جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
أن تصدع بالحق ، في مواجهة الباطل ، فذلك انصاف . وأن تصدع به في مواجهة من لا يرغب في سماعه ، ويصك أذنيه عنه ، فتلك شجاعة . وأن تصدع به في مواجهة حاكم ظالم ، فتلك مخاطرة تحتاج إلي رباطة جأش إلي جانب الشجاعة وأن تصدع به وأنت فرداً أعزلاً في مواجهة دول ، فتلك شجاعة نادرة . وأن يكون هذا الصدع ، في مواجهة أخطبوط النظام الدولي أحادي القطبية ، المهيمن علي العالم بسياساته وتوجهاته ، فلا أجد في ذلك وصفاً . وعندما تأتي المواجهة والصدع من إمرأة ، استطاعت أن تصفع النظام الدولي علي وجهه ، في زمن التراجع ، والتخاذل ، والتقازم ، والتصاغر، والتهافت الذي يمارسه البعض في مواجهة هذا النظام الدولي ، فلابد أن أقف ـ بلا حركة ثابتاً ـ احتراماً وتقديراً لهذه السيدة ، مؤدياً لها التحية .
ورغم ندرة الموقف ، أو احاديته ، لم يجد التغطية الإعلامية ، ولا المساندة السياسية اللازمة ، بل جري المرور عليه مرور الكرام ، أولئك الذين يتعففون عن الإكتراث ، بتناول هذه الموضوعات ، إلا علي سبيل ذر الرماد في العيون . ولم يصرخ أحد له ، أو يستجيب لصرخته أحد ، من نشطاء حقوق الإنسان ، ومنظمات الصداع المزمن باسم هذه الحقوق ، لا غرباً ولا شرقاً . برغم أن الموقف حتي النخاع يخر حقوق إنسان . كما أن القوي الديمقراطية ، القائمة علي أسس الحرية ، والمساواة ، والعدل ، والتي تحاكم بعض الأنظمة بمقتضاها ، لم نسمع لها صوتاً واحداً مؤيداً لهذا الموقف .
والأكثرغرابة ، أن يلتزم المنتفعين بهذا الموقف الصمت ، مع أنه قد وفر لهم غطاءًا منطقياً للصراخ ، حتي يسمع بصوتهم من به صمم من أبناء العالم الحر . فلو تفهمنا الصمت السياسي نظراً لحالة الوضع القائم في معظم الأقطار العربية ، والتي يتعثر أحسنها حالاً في ملابسه ، فيقوم حيناً ، وينكفيء أحياناً ، فلا أدري كيف نتفهم الصمت الإعلامي ـ العام والخاص ـ علي هذا النحو التآمري علي الذات .
أما عن الموقف موضوع المقال ـ الذي ربما لا يذكره أحد ، وربما لا يتذكره من علم به وعرفه ـ هو موقف الأستاذة الدكتورة / ريما خلف ـ الأمينة العامة للجنة الأمم المتحدة الاجتماعية والاقتصادية لغرب آسيا (إسكوا) . ويتلخص الموقف في قيامها بنشر التقرير الصدمة ، الذي أوجع إسرائيل وأمريكا أيما وجع . فقد طلبت الدول الأعضاء في الإسكوا ، وعددها 18 دولة ، إعداد تقرير عن الممارسات الإسرائيلية تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري . دعك من مسألة الدقة والعلمية التي التزمها التقرير الإستقصائي ، لأن هذه الأمور مفروغ منها كما يقال . وذلك واضح لكل ذي عينين ممن رأي التقرير .
الإشكالية التي واجهت التقرير ، هي أنه يقوم علي بيان أن الممارسات الاسرائيلية تجاه كل الشعب الفلسطيني ، وليس فقط في الأراضي المحتلة من العام 1967. بل كذلك في الخارج : أي اللاجئين في لبنان وسوريا والعراق ، ويضم الفصل العنصري ممارسات لا انسانية ، تهدف الى سيطرة فئة عرقية على فئة اخرى، وتفتيت الشعب الفلسطيني هو الاداة والاستراتيجية التي اعتمدتها اسرائيل لسيطرة الفئة العرقية اليهودية على الشعب الفلسطيني ككل .
أوصى التقرير بإعادة إحياء لجنة الأمم المتحدة الخاصة بمناهضة الفصل العنصري، ومركز الأمم المتحدة لمناهضة الفصل العنصري اللذين توقف عملهما عام 1994 عندما اعتقد العالم أنه تخلص من الفصل العنصري بسقوط نظام «الأبارتايد» في جنوب أفريقيا .
وترجع أهمية هذا التقرير إلي أنه صادر عن جهة أممية ، ويشكل قاعدة تسمح للدول الأعضاء في ما لو أرادت ، إحالة التحقيق إلي المحكمة الجنائية الدولية ، واحدى توصيات التقرير أن تقوم الدول بهذه الخطوة .
وانزعجت اسرائيل ، وانزعجت أمريكا ، بطبيعة الحال . وقد مارستا ضغوطاً هائلة علي الأمين العام للأمم المتحدة لسحب التقرير . الذي قام بدوره بالضغط علي الدكتورة ريما خلف لسحب التقرير ، إلا أنها أبت قائلة بكلام يوزن بالذهب ، بعد أن تقدمت باستقالتها : " "استقلت لأنني أرى من واجبي الا أكتم شهادة حق عن جريمة ماثلة، واصر على كل استنتاجات التقرير". في حين أن الجميع نفض يده من الأمر ، متعللاً في تبريره لسحب التقرير ، بتعلات شكلية لا معني لها ، سوي كونها تكشف سوءة النظام الدولي ، وتعريه أمام العالم ، وتضع الأدعياء بوجوههم القبيحة أمام المرآة بلا مساحيق . ربما تعتورهم حمرة الخجل .
وقد قال أحد المتنطعين العرب ، أن استقالة الدكتورة ، قد جاءت قبل أسبوعين من انتهاء مدتها . من باب همز ولمز الإستقالة . ومع ذلك فإنها قد سجلت موقف غير مسبوق .
والقول بأن التقرير بمجرد سحبه يصبح مجرد حبر علي ورق ، ولا قيمة له ، فهو قول مردود عليه ، لأنه وإن كان ذلك صحيحاً ، إلا أنه سيبقى موجوداً ، وهذا هو الأهم .