يقال ــ يا دام عزكم ــ : (لا كرامة لنبيّ في قومه) , وهي عبارة إنجيلية يقال ان السيد المسيح ــ عليه من الله السلام ــ قالها عندما أحاط به أطفال ( مدينة الناصرة ) وأخذوا يصيحون : " حتى ابن مريم يتنبأ " ؟ فقال عبارته التي أصبحت أحدى أهم الاقوال المأثورة ( لا كرامة لنبي في قومه ) , وتعني أن الشخص لا يلقى الاحترام والتقدير الذي يستحقه من بني قومه وجلدته . وبالفعل فقد أوذي اغلب الانبياء في اوطانهم ؛ وتعرضوا اما للقتل او الطرد من بلادهم , كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وابراهيم ومحمد عليهم السلام , حتى اضطروا لمغادرة اوطانهم فانتشرت دياناتهم خارج موطنهم .
يقول الإمام الشافعي رحمه الله :
ارحل بنفسك من أرض تضام بها ولا تكن من فراق الأهل في حرق
من ذلّ بين أهاليـــــــــــه ببلدته فالاغتراب لـــه من أحسن الخلق
وقال السري الرفاء:
قوّض خيامك عن دار ظُلمْت بها و جانب الــذل , إن الذل يجتنب
وارحل إذا كانت الأوطان مَضيعةً فالصندل الرطب في أوطانه حطب
والصندل نوع من الاشجار يستخرج منه اغلى واجود انواع العطور.
في امثالنا الشعبية نقول :(مطرب الحي لا يطرب) او (زمار الحي لا يطرب ) .
اما قصة هذا المثل , فيقال ــ والعهدة على من قال ــ ان شابا نبغ في العزف على نايه (آلة الناي) , فكان كل يوم يخرج الى ظاهر القرية , فيجلس تحت شجرة على ربوة , ثم يبدأ بالعزف , فتتناقل الرياح أصوات هذا الناي وتنصت الأشجار والعصافير لعذوبة ألحانه , وكان أهل قريته يسمعون الحانه فلا يأبهون بها , بل ينخرطون في اعمالهم .
في يوم من الأيام مر عليه أحد الرحالة فاعجبه عزفه , فعرض عليه الرحيل معه على أن يعطيه في كل شهر ألف درهم ، وافق الشاب وسار مع الرحالة إلى قرية قريبة , حيث حلاّ فيها , وأعلن الرحالة عن حفلة عظيمة يحييها هذا الفتى الملُهم . وهكذا اخذا يتنقلان بين المدن والقرى , فنجح الشاب ، وتميز واغتنى ، واشتهر وصار يشار اليه بالبنان .
تمنى الفتى ذات يوم العودة إلى قريته وحيّه ؛ وهو الأريب الألمع ذو الناي الأروع ، فخاطب صاحبه الرحالة , وعبر له عما جال بخاطره , فأجابه الرحالة بأن الخير في غير قريتك , والمال والفن ليسا بها . فأصر الشاب وقال : أهلي وأبناء وعشيرتي . خضع الرحالة لرغبة الشاب وسار معه إلى قريته وحاملا شهرته وفنه ومجده , وعند أبواب القرية وقف الشاب متأملاً ربوته وجِلسته تحت شجرته الحبيبة , فدخل القرية دامعاً متوقعاً ترحيباً شديداً من أهله وعشيرته . واجتمع الناس على هول ما رأوه من عظمة الهودج وجماله , وما فيه من أُبهة تسحر العين وتأخذ بالألباب . توسّط الموكب القرية , فاطل الشاب عليهم فلم يعرفوه لحسنه وجمال مظهره ، فأخرج نايه وأخذ يعزف لحنا طالما دندن به في أعلى الربوة حتى انتهى اللحن , وهنا توقف الشاب وانتظر سماع التصفيق , كما اعتاد في كثير من القرى , ولكن ما وجد من اهل القرية احدا , فقال الرحالة للشاب : ” زمار الحي لا يطرب “. وبالخلاصة : توقف عن العزف , توقف عن الإبداع ليبقى في وطنه ولا يقاسي مرارة الاغتراب .
