجنة ، يكون هو الحقيقة ، وتجري المحاسبة علي أساسه . وإلي أن يتم ذلك ـ إن كان سيتم وفقاً لمطالبات بعض الدول ـ يتعين أن نخرج من شرنقة الصورة المصدرة إلينا باعتبارها الحقيقة . فقد أصبحت عقولنا ، وأصبح وعينا ، وإدراكنا ، أساري الصورة المصدرة . ولذا فإن أحكامنا غالباً ما تكون مشوبة بالبطلان ، وتأتي علي حساب الحقيقة . وللوصول إلي جانب من الحقيقة استنباطياً ، لابد أن نفترض فرضين ونناقشهما علي ضوء قاعدة : " فتش عن المستفيد وراء كل جريمة " . الفرض الأول : أن النظام هو من إقترف هذه الجريمة . ولمناقشة هذا الفرض لابد من مراجعة الواقع الميداني علي الأرض . الواقع الميداني يقول بأن القوات السورية في الأونة الأخيرة تحقق تقدماً ملحوظاً في معاركها ضد فصائل المعارضة ، بل وتضيق الخناق عليها . والواقع السياسي الذي يجري العمل استناداً إليه الآن ، هو استحالة حسم الصراع عسكرياً ، ومن الصعب إزاحة الأسد عن السلطة بالقوة المسلحة ، ولا سبيل أمام جميع الأطراف المحلية والإقليمية والدولية إلا العمل علي الحل السياسي . وقد أقرت القمة العربية الأخيرة بذلك ، وأضفت عليه قدراً من الشرعية العربية ، وقد أيده الرئيس الأمريكي أثناء زيارة الرئيس السيسي لواشنطن . وهذه وقائع تجري علي أرض الواقع ، وهنا يتأتي السؤال المحوري المتعلق بالبحث وراء المستفيد من أي جريمة : هل من مصلحة الأسد ـ وفقاً لذلك ـ إقتراف هذا الفعل ، حتي يفقد كل هذه الأوراق ، ويؤلب عليه الرأي العام المحلي ، والإقليمي ، والعالمي ؟ ! . والقول بتعرض هذه المنطقة ـ خان شيخون ـ للضرب بأسلحة كيميائية من الجو ، يدحضه الواقع . لأنه من المعلوم ، أن القصف الجوي بالأسلحة الكيميائية ، يؤدي إلي إتساع الرقعة المصابة علي نحو كبير . ثم إن الغازات السامة المنبعثة نتيجة التفجير، لابد وحتماً ، أن تنتشر بفعل الهواء الجوي، وقوة الإنفجار، وسواء أكانت تمتص عن طريق المسام الجلدية ، أو عن طريق جهاز التنفس ، فإنها حتماً مصيبة لكل كائن حي يصادفها ، ولن تنتقي الأطفال دون الكبار ، ولن تنتقي الإنسان دون الحيوانات ، أوالحشرات . ومن لديه فكرة ولو بسيطة عن الأسلحة الكيماوية سيدرك أن التحرك للتعامل مع الأماكن المصابة ، يكون بارتداء ملابس خاصة واقية ، وكذا أجهزة تنفس خاصة . أما أن تري الناس يتحركون علي نحو اعتيادي دون ملابس خاصة ، أو أجهزة واقية ، دون أن يصاب أحدهم ، عن طريق التنفس ، أو عن طريق الملامسة ، فهذا أمر يدعو إلي الدهشة والإستغراب . ولو قلنا أن النظام السوري هو من فعلها ، أفي هذا التوقيت دون غيره ؟ . وفي ظل تلك الظروف المواتية له ؟ ثم ألم يجر تسليم هذه الأسلحة من قبل ؟. ولو انطلقنا من حقيقة أن هناك بالفعل مصابين بغاز السارين السام ، تم نقلهم إلي تركيا ـ صاحبة المواقف المشبوهة ، والداعمة للإرهاب ـ لتلقي العلاج ، فإننا نكون إزاء أحد ثلاث احتمالات : الأول ـ أن الطيران السوري يكون قد قصف بالفعل هذه المنطقة ، والتي قد يكون بها مخازن أسلحة ، من ضمنها الأسلحة الكيماوية ، في حوزة الجماعات الإرهابية المسلحة ، آلت إليها من الجانب التركي ، أو من الجماعات في ليبيا ، وجري تمريرها عبر المخابرات التركية . الثاني : أن تكون الجماعات المسلحة قد قامت بضربة كمية محدودة في هذه المنطقة ، لتأليب النظام الدولي علي النظام السوري ، بقصد تخفيف الضغط العسكري عليها ، ووقف نغمة الحل السياسي السائدة ، والتأييد الدولي لها . الثالث : قيام طرف ثالث بالعملية لحساب قوي إقليمية ودولية ، لوضع النظام السوري في قفص الإتهام ، وتليين المواقف الروسية والقوي المتحالفة معها ، بإسقاط جزء من أوراق اللعب الدولية من بين أيديها . ثم يجري سيناريو صنع الصورة من المشهد ، ودخول المعركة إلي عالم الميديا ، وتبدأ لعبة قصف العقول ، والترويج للمواقف والسياسات .