كانت الركاكة والضحالة حاضرتين بقوة في خطبة السيسي التي بدا، من صياغتها وطريقة إلقائه المتسرّعة، المضحكة، لها، أنه لا يعبأ بما يقرأه، ولا يهتم بما يردّده، يقيناً منه أنه لو قال "ريان يا فجل" سيصفّق له الجالسون والجالسات فوق مقاعد التشريع والرقابة، ممّن لا يشغلهم شيء أكثر من الكاميرات والتقاط صور "سيلفي". ولذلك، جاء خطابه أشبه بما تسمعه من أي مندوب تسويق يلقي إليك بالسلعة ويجري. لا جديد سوى اجترار مجموعة الأكاذيب والأوهام التي أسقطتها وقائع الأيام، قناة سويس وبنية أساسية وكهرباء، وبناء دولة، وكأنه يخطب في شعب من العميان والمغيّبين، واثقاً من أن أحداً لن يرد له كلمة، ولمَ لا وهو ابن الصنم الأكبر في البلاد، ابن المؤسسة العسكرية، كما قدّم نفسه للبرلمان الذي يدّعي أنه جاء لبناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة. نعم، هو سليل الدولة العسكرية الأمنية. هكذا يرهب من يسمعه، هو ابن "اللات والعزى" أو الجيش والشرطة، في مجتمع جاهلي تم صهره وسبكه حديثاً على نار الخوف والفزع والجهل، فمن يجرؤ على الاعتراض أو السؤال؟ كالعادة، يستدعي فزاعة "المؤامرة والمخطط" لتسويغ الفشل، وتمرير الجريمة التي باتت لا تقتصر على الداخل فقط، إذ صار إجرام النظام دولياً، وها هي فضيحة الشاب الإيطالي جوليو تتسع وتتمدد، وتجود، كل يوم، بأسرار وحقائق، تضع النظام كله في قفص الاتهام بالإجرام العابر للقارات.
*** كنا نندهش من الصمت الذي يخيم على الدبلوماسية المصرية، كلما فضحت "إسرائيل" سراً من أسرار علاقاتها الخاصة جدا بعبد الفتاح السيسي، ونتساءل لماذا لا يصدر تكذيبٌ أو نفيٌ رسمي لأخبار ماسة بالشرف الوطني، ومشينة من نوعية ما حمله تصريح وزير البنية التحتية الإسرائيلي عن شن نظام السيسي حرب المياه على قطاع غزة، تنفيذا لطلب إسرائيلي.
واقع الحال يقول إن هذه النوعية من الفضائح بات السيسي يتطلع إليها، ويتمناها، وينتظرها بشوق إن تأخرت، كونه مدركاً أن استمراره في مقعده مرهون بالرغبة الإسرائيلية، ويمد بصره دائماً ناحية الرأي العام الإسرائيلي، وليس المصري، وينشغل أكثر بتنامي شعبيته بين المستوطنين الصهاينة، لا المواطنين المصريين.من هنا، لا غرابة في أن تصمت القاهرة إزاء ما كشفه، أمس، موقع صحيفة "ميكور ريشون" اليمينية الصهيونية، أن السيسي تغزل في عظمة رئيس وزراء العدو الصهيوني، بنيامين نتنياهو.
*** يثبت كل يوم يمر أن حرص السيسي على "العسل الإسرائيلي" أكبر بكثير من اعتماده على "الأرز السعودي". وعلى ذلك، فإن موقفه من الموضوع السوري يتحدد على ضوء القراءة الإسرائيلية، وما دامت "تل أبيب" حريصة على عدم سقوط بشار الأسد، وتريد الحفاظ عليه، مهاناً كسيراً ذليلا، فإن السيسي لا يملك أن يجدف بعيداً، في الاتجاه الآخر، حتى وإن كان قاربه بأموال السعودية.
الحالة السورية كاشفة لعقيدة نظام، يستطيع أن يبدل تكتيكات الحصول على الأرز، لكنه غير مستعد للتخلي عن ارتباطه الوجودي، الاستراتيجي، بإسرائيل.
