جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
قد يخيل للمرء أن التغيرات ، تحدث في شكل طفرات فجائية ، تنتاب المجتمعات فجأة ، فينبثق التغيير فيها انبثاقاً . إن التغيرات الكبري في المجتمعات لا تحدث علي نحو فجائي ، وإنما هي نتاج تراكمات ، تكونت عبر عقود من الزمن ، أشبه بتراكم الطمي أمام سدود الإنهار. تجري علي مهل ، ورويداً رويداً ، كجذور جبال الثلج الضاربة في أطناب المحيطات ، لا يُري منها سوي رأسها ، التي قد تظهر علي نحو فجائي . والواقع أن المجتمع المصري أشبه بجبل الثلج الغاطس في أعماق المحيط البشري الإنساني ، لا يري منه إلا رأسه ، ومن هنا يُحكم علي تغيراته ، بالفجائية ، والطفرية . غير أن الواقع بخلاف ذلك . ومما يفسر علي هذا النحو علاقة الشعب في حركته وتغيره بالست ساعات . ففي حرب يونيه 1967م هزم الجيش المصري في ستة أيام ، وفاخر الإسرائيليون بذلك فخاراً بلغ مداه ، إلي حد وصف الجيش الإسرائيلي بالجيش الذي لا يُقهر . وقيل بأن الجيش المصري لن تقوم له قائمة بعد الضربة القاصمة التي تلقاها في سيناء . وقد عزز هذا الإحساس بالتغطرس ، والغرور، والإستعلاء في الأرض بغير الحق ، لدي الجانب الإسرائيلي ، استمرار الإحتلال لسيناء لمدة ست سنوات ، رغم شراسة وضراوة حرب الإستنزاف ، والتي تقول بأن هذا الشعب قد ينكسر أو ينهزم ، ولكنه أبداً لا يموت . وبعد السنوات الست ، كانت حرب السادس من اكتوبر سنة 1973 م . والتي استطاع فيها الجيش المصري ، عبور مانع قناة السويس الصعب ، وتحطيم خط بارليف المنيع ، وإقامة رؤوس جسور له علي الضفة الشرقية لقناة السويس . وكبح جماح العدو ، وكسر غروره ، وغطرسته ، في ست ساعات . أعلن ذلك السادات في خطابه يوم 24 اكتوبر ، علي رؤوس الأشهاد ، وأمام العالم كله . ولا أدري إن كانت الهزيمة في ستة ايام ، واستمرار الإحتلال لست سنوات ، والعبور يوم السادس من الكتوبر ، وكبح جماح العدو في ست ساعات بينها رابط زمني تاريخي مقصود ، أم أنها محض مصادفة . ثم بعد أكثر من نصف قرن من الزمان ، تواجه مصر ذات التحديات ، وإن اختلفت أشكالها ، وألوانها ، وأسلحتها ، وأدواتها ، وجنودها . فالتحدي في السابق كان تحدي وجود يتمثل في هدم مصر ـ دولة وكياناً ـ لإقامة اسرائيل الكبري ،التي تصل حدودها التوراتية المعلنة إلي النيل . والتحدي الحالي هو أيضاً تحدي وجود للدولة المصرية ، يستهدف ضمن دول أخري ، إعادة تقسيم الخريطة العربية ، بما يخدم الهدف الصهيوني ، وهو اسرائيل التوراتية الكبري ، وقد نجح المخطط في جانبه الشرقي ، بتحطيم العراق ـ كيانا ووجودا ـ حتي تصل الحدود التوراتية إلي نهر الفرات ، ولم يبق إلا استكمال المخطط بتحطيم وإزالة العقبات المؤدية إلي هذا الطريق ، وهي تمثل سورية ، التي يتعين إزاحتها ـ كياناً ودولة ـ من الوجود . وفي الجانب الغربي جري تحطيم الظهير الإستراتيجي للدولة المصرية ، ويتمثل في الدولة الليبية . فلم تعد هناك دولة ولا كياناً ، وإنما قطعاناً من المليشيات المسلحة التي تتناطح علي العدم لا الوجود . باستثناء الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر ، والذي يتآمر عليه الغرب ، وأمريكا ، والأمم المتحده ، بحظر تسليحه ، حتي يتسني له مواجهة المليشيات الضالة . أما البلدان العربية الأخري التي كانت تمثل ذخراً ورصيداً استراتيجياً لمصر، فقد شغلوها بحروب طائفية ، واشتباكات عرقية لا معني لها ، يصب في صالح العرب . وضربوا السعودية بقانون مكافحة الإرهاب " جاستا " ، كي تنشغل بنفسها عما حولها . وقد لخص أمير الكويت موقف بلدان الشرق العربي في عبارة واحدة وهي : " لولا مصر لسقطنا بمكالمة تليفونية " .ً إذن لم يبق في خط المواجهة مع مخطط العبث بالوجود العربي المتمثل في المخطط الصهيوني سوي مصر . وفي القرن الماضي كان خط المواجهة محدداً ، ومعروفاً ، وواضحاً ، ومصوبة فوهات الأسلحة تجاهه ، وفي مواجهته . وكانت الحرب تقليدية ، أي جيش في مواجهة جيش ، وأجهزة في مواجهة أجهزة . أما اليوم فخطوط المواجهة مفتوحة ، وزاويتها 360 درجة ، وتحيط بمصر إحاطة السوار بالمعصم . بل وصل الأمر إلي فتح خطوط مواجهة داخلية ، مع عناصر موجودة ، جري زرعها أو تجنيدها ـ عن جهل أو عن علم ـ في الداخل ، لتخدم ذات الهدف والتوجه ، وهو تفجير الدولة المصرية ، بزيادة الضغط من الداخل والخارج ، فتنفجر مصر ذاتياً . فيتحقق الهدف . ومن هنا برز إدراك السيس ووعيه بتلك المخاطر ، كما برز إدراك السادات ووعيه في زمانه . وربط ـ في ذهنه ـ ما بين مواجهة القرن الماضي ، ومواجهة القرن الحالي ، وأنهما مرتبطان معاً بالتهديد الوجودي للدولة المصرية ، والمخرج المواجهة والتحدي بذات السلاح . فإذا كان الجيش المصري قد فعلها في السابق في ست ساعات ، فإن هذا الجيش ـ هو نفسه ـ جاهز ومستعد لتنفيذ خطة انتشار علي مستوي الجمهورية في ست ساعات . والجاهزية هي جاهزية مواجهة وليس مجرد جاهزية انتشار ، لأن الإنتشار يكون بغرض المواجهة . مواجهة تحديات الداخل والخارج علي السواء ، محافظة علي كيان ووجود ومقدرات هذه الدولة . فكانت الست ساعات هي الرابط الموضوعي ما بين السيسي والسادات .