جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
مثل شعبي مشهور عندنا فنقول ( فلان راكب راسه ) يضرب ــ ايها الافاضل ــ للمعاند الذي يصر على عناده ولا يستجيب للنصحِ أو الإرشاد , فينفخ الشيطان في انفه ويزين له فيرتكب حماقة , او عملا خاطئا قد يجلب عليه ندامة الدهر . كنت اظنه مثلا شعبيا , يعني عندنا فقط , لكن وبعد النبش والبحث والتمحيص وجدت له اصلا في العربية وبنفس المعنى , حيث ورد في( كتاب الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني تحت عنوان( سبب مقتل كليب بن ربيعة) على لسان مُرّة والد جساس قاتل كليب :" أما جساس فغلامٌ حديثُ السِّنِّ ركبَ رأسه فهرب حين خاف فلا علم لي به..." . وكذلك قول أعشى همدان( ت83هـ):
وَيَركَبُ رَأَسَهُ في كُلِّ وَحلٍ وَيَعثُرُ في الطَريقِ المُستَقيمِ
وقول مهيار الديلمي( ت 428هـ):
قطع الحبالَ وجاء يركَبُ رأسَه فهوى يودُّ لوَ اَنه مخطوم
وقول ابن نباتة السعدي( ت 405هـ):
وَمُصَمِّمٍ في اللهوِ يَركَبُ رأسَه لا تَجتديهِ ملامةُ اللُوّامِ
هذا ــ يا دام عزكم ــ هو المعنى الخفيف القريب للمثل . اما المعنى الثقيل , فتعالوا نناقشه معا , بعد ان تصلوا على خير الانام :
تعلمون ــ رحمكم الله ـــ ان الراس مركّب فوق البدن , فهو القائد اذن كما اراد الله له , لأنه يحوي السمع والبصر والدماغ , والدماغ كما تعلمون هو المتحكم في كل اجهزة الجسم البيولوجية , فلا تعمل الا بأوامر منه , اما باقي البدن فيحوي العاطفة والغرائز والجوارح ,والحركات المستجيبة لأوامر العقل . والاصل ان يقود العقلُ الجوارحَ , ليصل بها الى بر الامان , أي يكبح جماحها ويشكمها ويمنعها من ارتكاب الخطايا والآثام , ويرشدها سبيل الخير و الصلاح , وان يكون حازما في اوامره ونواهيه حتى تستقيم الامور .
احيانا يتساهل العقل مع الغرائز , فيسمح لها الانغماس في الملذات ولو لماما , ومهما حاول منعها بعد ذلك فلا يقدر , لأنها تكون قد ذاقت الشهوات فأحبتها , كمتذوق الخمر او مجرب المخدرات , لن يستطيع الصبر عنها , عند ذلك تصبح الغرائز والشهوات هي القائد المسيطر على العقل . فكلمة الركوب اذن هي وصف دقيق يعني : تذليل الركوبة وتطويعها لرغباته , فاذا قلنا فلان ركب راسه , فالمعنى الدقيق انه طوع العقل وذلّـله وسخره لرغباته وشهواته .
نغض الطرف احيانا ــ يا سادة ــ عن بعض السلوكيات التي يحدث فيها ركوب الراس فنبرر مثلا فعل رجل برم بزوجته الزنانة , فنفخ الشيطان في منخره وركب راسه , فيخرجها من البيت في ليلة شديدة البرودة , ويحلف عليها يمين طلاق لا تدخل حتى تعد نجوم السماء . وقد نغض الطرف عن فئة من الشباب نفخ الشيطان في مناخرهم وركبوا رؤوسهم واصروا على افتعال مشادة مع الدرك , ليفسدوا مباراة ليست لصالح منتخبهم المفضل , فينتهي الامر بعصّابات ولفائف على الرؤوس والايدي والاقدام .
أما الذي لا يمكن التساهل فيه ــ ايها السادة ــ ابدا وغض الطرف عنه ان يصل العنف وركوب الراس لان يصبح ثقافة مجتمع , فتجد العنف في صروحنا العلمية وتحت ارقى صروحنا السياسية ومنابرنا الاعلامية , وفي الشارع والبيت والمدرسة .
مدارسنا وجامعاتنا (عنوان حضارتنا ) تتحول احيانا الى ساحات حرب ضروس كداحس والغبراء وحرب البسوس , و يا لثارات كليب . مع ان كليبا مات من زمن بعيد , وان كانت البسوس ما زالت تعيش بيننا , وتعشش وتفرخ في عقول الكثير منا .
وتجده ايضا تحت قبة البرلمان ارقي صروحنا السياسية , فقد اصبحت لغة الحوار السائدة بين نواب الشعب وممثليه هي التضارب بالأيدي عند أي اختلاف في الراي , فيركب الكثير منهم راسه , فتسود لغة الشتائم والسباب والمناكفات , تليها الوساطات لحل النزاعات والتي عادة ما تنتهي على موائد الغداء , وتضيع القضية التي سببت الخلاف على حساب الوطن والمواطن . اما منابرنا الاعلامية فحدث ولا حرج فهي ايضا ساحات حرب وخصومات وتصفية الحسابات وفضائح .
هذا العنف ــ ايها السادة ـــ اذن اصبح ثقافة مجتمع , وعلينا ان لا ندفن رؤوسنا في الرمال , ونواجه الخطر قبل استفحاله بكل شجاعة وعزم واصرار . ولابد ونحن ندق ناقوس الخطر ان تتضافر الجهود من المختصين في التربية الاسرية , والارشاد النفسي والتربوي والاجتماعي , و برعاية فاعلة وصادقة من الحكومة لكبح جماح هذا العنف , الذي يجسد ظاهرة باتت تؤرق المجتمع وتثير الرعب بين اولياء الامور في المدارس والجامعات .
الذي يريد البحث في هذا الموضوع لابد ان يبدا من قاعدة الهرم ــ اي الاسرة ــ فربما يكون السبب كامنا في عدم استقرار الاسرة ماديا ومعنويا , وقد يشاهد الطفل عنفا بدنيا او معنويا من احد الوالدين تجاه الاخر , فيُغرَسُ ذلك في ذهنه , يخرجه عندما يكبر , او ربما يكمن العنف في نوع البرامج التي يشاهدها الاطفال عبر الفضائيات المختلفة , تنتقل معهم الى المدرسة ثم تكبر معهم لتدخل حرم الجامعة ومجالات العمل وقبة البرلمان . او ربما يكمن السبب في موروث اجتماعي ؛ هو مسؤولية ابن العشيرة او البلدة عن ابنة عشيرته او بلدته , اذ تأخذه الغيرة والحمية فلا يسمح لأي شاب التقرب منها والتحدث اليها , حتى لو كان زميلا ومهما كان حديثه بريئا . فيثير حربا يستنهض فيها الهمم والحمية والنخوة لدي افراد القبيلة والقبائل المتحالفة معها في حرب مقدسة دفاعا عن شرف القبيلة , واللافت للانتباه في هذه الحالة : التعصب والتكتل والغاء العقل والتعامل بلغة اليد والسلاح , بعيدا عن اي حوار . اذن لا بد للباحثين من تحديد اسباب العنف ليعالج معالجة علمية صحيحة , واذا عرفت العلة سهل العلاج ,ومهما كان مرا فمرارته تحتمل اذا كانت الغاية هي الشفاء . وطبتم وطابت اوقاتكم .