** منظومة الحكم في مصر تدور في الفلك الإسرائيلي، وتعرف جيداً أنها باقية، ما بقيت الرعاية الإسرائيلية، رسميا وشعبيا، لها.
*** سيد بلال الذي مات في أثناء التحقيق معه ومحاولة استنطاقه بالقوة، للحصول على معلوماتٍ بشأن جريمة الكنيسة، وكأن إلصاق كلمة "سلفي" باسمه يكفي مبرراً لكي يموت في أثناء تعذيبه، وفقاً لاتهام أسرته الشرطة.
حتى "بارونات السلفية" في الإسكندرية في ذلك الوقت، برهامي وشركاه، والذين تطوروا إلى حزب النور فيما بعد، لم يطالبوا بحقه، ولم يخرجوا في تظاهراتٍ صاخبةٍ تطلب القصاص من القتلة، بل إن ياسر برهامي، الرجل الأول في الدعوة السلفية، حينذاك، منع الشباب من التظاهر من أجل زميلهم الشهيد.
هل هي المصادفة التي جعلت سلفيي الإسكندرية من أتباع برهامي والشحات، هم أول خنجر استخدمته سلطة المجلس العسكري في ذبح قضية شهداء ثورة يناير، بأن أطلقتهم أجهزة الدولة العميقة على أسر الشهداء، تفترسهم بسلاح الفتاوي، وتقنع عددا منهم بالتنازل عن حقوقهم، لقاء تعويضاتٍ مالية ورحلات عمرة؟
كشفت الأيام، فيما بعد، أن العلاقة بين سلفيي برهامي والشحات، وامتدادها السياسي، ممثلا في حزب النور، كانوا بالنسبة لوزارة الداخلية، بمثابة سلاح الشؤون المعنوية بالنسبة للمجلس العسكري، يلعبون الأدوار نفسها في هدم المعاني وعبادة المباني، مع فارق بسيط، هو أن قيادات "السلفية النظامية" أي تلك المصنعة بمعرفة النظام، يوظفون النصوص الدينية توظيفاً فاسداً، للسيطرة على وعي الجمهور البسيط، فيما تشتغل"الشؤون المعنوية" على تسييد مفاهيم ونصوص وتعريفات فاسدة للوطنية.
*** عبد الفتاح السيسي هو ما ترسب في قاع الكأس "الصهيو- أميركية" الذي تجرعته مصر منذ زمن أنور السادات، ثم حسني مبارك، وهو الكأس الذي حاولت ثورة يناير 2011 تحطيمه، والتحرّر منه، غير أن المحاولة ضُرِبت وطُعِنت. للأسف، ويا للمفارقة، كان الأستاذ هيكل من الأدوات التي استخدمت في ضربها، حتى وإن كان قد عبر، في أيامه الأخيرة، عن خيبة أمله في ذلك الذي اعتبره يوماً "الرئيس الضرورة"، بل وأكد على عدم كفاءته، ودرايته بوطن اسمه مصر.
*** يمكن النظر إلى البهرجة والإمعان في الاستعراض الرسمي "السيساوي" بجنازة بطرس غالي، الرجل الوفي لمشروع ارتهان مصر للتصور الأميركي والإرادة الإسرائيلية، حيث لا يدع عبد الفتاح السيسي فرصةً تمر، إلا ويظهر فيها التزامه بنصوص "التلمود السياسي" لإسرائيل التي تعتبره حلمها الجميل، ويعلن هو أن رئيس وزرائها يصلح لقيادة المنطقة، بعد شهور من إعلان الأخير أن إسرائيل ومصر السيسي في حلف واحد.
*** وصل الجنون في مصر إلى الحد الذي صارت معه عبارة "جزاك الله خيراً" دليلاً مادياً لاتهام قائلها بالإرهاب، كما جرى في مدينة بنها حين ارتاد أربعة شباب مقهى للفرجة على مباراة، فسألهم النادل عن نوعية دخان الشيشة الذي يريدونه، فكان ردهم "جزاك الله خير نحن لا ندخن" وما هي إلا دقائق، حتى كانت قوات الشرطة قد حضرت للقبض على الإرهابيين الأربعة الذين أبلغ عنهم النادل النذل.
أكرّر هنا التأكيد على ما قلته مراراً إن مصر تستطيع أن تتعافى من مرضها السياسي، وتتخلص، بعد حين، من كل هذه الفيروسات القاتلة للديمقراطية والمعطلة للتطور السياسي.
