حدثني احد الاصدقاء فقال : عينت معلما في احدى المدارس الاساسية الدنيا في قرية من قرى جنوب محافظة مأدبا . اطفال صغار , يمثلون كافة شرائح المجتمع في تلك القرية . كنت الاحظ البؤس في اعينهم , والابتسامات الصفراء على وجوههم . الزي المدرسي اما كبير على من يلبسه واما شحيح , يتوسط المسافة بيت الركبة والقدم , وبين الكوع واليد . عرفت بعد ذلك السبب ولا عجب : فالزي عندهم يورث من الكبير الى الصغير , فأحيانا يكون الصغير اوفى من الكبير فيأتي الزي شحيحا , واحيانا يكون الكبير اطول واملأ من الصغير , فيأتي الزي فضفاضا , قال : كنت اكمل دراستي العليا في الجامعة , وكانت رسالتي حول جيوب الفقر في الاردن , قلت سأجرب هذه التجربة , واخترت شهر رمضان المبارك لهذه الدراسة , فصرت وعلى مدار الشهر كاملا اسال الطلبة الذين هم خير شاهد على ما يدور في المجتمع , فكنت اسال كل طالب : ماذا افطرتم البارحة لأجد في نهاية الشهر ان حوالي 80% من الاسر تعتمد في غذائها على الارز بصلصة البندورة فقط . فسالتهم : والمقبّلات ؟ فكان مصطلحا جديدا عليهم , قالوا : ماذا تعني مقبلات يا استاذ ؟ قلت : انا عارف ؟ اسالوا وزيرة التنمية الاجتماعية . احد الطلبة لما سالته قال منسف كذاب , قلت وكأنني لا اعرف قصده : وهل هناك منسف كاذب واخر صادق , قال : يعني رز مع لبن بدون لحم او حتي سمن بلدي , قال فاشحت بوجهي حتى لا يرى الدمعة تفر من عيني . قال : هذا الكلام الذي احدثك عنه كان ايام الارز المدعوم اي ايام الكيلو ب15 قرشا , اما اليوم فيعلم الله ماذا جري لحالهم , قلت ربك يتولاهم برحمته .
اما الذي ذكرني بهذه القصة ــ ايها السادة الكرام ــ هو المقابلة التي اجراها التلفزيون الرسمي مع دولة رئيس الوزراء الاكرم , في برنامج ستون دقيقة , والذي تحدث فيه عن رفع طفيف ( حسب رايه ) للأسعار لتعويض العجز في الموازنة , وقال دولته : يهمني ان لا يرتفع سعر السردين والطون والبولبيف على المواطن , فهل يعلم دولته ان 70% من الشعب الاردني يعتبرون السردين , من الرفاهيات والكماليات , وان اغلبهم يعيش على قلاية البندورة (الكذّابة) اي بدون لحمة , وان اغلبهم لا يعرفون مصطلح طون او بولابيف
هل نزل دولته او احد وزرائه الكرام الذين صُرِفت لهم سيارات سوداء ونظارات اكثر سوادا , هل وقف دولته او احد وزرائه على كازية شرق عمان ناهيك عن القرى , ليرى كيف يشتري الفقراء الكاز يوميا , وان هناك من يتسوّلون الكاز كما يتسولون الخبز , ذكرني هذا يوم ان قامت الحكومة بتوحيد اسعار مادتي الكاز والسولار , بحجة منع الغش لان بعض الكازيات كانت تخلط الكاز بالسولار . وبدل ان يحاسبوا الكازيات الغشاشة , اختاروا جيب المواطن فساووا بين السعرين . اي عقل هذا ؟
هلاّ نزل كل وزير متجردا من حرسه وهيلمانه , نزل متنكرا لسوق الخضار الذي هو قوت الشعب , ليرى بم يبيع المزارع المنتج , وكم يصل سعره عندما يشتريه المواطن , ومن الذ ين يتحكمون بالسوق والأسعار ؟ وكيف ولماذا ؟ لماذا هذا البرج العاجي لحكومة الاصل فيها خدمة الشعب , وليس سيّدة عليه متحكمة في رقابه , لماذا النظر من خلف النظارة السوداء في سيارة سوداء , لماذا لا يعيشون مثلنا ؟ لماذا لا ينزلون للقري يتفقدونا احوال الناس ؟
في الدول الغربية التي تحترم نفسها , وتحافظ على جيب موطنها السيارة ملك للدولة . فاذا تغير الوزير بقيت السيارة ملكا للمنصب يستخدمها من يأتي بعده , اما عندنا فالسيارة ملك للوزير , اما الوزير الجديد فلا يقبل السيارة المستعملة او الاثاث المستعمل .