الشاهد ــ ايها السادة الكرام ــ : في بلاد بني عرب هناك اجماع غريب وعجيب وفريد من نوعه , رغم انهم نادرا ما يجمعون على شيء , هناك اجماع على ان (الفرنجي برنجي ) أي : كل ما هو اجنبي جميل وموثوق به , ولا جمال للمحلّي ابدا ولا ثقة به مهما كان متقن الصنع علي الجودة فتجد النساء يتهافتن على كل ما هو اجنبي لاستعمالاتهن الشخصية او المنزلية , وكذلك الرجال يفضلون الالبسة والاحذية الاوروبية المستعملة على المحلي الجديد , لماذا ؟ انها عقدة الخواجا او الافرنجي برنجي .
تدخل البيت العربي فتجد الامم المتحدة متجلية في اركانه ؛ فالأبواب خشبها إندونيسي والطلاء الماني , والسيراميك اسباني والمطبخ ونظام البيت امريكي , والشاشة والمكنسة والخلاط من كوريا , والثلاجة يابانية والفرن ايطالي , والغسالة والمكيف من تركيا والادوات المنزلية صينية
مؤسساتنا تحرص ايضا ؛ ولتكون مشهورة على استقدام مستشار او خبير اجنبي , بأعلى الرواتب والامتيازات والحوافز , لا لأنه يقدم شيئا , وانما عقدة الاجنبي , بالمقابل يتهافت المسوّقون لتسويق منتجاتها , فقط لعقدة( وجود الخبير) الاجنبي . حتى اخذت كثير من الوزارات في بلادنا تحذو نفس الحذو , فالوزير لا تعجبه الكفاءات من ابناء الوطن مهما كانت عالية , لأنها محلية او عربية , فقط ليتفاخر او يتفشخر امام زملائه الوزراء بانه استقدم في وزارته خبراء ومستشارين اجانب , بالرواتب الفلانية والامتيازات والحوافز العلانية .
اما النوادي الرياضية فحدث ولا حرج , اذ قد تجد فريق الدولة من دول بني عرب اكثر من نصفه من الاجانب , وفي النوادي الشهيرة في بلادهم ومن اجل خوض حروبهم الكروية المقدسة , ولضمان الانتصار المظفر والفوز المؤزر على خصومهم من بني جلدتهم , يستقدمون اللاعب الاجنبي والمدرب الاجنبي , فقط بسبب عقدة الاجنبي . اذكر ان احدي دول بني عرب استقدمت لاعبا اجنبيا بحوالي مليون دولار في الموسم , ومدربا بحوالي خمسة ملايين , لتفوز بكاس العرب .
احدي المؤسسات في دول بني عرب السعيدة , صاحبة الآراء السديدة في المواقف الحميدة , استقدمت خبيرا اجنبيا بمبلغ عشرين الف دولار شهريا , هذا الكلام في الثمانينات , ولما اكتشفت ان الخبير عربي الاصل , خفضت الراتب الى ثلاثة الاف , فاضطر الخبير الى لملمة اوراقه وفسخ العقد ومغادرة البلاد , كل ذلك بسبب عقدة الخواجا او (الفرنجي برنجي ) .
يقول العالم العربي الكبير أحمد حسن زويل (ف 2 أغسطس 2016) وهو عالم كيميائي مصري وأمريكي الجنسية حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء لسنة 1999 لأبحاثه في مجال كيمياء, حيث قام باختراع ميكروسكوب سريع للغاية يعمل باستخدام الليزر , له القدرة على رصد حركة الجزيئات عند نشوئها وعند التحام بعضها ببعض . والذي حاول العودة الى بلاده وإنشاء مدينة للبحوث, فوجد من المعيقات والمثبطات والروتين والدسائس والمؤامرات والتهديدات ما جعله يلملم حوائجه ويعود ادراجه الى امريكا , ليمنح الجنسية ويعين في ارقى الصروح العلمية في معاهدها التقنية , وتوفر له كل الامكانات , مما جعله يقول عبارته المشهورة : "الغرب ليسوا عباقرة ونحن لسنا اغبياء , هم فقط يدعمون الفاشل حتى ينجح , ونحن نحارب الناجح حتى يفشل " .
اقول ــ يا دام هناكم ــ : متى سياتي اليوم الذي نعتمد فيه على المنتج المحلي ونثق وبه , ونستعين بالخبير الوطني ونثق بقدراته ونقبل مشوراته . طبتم وطابت اوقاتكم .