لكن، كيف لها أن تشفى من نزيفها الإنساني والأخلاقي؟ من أين لها بروافع حضارية، تنتشلها من تحت أنقاض سقوطها الإنساني، واستقرارها في قاع العطن المجتمعي، حيث يسلّم الأب ولده للشرطة، ويحصل على المكافأة، ويبلّغ الموظف عن زميله، وينال الترقية، ويتحوّل الطالب إلى مرشد في أروقة جامعة، لا يصل إلى رئاستها إلا من تختاره أجهزة الأمن؟ ويرى الأستاذ زميله يموت تعذيبا فيصمت مذعوراً، أو يدخل في عمق الحائط، لا يجرؤ حتى على السير بجانبه؟
*** المأساة الإنسانية في منطقة "الدرب الأحمر" بالقاهرة تُجسد، بشكل كامل، انتحار مفهوم الدولة في مصر، جريمة قتل راح ضحيتها مواطن تمرد على جبروت أمين الشرطة، فأطلق عليه الرصاص. هنا المواطن ضحية أمين الشرطة، والأمين ضحية نظام حكم يكرس في ذهنه طوال الوقت أن "الجيش والشرطة" عادا الصنمين المقدسين، على المواطن، لكي يكون صالحاً، ألا يغضبهما، أو يراجعهما، أو يجادل بشأنهما.
في الخلفية، هناك جيش من الإعلاميين والسياسيين يؤدون أدوار الكهنة في معابد "جيشنا وشرطتنا"، ليس إيمانا كاملا بهما، وإنما استثماراً في التزلف، وتربحاً من تجارة الأيقونات وتماثيل الآلهة. ولذلك، كانت الصدمة مروعة، حين تجرأ الأطباء، وأقدموا على تحطيم صنم الداخلية، ولم يصدق "أمين الشرطة المقدسة" نفسه، وهو يرى مواطناً يرفض تقديم فروض الولاء والطاعة له، فقتله.
*** محمد مرسي وصل إلى القصر، رئيساً، في مفتتح يوليو 2012، وبدأت حفريات الثورة المضادة العميقة ضده بعد 54 يوماً، فقط، حيث كانت المليونية الفقيرة التي رعاها العسكر والداخلية والقضاء، في الرابع والعشرين من أغسطس من العام نفسه، لتتطور القصة سريعاً إلى عملية قرصنة على السلطة المنتخبة، طالت من خريف 2012 وتمت في صيف 2013. وطوال تلك الفترة، كان حكم محمد مرسي محاصراً في القصر، ومحارَباً في كل مساحة تبزغ فيها ملامح إنجاز حقيقي، مثل طفرة محصول القمح، أو النجاح في حل معضلة الخبز المزمنة، ومخنوقاً بأزمات اقتصادية واجتماعية، مصنوعة في مطابخ الدولة العميقة، بأضلاعها الثلاثة "جيش- شرطة- قضاء". قبل أن يتسلم محمد مرسي منصبه الرئاسي، كمرحلة متممةً لبناء مؤسسات الدولة، كان العسكر والقضاة قد كسروا جناح الدولة التشريعي، إذ قرّرت المحكمة الدستورية حل مجلس الشعب، وإزالته من الوجود.
كان جميع الممتعضين من وصول رئيس مدني، فلاح، بسيط من عامة الشعب، إلى الحكم، يسكبون زيتاً ويجمعون حطباً، ويشعلون الحرائق في التجربة
*** حالة الهياج التي تنتاب مجموعات حراسة القافلة الكسيحة، هذه الأيام، في أنهم يتشمّمون رائحة موجات جديدة من الاستبعاد، في إطار منهجية التخفف من الأحمال الزائدة. وهنا، تستطيع أن تضع هذه "الحملة القومية المضحكة" ضد أمناء الشرطة، تبعاً للقاعدة الكلاسيكية التي تقول إن الكبار حين يشعرون بالخطر لا يجدون غضاضةً في حرق الصغار، والتضحية بهم. هكذا قانون الطبيعة الذي ينتخب "أرانب العشب الصغيرة" والكائنات الأقل حجماً، للموت، كي تستمر الأفيال وكبار الوحوش في الغابة على قيد الحياة. وفي الغالب، حين يصطدم الكبار، يكون الفناء ثمناً مناسباً يدفعه الصغار، ثم تأتي مرحلة لاحقة، لا يجد الكبار بداً من تصفية بعضهم بعضاً، بدءاً بالأقل حجماً، صعوداً، حتى تأتي لحظاتٌ يقدم بعضهم فيها على الانتحار.