يدافع احد رؤساء مجلس ادارة مؤسسة خاسرة , يُسَدّ عجزها من جيوب المواطنين , ان راتبه ليس كما يشاع 35 الف دينار وانما 12 الف , فهل هذا الرقم قليل في دولة مداخيل 80% من اسرها 500اقل دينار , ولو اعطينا ال500 دينار لعطوفته فكم من الايام تكفيه . لماذا ايها السادة التغول على المال العام , ثم سد العجز من جيب الموطن المسكين . وتسالون عن سبب ازدياد حالات الانتحار . فالمواطن يفضل الانتحار على الوقوف على باب وزارة التنمية الاجتماعية , يستجدي فتتعطفون احيانا عليه بمبلغ لا يكفي اسرته الشاي والخبر . عجيب امركم والله .
في تقرير ديوان المحاسبة لعام 2015 والذي افرج عنه قبل ايام من ادراج الحكومة , وبعد ان خلى المقصودون مناصبهم حتي لا يحاسبوا , جاء في التقرير ان الهدر في المال العام بلغ حوالي 800 مليون دينار , هذا غير الرواتب الخيالية التي يتقاضاها المستشارون والاعلاميون . هل يعقل ان يتقاضى اعلامي 40الف دينار, ومن اين ؟ هو من الدينارين اللذين يوضعان على فاتورة الكهرباء , ماذا يفعل هذا الاعلامي ؟ وما المواهب التي يتمتع بها , تميزه عن غيرة ام لأنه يطبل ويزمر للحكومة , ويسبح بحمدها اناء الليل واطراف النهار .
وورد في التقرير الفساد في تنفيذ عطاء الباص السريع , وشركة المتكاملة والمياومات والعلاجات في الخارج والوجبات والضيافات , وفواتير الكهرباء وكوي الملابس , والسيارات الفارهة والمؤتمرات والاستقبالات والمشاريع الوهمية , ونفقات مستورة وغير مستورة .
اقول ــ يا دام فضلكم ــ هذا الشعب الذي افخر بالانتماء اليه شعب كريم مضياف , يعشق تراب الو طن ويفديه بروحه , ولو عرف انه في ضائقة يبيت على الطوى ويقدم ثمن عشاءه للوطن , ليعيش الوطن بعزة وكرامة , ولا يستجدي احدا , لكن المشكلة ان هناك ازمة ثقة بينه وبين المسؤولين , وحتى نواب الشعب الذين اوصلهم بيديه وقفوا في صف الحكومة , وتشاطروا على جيبه : عليك ان تدفع والا , فالبديل ما تراه في دول الجوار , لماذا التهديد ولمصلحة من , لماذا تحاولون تخويفنا وتكريهنا بالوطن ليتقاطر الشباب على ابواب السفارات , يطلبون اما الهجرة , لماذا ولمصلحة من لا يحاسب المفسدون . ثم تلمونه على المقاطعة , ليقف احد المطبلين (اصحاب ال 40الفا ) واصفا المقاطعة انها خنجر في خاصرة الوطن , من الذي يغرز الخناجر في كل اجزاء الوطن , من الذي يفتعل الازمات ليملأ كرشه , من الذي لا يشبع من مص دم المواطن , من الذين يتحكمون بالأسواق , ايها المسؤولون بالله عليكم انزلوا الى الشارع , انزلوا لتروا بأم اعينكم الام الفقراء , ارفعوا النظارات السوداء وانزلوا .
هل قرأتم قصة يوم الخميس التي الهبت مواقع التواصل الاجتماعي , بقدر ما المت قراءها . والقصة موثّقة , سألخصها لكم لان وقتكم ثمين , لا يسمح بالإطالة : سيدة اردنية في الثلاثين جاءت مع ولديْها لمراجعة احدى العيادات الخارجة في احد مستشفيات العاصمة الحكومية . ونتيجة للازمة والاصطفاف على الدور طال الوقت بهم وجاع الاطفال , فذهبت لأقرب مطعم لشراء رغيف سندويتش فلافل , وسالت عن ثمنه فقيل لها 30قرشا , فقالت لهم : والله ما معي الا 20قرشا زيادة على اجرة العودة للقرية . فامر صاحب المطعم ان تعطى الرغيف مجانا , ولكنها طلبت من العامل ان يقسمه ثلاثة اقسام , فادرك صاحب المطعم الغاية , وامر العامل ان يعمل لها ست ساندويشات مع بعض العصائر وانصرفت شاكرة .
اقول من الذي اجبر هذه المرأة على هتك ستر بيتها ؟ هل يقبل احد المسؤولين , اصحاب السيارات السوداء والنظّارات الاكثر سوادا ان تقف زوجته او اخته هدا الموقف ؟ حسبنا الله ونعم الوكيل . طبتم وطابت اوقاتكم
نشرت فى 11 فبراير 2017
بواسطة nsmat