جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الأمريكان والغرب يصدعوننا ليل نهار ، بما يطلقون عليه حقوق الإنسان . وأشبعونا كلاماً وتنظيراً وتفلسفاً حول هذه الحقوق ، ووجوب الإلتزام بما يحققها ، ويفضي بالضرورة إليها . وسرعان ما ينتقل الأمر من مستوي الكلام ، إلي مستوي المطالبة ، ويجري التصعيد إلي أن يصل إلي مستوي فرض الضغوط ، وقد يتم تخطي هذا المستوي إلي فرض العقوبات ، بل والمواجهة العسكرية أحياناً. وليتهم يُلزمون أنفسهم بهذه الحقوق حين يتعاملون مع الغير ـ سلماً أو حرباً ـ عامة ، ومع المسلمين خاصة ، ومع العرب خاصة الخاصة . حتي يطالبوننا بالإلتزام بحقوق الإنسان ؛ لأن هذه المطالبة ليس المقصود منها إلزام الأنظمة غير الغربية بضرورة الإلتزام مع شعوبها بمراعاة مقتضي هذه الحقوق ، إذ لا يعنيهم من الأصل الإنسان غير الغربي ولا حقوقه . بل العكس هو الصحيح ، إذ أن وجود أنظمة يري الغرب عدم التزامها بمقتضيات حقوق الإنسان ، يوفر لها الذريعة ، لاستخدام غياب هذه الحقوق ـ سواء كان غياباً فعلياً ، أو غياباً مفترضاً ، أو مزعوماً ـ كورقة ضغط وابتزاز ضد هذه الأنظمة ، لفرض أوضاع تنطوي في معظمها علي انتهاك لحقوق الإنسان ، ومناهضة لها . وتلك هي ـ إلي جانب غيرها ـ نقطة السقوط الأخلاقي للحضارة الغربية . وليس معني كلامي أنني من الداعين للتنازل عن المطالبة بحقوق الإنسان ، أو السعي لتحقيق مقتضياتها ، وإنما فقط أردت تبيان أن مطالبة الغرب بذلك ليس لوجه الله ، وليس المقصود الإستجابة لهذه المطالبات ، لأن تحققها كاملة غير منقوصة ، سيسقط حتماً من يد الغرب إحدي الأوراق المهمة للتدخل والضغط والإبتزاز . وأن الكلام التنظيري ، الذي يباع لنا عن تلك المثاليات ، ما هو إلا بضاعة مسمومة يصدرونها إلينا ، حتي ندمنها إدمانا ً، وتكون مدعاة لعدم الإستقرار . فكم صنع الغرب من دمي ديكتاتورية تربعت علي عروش بلادها ، رغم أنف الإنسان وحقوقه . وكم سكت الغرب ، وأغمض عيناه ، وسد أذناه ، عن مستبدين كُثُر ، داسوا رقاب شعوبهم بنعالهم ، وليذهب الإنسان وحقوقه إلي الجحيم . وإلا فأين حقوق الشعب الفلسطيني ؟ . وأين حقوق الدول التي جري احتلالها ، وامتصاص دماءها ، ونهب خيراتها ، لعقود طويلة ، تحت زعم الإستعمار ؟ . وما جري ، ويجري في منطقة الشرق الأوسط إلا صورة صارخة لإنتهاك حقوق الإنسان يمارسها الغرب والأمريكان . وأبشع صور هذا الإنتهاك خلق جماعات راديكالية تنتهج العنف سبيلاً للتحاور السياسي . فقد خلقت المخابرات البريطانية جماعة الإخوان ، وورثتها المخابرات المركزية الأمريكية ، لاستخدامها مخلب قط في مواجهة الأنظمة المارقة من بيت الطاعة الغربي . ثم استبدلوا مخلب القط بذيله بداية من أواخر سبعينيات القرن الماضي . ففي هذا التاريخ جري تخليق تنظيم القاعدة من أفراد هذه الجماعة ، والجماعات المتفرعة عنها ، بتمويل عربي ، وتدريب وتسليح أمريكاني / غربي ، لمحاربة الإتحاد السوفيتي ، علي الأراضي الأفغانية ، تحت مزاعم الجهاد.
