جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
أصبحت قضية تيران وصنافير كاللبان في الفم ، تمضغ دون ذوبان . وأطرافها يستغلونها ؛ لإشعال الحس الوطني لدي المصريين ، في غير محله . وأصبح الجميع يخوض في المسألة مع الخائضين ، دون علم أو دراية ، بالمجال التخصصي وهو القانون ، والقانون ملعب كبير لا يجيد اللعب فيه إلا المتخصصون . وقد جري دحرجة كرة اللهب المغموسة بالإحساس الوطني ، وهي محشوة بالغابات القانونية المتشابكة ، التي لا يعلمها كثير من الناس ، مرتدية أردية السياسة ، حتي يباح تخوين هذا ، واغتيال ذاك ، تحت هذه الدعوي . ولا أزعم أنني من المتخصصين في القانون ، ولا من لاعبي السياسة ، أو المتخصصين فيها . ومن هذا المنطلق أقول أن الأمر ببساطة شديدة ، دون تقصير مخل ، ولا تطويل ممل ، أن قضية الجزيرتين من حيث المبدأ محل تنازع في تبعيتهما ؛ لأنهما لو كانتا مصريتان خالصتان ، ما طالبت بهما السعودية ، ولو كانتا سعوديتان خالصتان ، ما نازعها بعض المصريين عليهما . وعند إبرام اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية ، كان لابد من بحث وضع الجزيرتين . زعمت السعودية أنهما سعوديتان . وزعم بعض المصريين أنهما مصريتان ، والبعض الآخر ، بمن فيهم السلطة التنفيذية المصرية ، زعم بأنهما سعوديتان . وباقي الجمهور المصري يجلس في موضع المتفرجين ، الذي ينتظر نتيجة المباراة . قد يمني البعض منهم النفس أن ينتصر فريق المعارضين ، والبعض الآخر يمني النفس بانتصار فريق المؤيدين ، دون أن يملك هذا أو ذاك ، دليل أو قرينة أو بينة علي صحة موقف هذا أو ذاك . جري تداول الأمر في ساحات القضاء الإداري . وقد وقعنا في حيص بيص ، بسبب صدور حكم من القضاء الإداري ببطلان الإتفاقية من ناحية ، وتقدم الحكومة بملف الإتفاقية إلي البرلمان " مجلس النواب " لمناقشتها ، لإقرارها أو رفضها . وقد تولد عن الموقف الحكومي ، ردود فعل غاضبة ، من جانب المعارضين لسعودية الجزيرتين ، فأقاموا الأرض ، ولم يقعدوها . واشتعلت المواقع الإلكترونية ، ومواقع التواصل بالمناقشات الحادة العنيفة ، المتجاوزة المتهِمة . والأساس في الهجوم علي الحكومة يستند إلي صدور حكم البطلان . وهنا نقول ، إذا كان حكم القضاء الصادر بالبطلان ، يغني عن إحالة الإتفاقية إلي مجلس النواب ـ كإجراء طبيعي ـ طالما أنه قد رفضها ، فإن هذا يعني أن القضاء قد قطع الطريق علي مجلس النواب ، واستبقه في مجال تخصصه ، رغم أن هذا يتعارض مع مبدأ الفصل بين السلطات ، كما أنه يعني أن موافقة القضاء علي الإتفاقية ، يجعلها نافذة بالضرورة ، دون الحاجة إلي عرضها علي مجلس النواب كذلك . فهل هذا ما يقصده الرافضون لإحالة الإتفاقية إلي مجلس النواب ؟ . إن كانوا يقصدون ذلك ، فهذا يعني أن الإتفاقية تعد نافذة أو غير نافذة ، وفقاً لحكم القضاء ، دون الحاجة إلي عرضها علي مجلس النواب . وهذا لا يستقيم لأنه ينطوي علي تعطيل مجلس النواب عن مهامه ، وتغولاً علي سلطاته ، وهذا لا يستقيم مع دولة القانون . وإن كان المعارضون لا يقصدون إلي ذلك ، فلا معني لحالة الجدل والغبار المثار حول الحكومة المصرية ، بشأن الموقف من الجزيرتين ؛ لأن الأمر مستوي الطرفين . فلو كان الحكم بقبولها لا يجعلها نافذة ، فكذلك الحكم برفضها ؛ لأن في الحالتين هي في حاجة لعرضها علي البرلمان . ومن هنا لابد من الرجوع خطوة إلي الخلف قليلاً ، لنتساءل سوياً ،عن مدي جواز نظر دعوي قضائية ، متعلقة بمشروع اتفاقية ، ووفق عليها حكومياً ، من حيث المبدأ ، إلا أنه لم يتم مناقشتها برلمانياً ، ولم يتم الفصل في قبولها من عدمه ، ولم يصدر بها تشريع بعد ، ولم تعتمد من رئيس الجمهورية ، كما يقضي الدستور ؟ . فلو قيل بجواز ذلك، فإنه يعد اعتداءًا صارخاً ، علي إرادة السلطة التنفيذية ، بشأن قرار في طور التكوين ، والإعداد ، والتبلور، بحيث يخضع للرقابة القضائية . هذا فضلاً عن كونه عملاً من أعمال السيادة ، شأنه في ذلك شأن القرار القضائي بالطعن علي اتفاقية ترسيم الحدود المصرية القبرصية ، حيث رفض نظر الدعوي ، باعتبار موضوعها ، عملاً من أعمال السيادة . ولم تصبح تشريعاً يجوز الطعن عليه دستورياً ،أمام المحكمة الدستورية العليا . فضلاً عن كونه كما أسلفنا ، قطعاً للطريق علي السلطة التشريعية ، واعتداءًا علي صلاحياتها ، واستلاباً لإرادتها واختصاصها . وهنا يبرز تساؤل حول نص الفقرة الثانية من المادة 100 من الدستور "يكون الامتناع عن تنفيذ الأحكام أو تعطيل تنفيذها من جانب الموظفين العموميين المختصين جريمة يعاقب عليها القانون، وللمحكوم له فى هذه الحالة حق رفع الدعوى الجنائية مباشرة إلى المحكمة المختصة"، كما توجب الفقرة الثالثة من المادة ذاتها على النيابة العامة بناء على طلب المحكوم له "تحريك الدعوى الجنائية ضد الموظف الممتنع عن تنفيذ الحكم أو المتسبب فى تعطيله". والمادة واضحة وضوح الشمس في رابعة النهار ، وهي تتحدث عمن يمتنع عن تنفيذ الأحكام أو يعطل تنفيذها ، وهنا يأتي السؤال : ومن قال أن إحالة الإتفاقية إلي مجلس النواب يعد امتناعاً أو تعطيلاً ؟ . إذا كان الإلتزام بتنفيذ الإتفاقية هو إعمالها ، والإلتزام بتنفيذ الحكم هو عدم إعمالها ، فإن الإتفاقية لم تصبح اتفاقية بعد ، بل هي مجرد مشروع اتفاقية ، ومن ثم فالحكومة ملتزمة بالحكم بعدم الإنفاذ ، ولم تلتزم بتنفيذ الإتفاقية لأنها لم تصبح اتفاقية بعد . كما أنه لا يوجد تعطيل لعدم وجود اتفاقية من الأصل ، وإنما مشروع اتفاقية . وهذا ليس تلاعب بالألفاظ ، وإنما الحقيقة القانونية المجردة ، التي تقضي بأن الإتفاقية لا تعد اتفاقية نافذة إلا بعد عرضها علي مجلس الأمة ، واعتمادها من رئيس الجمهورية ، ونشرها في الجريدة الرسمية . وقد ذهب البعض إلي القول بعدم وجود سبب وجيه لعدم إرجاء ارسال الملف إلي المجلس ، لحين الفصل في الطعن المقدم من الحكومة أمام المحكمة الإدارية العليا . ويرد علي ذلك بالقول بأنه لا يوجد كذلك سبب وجيه للإرجاء ، طالما أن الحكومة هي الجهة الطاعنة . وكلامنا لا يعني الإنحياز لجانب دون جانب . فقط هي الرغبة في إعمال القانون إلي آخر مدي ، دون الإنغماس في اللغط السياسي . ونحن نري عرض مشروع الإتفاقية علي الإستفتاء العام ، لإزالة حالة الإحتقان المجتمعي بشأنها ، وللسعودية حق الإلتجاء إلي التحكيم الدولي في حالة الرفض .