في "عالم السيسي"، تجد شيئاً من ذلك يتصاعد، كلما تراكمت علامات تعثر القافلة، واتجاهها نحو العطب الكامل. فمن كان يتصور أن "بطل الجريمة المقدسة" الذي ادّعى أن فظائعه الأولى بحق معارضيه إنما كانت من أجل حماية البلاد من الاحتراب المجتمعي، والاقتتال الأهلي، يقف متفرجاً، بسعادةٍ غامرة، على صيرورة قانون الانتخاب الطبيعي التي تفضي إلى التخلص من الأصغر، ثم الصغير، توالياً، حتى تصل إلى عالم الكبار؟ ومن كان يتخيّل أن أمناء الشرطة "الحواتم الصغار" سيأتي عليهم اليوم الذي يهتفون فيه ضد الضباط "الحواتم الكبار"، ويعايرونهم بالعبارة اللطيفة "أبو خمسين في المية"، فيرد الكبار بالسخرية من "اللي ساقط إعدادية"؟ أو يأتي وقت يتلاشى فيه النائب البرلماني المعين، المثقف الأديب يوسف القعيد، فلا يُسمع له صوت، أو يراه أحد بالعين المجردة، تحت قبة البرلمان، بينما يصيح زميله المنتخب، المتمرد، توفيق عكاشة، مطالباً بانتخابات رئاسية مبكرة، ويُحدث شغباً يؤدي إلى طرده من تحت قبة البرلمان؟ لقد أصيب النظام كله بخلل في الدماغ، أدّى إلى نوباتٍ من التشنّجات العصبية، تصل إلى حد الهلوسة، تتفاقم كلما غاصت القافلة في مستنقعات الفشل وقلة الحيلة، فتجدهم يتناوشون ثم يتعاركون، وكلٌ يدّعي أنه الأنفع للحراسة، بينما الآخرون "كلاب سعرانة جربانة"، بينما الواقع ينطق بأن القافلة لا تسير، لكن العواء على أشدّه.
*** كانت المسألة السورية حاضرة في لائحة الأسباب التي دفعت بالمجموعة ذاتها من اللاعبين إلى التعجيل بإنهاء تجربة حكم محمد مرسي في مصر، سريعا، فكان ثالوث "الرغبة الإسرائيلية والرضا الأميركي والتمويل الخليجي" فاعلاً، ولا يزال، يؤدي دوره بدأب في الإجهاز على ما تبقى من ملامح ثورةٍ في سورية وليبيا.
حتى شهور سبقت على الانقلاب العسكري "الثلاثي" في مصر، كنت ومازلت أتعامل مع التحليلات التي تتحدث عن أصابع متصهينة، تمتد إلى تفاصيل المشهد السياسي في مصر بكثير من التحفظ وعدم التصديق،
حتى جاءت تصريحات وزير الخارجية الأميركى الأسبق، ذي الميول الصهيونية الواضحة، هنري كيسنجر التي أطلقها، في المؤتمر السنوي لمجلس العلاقات الخارجية الأميركي في نيويورك، مارس 2013، واعتبر فيها أن المخرج في مصر هو مواجهة مسلحة بين الجيش المصرى و"الإخوان المسلمين"، لإزالة آثار ثورة يناير التي أصابته بالحزن على سقوط حسني مبارك، فقال نصاً "كان على الولايات المتحدة أن تعامل مبارك باحترام أكثر مما فعلت، فلم يكُن هناك ضرورة تدعو الإدارة الأميركية إلى أن توجه دعوات علنية لمبارك بالرحيل من خلال شاشات التليفزيون"
*** يعرف عبد الفتاح السيسي أن أحداً في الخارج لا يهدّد مصر بالغزو والاجتياح، ويمتلك علاقات تصل في حميميتها حد الخطيئة، مع العدو الوحيد لمصر والمصريين، حتى أن مضمون خطابه عن مصر لا يختلف عن خطاب رئيس الكيان الصهيوني عنها، إذ لا فروق تذكر بين أن يقول السيسي إنه أنقذ مصر من مؤامرة "الدولة خلال السنوات الأخيرة مهددة تهديداً حقيقياً وما زالت" وأن يقول رئيس إسرائيل، رؤوفين ريفيلين، إن "السيسي حمى مصر من الأصولية، وحال دون تحوّلها إلى دولة شريعة".