وبذلك جري تخريج خبراء في القتال ، ومحترفين فيه ، خارج إطار القوات النظامية التابعة للدول . وبعد انهيار السوفيت ، جري إشعال النار في كرة معلقة بذيل القط ، وإطلاقه في المنطقة ، ليشعل فيها الحرائق . ولما لم تأت الحرائق بنتائج فاعلة ومؤثرة ، ولم تحدث التغيرات المنشودة ، جري استدراج القط إلي الأراضي الأمريكية ، لإحداث واقعة 11 سبتمبر ، حتي تكون ذريعة مقنعة للتدخل الخشن المباشر ، لتنفيذ الخارطة الجديدة لسايكس / بيكو . وجري تدمير أفغانستان تحت زعم محاربة القاعدة ، ثم استدارت إلي العراق ، الذي تم استدراجه لغزو الكويت ، ثم ضربه ومحاصرته لعشر سنوات ـ ولتذهب حقوق الإنسان إلي الجحيم ـ لتجويعه وتركيعه . ثم ضربه ، وتسريح جيشه ، وتجويعة ، وتأليبه علي بعضه ، وذبح رئيسه ، وسرقة نفطه وثرواته ، وإعادته للقرون الوسطي . وانطلاقاً من العراق تشكلت جماعة داعش الإرهابية . وجري تمويلها وتسليحها ، وغض الطرف عن جرائمها ، والسكوت عن عربدتها ، وهي جرائم موجهة ، ومقصودة ، ومتعمدة ، ومستهدِفة لغايات محددة . قد يقول البعض بأنها بقايا الجيش العراقي ، مطعمة بالمنشقين عن تنظيم القاعدة ، وغيره من التنظيمات الراديكالية ، ولا علاقة لأمريكا والغرب بالأمر . ولهؤلاء أقول أنه حتي لو صح ذلك ، فإنه جري بإيعاز أمريكي / غربي ، حتي يجري تمزيق العراق سياسياً ، كما جري تمزيقه جغرافياً . وكذا نقول بأن وجود عناصر أجنبية مرتزقة ضمن أعضاء التنظيم ، وانتشاره في مساحات من الوطن العربي ، سواء في سيناء أو في ليبيا أو في تونس أو في اليمن يؤكد أمريكية الفكرة ، ويشي بوجود أصابع للمخابرات الغربية / الأمريكية / الإسرائيلية وراء الدمي الداعشية . وللأسف توجد دول عربية وراء تمويل هذا التنظيم بدعوي أنه تنظيم سني ، يعمل ضد المد الشيعي ، سواء في العراق أو في سورية . وعندما قارب الغرض من وجوده في العراق علي النفاذ ، جري إعلان الحرب عليه في مسرحية هزلية مكشوفة . فعندما تسمع أن هناك 60 دولة ، علي رأسها أمريكا ، قد تداعوا إلي القصعة العراقية ، بقصد تقديم الدعم اللوجستي والجوي والإستخباراتي والمشورتي ، لقوات تحرير مدينة الموصل ، من الإحتلال الداعشي ، لابد وأن يقع في روعك أنها تجهيزات لحرب عالمية . جماعة داعش ، التي اخترعها الأمريكان ، للعبث بالمنطقة ، وإعادة تشكيلها ، وإعادة رسم الحدود الجديدة ، وفقاً لسايكس / بيكو جديدة ، بديلاً عن تلك القديمة التي استنفدت أغراضها . فأياً كان عدد مقاتلي داعش ، وأياً كان تسليحهم ، فالأمر لا يستدعي كل هذا الحشد الإستعراضي ، بزعم مقاتلتهم . ثم ترك الباب موارباً لهم ، للهروب من القتال في اتجاه سورية . والقصد انقاذ المعارضة السورية بتقديم العون لهم في مواجهة قوات النظام ، وكذا مواجهة القوات الروسية هناك ، علي غرار ما حدث في أفغانستان . أي حرباً بالوكالة بديلاً عن المواجهة المباشرة . وهذا ما يفسر الموقف الغرب / أمريكي بشأن رفضهم التمييز بين فصائل المعارضة المعتدلة ، والفصائل الإرهابية ، والفصل بينهما . والطريف في معركة الموصل أنها ليست حرب تحرير ، وإنما هي حرب ترحيل . وقد بث فيديو علي مواقع التواصل لفرار جماعة داعش في سيارات تيوتا يابانية / دفع رباعي ، في حراسة الأباتشي الأمريكية ، أما السيارات فبتمويل عربي . فهل يصح تصديق الغرب في مزاعمه حول حقوق الإنسان ، بعد كل هذه الإنتهاكات ؟ .