مشاعر تكاد تحتضر
ومضت أيامي سريعا بعد طلاقي ، ربما كانت أمومتي أقوى من حبي، وطرق بابي زوجا جديدا...
وظللت غارقة في حلمي القديم حتى انتصر الواقع على الحلم، لعلي أشعر بجنين يتحرك في أحشائي...
ومرت الأيام سريعا، أتأهب لاستقبال التوأم الذي حلمت به طوال السنوات السبع الماضية، ربما سيصلا متأخرا بعدما تجاوزت الخامسة والثلاثين.
و بدأت أعد العدة لمقدم الضيوف الجدد، فكم انتظرت قدومهم بشغف!!!
لكن سرعان ما تحول الحلم إلى سراب؛ كنت أسير يوما في الطرقات، غارقة في بحور مخيلتي ولم انتبه أن حافة الرصيف مكسورة ... وقعت... ارتطمت بطني بحجر... تأخرت سيارة الإسعاف قليلا حتى نقلتني إلى المستشفى...
كدت أصاب بجنون عندما علمت أنني فقدت أمومتي للأبد...
ومرت أياما صعبة، لا أحد يستطع أن يلتقط كلمة من بين شفتاي، ربما تكون مشاعر زوجي تجاهي قد أصابها ما أصابها، أشعر الآن أنني لم أعد امرأة كاملة؛ ينقصني أهم شئ ينتظره...
ها هي الأيام تأتي سريعا لتُذيقني مرارة الكأس الذي تجرعه طليقي، ها أنا اليوم عيناي مثبتتان على فم زوجي انتظر الحجر الذي سوف يلقيه في وجهي؛ فرجل تجاوز الأربعين ليس أمامه وقت ليضيعه، لابد أن يأتي بوريث لثروته....
إن طال الأمد أم قصر سأخرج من هذا البيت، وأعود للبيت الخاوي على عروشه منذ رحيل أبي وأمي.
سوف يُفكر أي رجل ألف مرة قبلما يتزوج من نصف امرأة، وإن تزوجها فكيف ينظر المجتمع لسيدة تتزوج للمرة الثالثة؟
من الأفضل أن أظل قابعة في صومعتي انتظر يوم الرحيل....
ومرت الأعوام مرور السحاب، ربما أخرني المرض عن موعد كل شهر.
رحم الله أبي ؛ لولا معاشه وبيته ما تدبرت أحوالي.
ها أنا اليوم أسير في طريق كل شهر، ربما خرجت مبكرا، فلازال الصغار في طريقهم إلى روضتهم، ربما حلمت يوما أن يكون أطفالي بينهم...
تلك الورود الحمراء التي في أيديهم كُنت أشتري مثلها لأمي قبل أن ترحل، كم كانت محظوظة؛ كان لديها من الأبناء أربعة، ظلوا حولها طوال فترة مرضها، حملوها على أعناقهم يوم رحيلها....
آه، لقد ضاقت بي الدنيا بما رحبت، حتى حضن أمي أضحى بعيد المنال...
لأزور قبر أمي اليوم...
لانتبه فالسيارت مسرعة، ربما كلفي الغوص في بحار الذكريات المؤلمة ألما جديدا...
احترس يا فتى، لنعبر معا.
أذاهب إلى روضتك؟
لأوصلك في طريقي...
أهذه الزهرة لوالدتك أم للمعلمة؟
لا زالت صورته أمام عيناي، لا أدري إن كنت جرحت مشاعره، وجعلت دموعه تنهمر...
ها أنا قد وصلت إلى قبركِ يا أمي، ربما اعتقدت أن المقابر خالية من البشر، لكني وجدت مئات الأمهات الثكلى، ربما تذكرت استشهاد أخي الأكبر....
ووجدت أيتاما لا حصر لهم، أنها القسوة التي تطل من تلك العيون المتجمدة التي سمحت لهؤلاء الصغار بزيارة المقابر اليوم...
ربما خطرت ببالي فكرة، لماذا لا أتبنى طفلا ؟
تذكرت، يجب أن أذهب لأشترى هدايا للأيتام...
أريد أن أتجول في الطرقات قبلما أذهب إليهم ، ربما هدأت أعصابي، فما رأيته اليوم ليس بقليل.... حقيقة عشتُ طوال السنوات الماضية ولم أُعير مشاعر الآخرين أي اهتمام، كم كنت أنانية.....
لا أدري كيف ساقتني قدماي إلى هنا، مضت الأيام وتغير شكل المكان، ربما كنت أتمشى أخر مرة على الرصيف المقابل وحدث ما حدث!!!
يا إلهي، صوت ارتطام شديد، ربما وقع منزلا من تلك المنازل العتيقة التي كُنت أسير تحتها ، ليتني تأخرت، ربما لقيت حتفي معهم...
تصلبت قدماي، لا استطع الالتفات لأرى ما حدث، يبدو أن الأمر خطير؛ فالكلمات المتناثرة من أفواه المارة توحي بذلك :
انفجرت قنبلة، ربنا يستر
يبدو أن الحادث مروع؛ أشلاء ... أجساد مشوهة... دماء تسري على الأسفلت... يد طفل بلا جسد، يا لها من وحشية وقلوب لا ترحم....
سيارات الإسعاف والشرطة أتت بسرعة...
مشهد ليس بجديد، يتكرر على الأراضي المحتلة، ربما كانت مشاعري تتأذى منه، لكني اليوم أشعر كم تساوي اللحظة التي يفرق فيها الموت بين الأم وأطفالها....
لأُغادر هذا المكان ؛ فكل شئ يذكرني بتلك اللحظات التي فقدت فيها توأمي...
طفلة صغيرة تصرخ، الكل يهرول ولا أحد يُعيرها اهتمامه، يبدو أنها فقدت أحد أبويها في الحادث....
لأقترب منها، لأحملها على كتفي، يبدو أن الصدمة أثرت عليها، يجب أن أأخذها بعيدا لتهدأ، وبعدها أُسلمها للشرطة...
هدأت قليلا، لكن حركاتها والأصوات التي تُصدرها توحي بأنها ليست طفلة عادية....
للأسف ذهبت إلى الشرطة مرات، وزرت المصابين، ورجعت إلى مكان الحادث رغم ما يسببه لي من ألم، ونشرت نداء في الجرائد ، لكني لم أصل إلى أهلها...
اليوم قد مر على وجود "هند" عندي سنة كاملة، وقررت أن احتفل بعيد ميلادها في هذا اليوم....
لم يعد لها غيري، يجب ألاّ أهملها، سوف أعرضها على طبيب متخصص، فهى أمانة عندي...
ورغم كل شئ تعودت عليها، وساعدني وجودها على اجتياز الأزمة، ولعلي وجدت من يؤنس وحدتي، ويوقظ المشاعر التي كادت تحتضر بداخلي. أصبحنا لا نفترق، كل يوم يزداد ارتباطنا معا...
هي الآن منتسبة لإحدى مراكز التدخل المبكر، ويرى الأخصائيون أن حالتها النفسية أصبحت مستقرة وأنها تتقدم بسرعة، مدرسة التخاطب ترى أنها سوف تُقبل في المدرسة...
لكن لا أحد يعلم ما يخبئه القدر، ربما عاودني المرض، وفارقت الحياة، فلمن أتركها... من سوف يرعها... سأهب لها هذا المنزل، لعله يضمن لها حياة كريمة...
آيات شعبان
ساحة النقاش