إذن، من أين ينبع الخطر الذي يستشعره السيسي على نفسه، ويجعله يصرخ بكل هذه الهيستيريا، عارضاً نفسه للبيع من أجل مصر، أو كما قال بنص العبارة "والله العظيم لو ينفع انباع انباع"؟
*** السيسى كان يتحدث عن التنمية المستدامة، وتصوّر "مصر 2030"، فجاء الخطاب منقولا، بتصرف ركيك، من أرشيف معمر القذافي، معبّراً عن حالة من فقدان الاتزان، وغياب الوعي، والتغييب الكامل لمفهوم الدولة، لتجد أمامك شخصاً مشوّش الفكر، زائغ البصر، يشعر بالخطر، من اقتراب سقوطه، فراح يحدّث الشعب باعتباره مجموعة من البلهاء، هو وحده الذي يحميهم، ويعرف مصلحتهم، ومن ثم لا يجب أن يستمعوا لأحد غيره.
*** يقولون إن بعض الكائنات تمتلك حاسّةً تجعلها تشعر بالزلازل قبل وقوعها، فتُقدِم على فعل أشياء غير مفهومة، كأن تخرج الماشية والخيول من الحظائر، وتهرب الفئران من الجحور، وتقفز الأرانب بدون هدف، وتفرّ الثعابين من جحورها.
أنظر إلى الوضع في مصر الآن، ستكتشف أنها تعيش ما يشبه لحظة ما قبل زلزال سياسي عنيف.
هلوسة الجنرال المشعوذ، وهو يتحدث في خطابه الأخير، علامات الفزع على وجهه، وحركات يديه المعبّرة عن حالة ذهان مستفحلة، تشي بخلل هائل واضطراب عقلي خطير، وتخبط الكائنات التي نمت وترعرت على يديه، وقفزاتها العشوائية، يميناً ويساراً، وإلى الأعلى.. كل ذلك يجسّد إحساساً بالخواء والعدم.
في وضع شديد الارتباك والاضطراب على هذا النحو، من الطبيعي أن يسأل عبد الفتاح السيسي، مرتجفاً: من أنتم.
*** الآن، يعيش السيسي حالة انكشاف، تبلغ حد التعري، على الصعيدين الدولي والإقليمي، تجعله يستشعر أن زمن الحضانة انتهى، وجاءت لحظة الفطام، فيستجمع كل مفردات التهوّر والجنون، صارخاً في وجه الجميع: من أنتم؟
** نحن الذين نعرف قدر مصر، ولا نتسوّل بها، أو عليها، ولا نقتادها، عنوة، إلى فراش أعدائها./ نحن مصر الكريمة العزيزة، لا مصر الذليلة التي تمدّ يدها تسوّلاً.. مصر التي تحفظ تاريخها وتعرف جغرافيتها، القادرة على التمييز بين أشقائها وأعدائها./نحن مصر التي ليست في خندق واحد مع إسرائيل، التي تعتبرك بطلها القومي وهدية السماء لها، مصر التي لا تقتل أبناءها، ولا تبيع كرامتها./نحن مصر سعد الدين الشاذلي وسليمان خاطر وعبد العاطي صائد الدبابات.. لا مصر عبد العاطي دجال جهاز الكفتة./ نحن مصر التي غنّت للبندقية الفلسطينية، لا مصر التي تعتبر الكوفية الفلسطينية دليل اتهام بالإرهاب./نحن مصر العلم، مصر مصطفى مشرفة ويحيى المشد وسميرة موسى وعصام حجي، لا مصر الدجل والخرافة./نحن مصر الشيخ رفعت وصلاح جاهين وفؤاد حداد وأمل دنقل.. لا مصر عكاشة ومرتضى وسما المصري./نحن مصر 25 يناير، المذبوحة على يديك في ميدان التحرير وماسبيرو وملعب بورسعيد ومحمد محمود ومجلس الوزراء ورابعة العدوية والنهضة ومسجد الفتح./نحن مصر سندس رضا وشيماء الصباغ، فمن أنت؟ أنت مين؟
*** ليس ما أقدم عليه "عكاشة نظام السيسي" تصرفاً مجنوناً من شخصٍ أخرق، وليس انسلاخاً عن السائد، بل هو التجسيد الحقيقي لرؤية عبد الفتاح السيسي، وفلسفته في حكم مصر، وعلاقتها بإسرائيل، ومن ثم لا تنخدع في هذا الصراخ الهستيري من "القومجية" المحترفين، وقطط النضال الحنجوري السمان، فالسيسي قطع أشواطاً أبعد بكثير ممّا ذهب إليه "العكاشة".
