جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
تفاجأت حقاً بتعليق أحد أصدقاء " الفيسبوك " علي مقال لي . وسر المفاجأة أنه أثني علي الثناء الحسن ، إلا أنه ختم تعليقه بقوله : " لماذا اشعر احيانا ان حبر السياسه لون نقائه ـ يقصدني ـ وأحاط شمسه المشرقه بالغيوم ؟ " ! . فانزعجت لذلك أيما انزعاج ، وقررت التواصل معه عبر نافذة الدردشة . طالت المناقشة ـ بعد التعارف ـ فيما بيننا . ثم تركني وراح يسترسل في حديثه ، بعد أن ابتدرني بقوله : أريد ان استلهم فكرك فى فكرة تلح على بالنسبه للاحوال فى مصر . هب ان مصر تشق طريقاً جديداً ، ونحن كفرنا بكل ماتربينا عليه . من اشتراكيه إلي انفتاح . من حرب إلي سلام . من إلقاء الصهاينة بالبحر ، إلي السلام لكل شعوب الأرض . نحن تخبطنا كثيراً ، وتحطمت مع تخبطنا كل الأفكار ، ولم تبق فكرة قابلة للصمود . لقد أتعبتني مصر حقاً . فهي علي ايادي حكامها تغير جلدها فجأة ، حيث تعيش نهاراً برداء ، وفي الليل ترتدي ثوباً مغايراً . أتذكر حين كنا نتغني بالعروبة ، حين كانوا يرضعوننا كراهية العدو الصهيوني الغاصب . تغني عبد الوهاب : "أخي جاوز الظالمون المدي ... فحق الجهاد وحق الفدا " . ولم تمض بضع سنوات ، حتي صار العدو الصهيوني ، دولة اسرائيل ، وتحولت اسرائيل من عدو ، إلي صديق وحليف . وضاعت العروبة تحت الأقدام المهرولة طالبة ود بني صهيون علي فجرهم ووقاحتهم ، واغتصابهم للأرض / العرض . أتذكر مجتمع الكفاية والعدل ، وقوي الشعب العامل ، الذي تفجرت من أجله ثورة يوليو 1952 م ، وحلمنا به طويلاً ، وصبرنا علي الحلم ، حتي تحطم علي أعتاب هزيمة يونيه 1967 م . انكسر الحلم ولم ننكسر ، علي أمل استعادته واسترداده ، بعد استرداد الأرض / العرض ، واسترداد الكرامة التي اهدرت . فكان الصمود ، وربط الأحزمة علي البطون الخاوية ، والتبرع للمجهود الحربي ، ومعونة الشتاء ، ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة . سبع سنوات عجاف أكلت الأخضر واليابس ، حتي انتصرنا في سابقة هي الأولي من قرون علي عدونا . وكان من المفترض أن نستعيد الحلم . حلم مجتمع الكفاية والعدل ، حيث تتجه بوصلة عقولنا وأفكارنا ووجداننا ، وتهيئتنا النفسية علي مدار سنوات . ولكن جاء الرئيس السادات ـ رحمه الله ـ ليحدث انقلاباً في كل ذلك ، ولوي أعناقنا الفكرية والنفسية والإجتماعية والإقتصادية مع الإتجاه الجديد لبوصلة حياتنا ، من الإشتراكية إلي الرأسمالية من خلال سياسة الإنفتاح الإقتصادي ، حيث تحول المجتمع من مجتمع مغلق إلي مجتمع مفتوح . من مجتمع تعوله الدولة في كل شيء ، إلي مجتمع مطلوب منه أن يعول الدولة . وقد كان هذا التحول بمثابة الصدمة لأجيال هذا الزمن . ومع الإنفتاح ، الذي كان انفتاحاً استهلاكياً ، نمت طبقة طفيلية علي نحو سرطاني سريع ، تاجرت في كل شيء ، حتي في منظومة القيم السائدة . فسادت المحسوبية ، واستغلال النفوذ ، والرشوة . واختلط الحابل بالنابل ؛ لأن الإنتقال من مجتمع اشتراكي موجه ، إلي مجتمع رأسمالي مفتوح ، حدث علي نحو فجائي صادم ، وتغيير المجتمعات لا يكون علي هذا النحو . وأتذكر التحول السياسي من نظام الحزب الواحد ، الذي كان آخر صوره الإتحاد الإشتراكي ، إلي التعددية السياسية بالإنتقال إلي نظام المنابر ، ثم الأحزاب السياسية ، التي تحولت كذلك إلي حزب واحد ، وهو الحزب الوطني الديمقراطي ، وأحزاب الكومبارس السياسي ، في بلد يعاني المراهقة السياسية ، بعد سجن قدامي السياسيين فيما عُرف بثورة التصحيح ، وخلو الساحة لصراع طفولي بين بقايا اليساريين وجماعة الإخوان المسلمين ، والذي انتهي باعتقالات سبتمبر ، واغتيال الرئيس السادات رحمه الله . وأتذكر عهد مبارك الذي أشبعنا كلاماً عن البنية التحتية ، والإصلاح الإقتصادي ، ثم إذا بنا نتفاجا ببيع كل مكتسبات ثورة يوليو ، بزعم أنها خاسرة ، ودخلنا في سباق تخسير شركات القطاع العام ، لزوم الحصول علي العمولات والسمسرة ، والتكسب من المال الحرام . وتحالفت السلطة مع رأس المال تحالفاً غير مقدس ، لنهب ثروات البلاد وخيراتها ، وأصبحت الدولة في مهب الريح ، فلا شركات قطاع عام تشد ظهرها ، وعمودها الفقري ، ولا قطاع خاص حقيقي يعول الدولة ويرقي بها . هذا فضلاً عن انسداد الأفق السياسي تماماً ، وانغلاقه علي مظاهر مسرحية مكذوبة ، تواطأ الجميع ـ من أصحاب المصالح علي درجاتهم ومستوياتهم ـ علي تمريرها . وأصبحت الأيديولوجيات والمباديء والقيم التي تربينا عليها مجرد مناديل ورقية تستخدم عند اللزوم ، ولمرة واحدة . ولم تعد هناك فكرة أو قيمة قادرة علي الصمود . إن هذا التحول السريع من الأمر لنقيضه ، والتلون بحسب الوضع القائم ، يجعل مصر في أعين أبناءها كحرباء ، وهو وصف لا نرتضيه لها . لأننا نريد مصر ذات ذوق واحد ـ لا يكون ماسخاً ـ ولون واحد ـ لا يكون حائلاً ـ ومباديء وقيم ثابتة ، لا متغيرة ، ولا متبدلة ، ولا متحولة . نريد لها أعمدة راسخة في السياسة ، وفي الإجتماع وفي الإقتصاد ، وفي الأخلاق والقيم . ويستطرد محدثي قائلاً : والله ، إني لأعرف انك ستعى المعنى الذى يشعر به جيلى ، وتعرف حجم الظلم الذى مارسه الساسه بحق هذا البلد الأمين . حتى أيقن معظم الناس ، انهم مهرجون ، إن لم يكونوا تافهين ، نحن بحق فى حاجه الى منظومه قيم عليا ، كاى دوله متحضره . إن الإنسان المصري بحق ، معصور داخل خلاطة خرسانة ، تفرمه ، وتهرس عظامه . وأضاف محدثي :هب ان مصر تشق طريقاً جديداً ، لو أن المثقف والاديب أراد أن يرسم لوحة ، يحدد فيها معالم الطريق ، الذى نسير فيه ، فماذا يكتب ؟ ! . إلي هنا توقفت عن الكتابة ، وعن الإجابة ، وعن الكلام . والتزمت الصمت .