كل الوقائع تقول إن عكاشة هو بمعيارٍ ما "حصان طروادة لدولة السيسي"، منذ خمس سنوات مضت.. هل أذكّرك بالمنشور الرسمي الموزّع على الوحدات العسكرية في 2011 بفرض فضائية عكاشة وبرامجه حصة وحيدة للمشاهدة في عنابر الجنود؟ دعني أعود بك إلى الأيام التالية لفوز الدكتور محمد مرسي برئاسة مصر، حين نشرت صحيفة الوفد تقريراً مترجماً عن صحيفة إسرائيلية، يتضمن رسالة استغاثة من ذلك العكاشة للكنيست الإسرائيلي، كان نصها "أستغيث من سوء معاملة الرئيس المصري الجديد القادم من الإسلام السياسي الذي ما إن استقر على كرسي الحكم، حتى تخلّص من المشير طنطاوي العاقل الفاهم بأن مصلحة مصر من مصلحة إسرائيل، وجاء بشاب كوزير دفاعٍ لا يعي ولا يفهم كيف تُدار الجيوش، وأجرى تغييراتٍ في كل قيادات الأسلحة، وأقال اللواء مراد موافي من المخابرات، وأطاح بكل أصدقاء إسرائيل، ليبدأ عهد البغض والعداوة من جديد". واختتم رسالته، والعهدة على جريدة الوفد، بهذه الجملة "إني ربي وربكم واحد، وعدوي وعدوكم واحد هو الإخوان".
وبعد هذه الفضيحة مباشرة، كان أحد أعضاء المجلس العسكري يجري مداخلةً هاتفية مع عكاشة على الهواء، ويقول له "ليت كل الإعلاميين وطنيين مثلك يا توفيق"، فلمَ الدهشة هنا، إذا كان العسكر اعتبروه مبكراً للغاية معيار الوطنية؟
والثابت أن عكاشة الآن هو عكاشة زمان. لم يتغيّر فيه شيء، خصوصاً كفاحه من أجل إسرائيل، على مرأى ومسمع من الجميع. لذا، يقول الوضع الحالي، باختصار، إن عكاشة وبكري ومرتضى والمجلس الموقر، في مهمة استطلاع رسمية، عبّر عنها المذيع الصهيوني ومحاور حسني مبارك الأشهر، عوديد جرانوت، بقوله إن "عبد الفتاح السيسي يستخدم النائب توفيق عكاشة في التمهيد لتطبيع ثقافي وإعلامي واسع بين مصر وإسرائيل".
*** قيل إن كمال أحمد كاد أن يسقط من شدة انفعاله، بعد "موقعة الحذاء"، وهذا حقيقي، ويعبّر عن أزمة وجودية، تعصف بكل من يريد أن يبقى قابضاً على احترامه ذاته، وسط منظومة سياسية تلتحف بإسرائيل، وتتغذّى على حليبها، غير أن السؤال هنا: ألا يعلم كمال أحمد أن المشكلة ليست في "عكاشة الصغير"، وإنما الكارثة الحقيقية تكمن في "عكاشة الأكبر" الجالس في سدة الحكم، بقوة الأمر الواقع الإسرائيلي؟
ألا يدرك كمال أحمد أن مصر باتت "دولة عكاشية" حتى النخاع؟ وأن في كل مفصل من مفاصلها "عكاشة"، ليصبح وزير العدل فيها هو"عكاشة القضاء"، كما أن إلهام شاهين "عكاشة الفن التجاري"، بالإضافة طبعاً إلى "عكاشة الإعلام" الأصلي، وثلاثتهم كانوا الأوفر جهداً والأكثر نشاطاً في خدمة مشروع الثورة المضادة لوضع "عكاشة عسكري" في سدة الحكم؟
*** من جديد، يطل حمدين صباحي برأسه، ممسكاً بلعبة “البديل المدني”، محدثا أكبر قدر من الجلبة، في حدود قدراته، في ظل الصمت الذي يلف المسرح، بعد إسدال الستار على عرض “عكاشة”، وسحبه من الأسواق مؤقتاً.
كل منتجات صباحي المعلبة تدور حول فكرة أساسية: معارضة النظام، دعماً للسيسي، والبحث عن غطاء سياسي وأخلاقي لجريمة أو فضيحة 30 يونيو/ حزيران 2013، إذ يمعن في لصق عباراتٍ على غلاف بضاعته، تزاوج بين ثورة يناير والانقلاب عليها.. وبالتالي، لا يمكن النظر إلى طروحات حمدين وجماعته، إلا على ضوء الوظيفة المحددة له من منظومة عبد الفتاح السيسي، وهي القيام بدور المعارض للبطل الأوحد، ولا مانع من أن يكتسي ببعض الشراسة أحيانا. لا خلاف مع حمدين وشلته على أن مصر باتت بحاجة ماسّة لبديل، وأن هناك بدائل كثيرة، بيد أن المؤكد أن هذا البديل ليس حمدين صباحي، ولا عبد الفتاح السيسي الذي ينطلق حمدين، في كل مبادراته وحركاته، من وإلى دعمه.
*** مشكلة حمدين وصحبه أنهم لا يريدون الاعتراف بأنهم أدوات استعملت حتى بليت، وأكل عليها الدهر وشرب، فقد قبل حمدين وحزبه الخدمة في بلاط حزب الحرية والعدالة الإخواني، عندما كان فرس الرهان في انتخابات البرلمان الأول بعد ثورة يناير، ولم يجد غضاضةً في الاستثمار مع “تيارٍ ينتهك جلال الدين وقدسيته”. ثم حين فشل في انتخابات الرئاسة، ولم يتحمل أن يرى إخوانياً في الاتحادية، سارع إلى الخدمة عند فلول حسني مبارك، ارتضى أن يستعمل في الثورة المضادة، ثم كان سعيداً عند استعماله “دوبلير” في خدمة الزعيم الذي قال له حمدين “يا سيسي ويا سيدي”.
لذلك كله، لا يمكن النظر إلى مبادرة يطرحها حمدين صباحي، إلا باعتبارها قطعاً للطريق على تحركات أو أفكار أو تحالفات تشكل خطراً، ولو بسيطاً، على سلطة عبد الفتاح السيسي. لذا، لن تكون بعيداً عن الحقيقة، لو قلت إنهم بصدد إنتاج “عكاشية جديدة”، تبدو من الخارج أكثر لمعاناً وفخامة، غير أنك حين تدخل ستكتشف أن الجوهر واحد، والأعراض متعددة.
***
يلتقي حمدين، وظيفياً، مع كل العكاشات المنتشرة على جانبي الطريق، بعد رفع عكاشة الأصلي من الخدمة، بل كان الأخير يبدو أكثر شراسة في أداء الدور، حتى خرج عن حدود النص المكتوب، فتم إنزاله من المسرح، ذلك أن ما راج، في الساعات الماضية، باعتباره رؤية حمدين صباحي البديلة للوضع الراهن، لا يعدو كونه محاولة لملء الفراغ الذي تركه توفيق عكاشة، حيث يأتي البيان “الحمديني” الأول مليئا بالطرائف والمسليات، حين ينصّ على “بناء بديل حقيقي عبر تكوين وتعزيز حزب وجبهة وشبكة اجتماعية عريضة، تساهم فيها قوى وطنية ومدنية ونزيهةيمكنك أن تطلق على الفقرة السابقة “عجائب وغرائب”، فالبيان يريد حزباً وجبهة وشبكة اجتماعية عريضة في توقيت واحد، وأظن أن مبتدئ العلوم السياسية يدرك أن الحزب حزب، والجبهة جبهة، والشبكة شبكة، فكيف يجتمع ثلاثتهم في عبوة واحدة؟!