في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وهجرة أصحابه الكرام من مكة إلى المدينة عِبر ناطقة تستفيد منها الأمة عبر الدهور، إذا أرادت أن تكون وثيقة الصلة بعناصر القوة التي تستعيد بها ما كان لها من سؤدد وعزة وكرامة بين الشعوب والأمم•
فالتحول العظيم الذي حدث للإسلام بعد الهجرة سبقته جهود وتضحيات وإجراءات قام بها النبي، صلى الله عليه وسلم، ولم يحدث طفرة لأمة عاجزة عن القيام بدورها تحت مظلة السماء، فالله لا يحقق للعجزة أو المتواكلين والكسالى أي نجاح، ولا يمد يد العون للنائمين، ولكن لابد من الفعل المخلص المدروس، ثم الأخذ بالأسباب المعقولة الموصلة للأهداف المرسومة، التي اقترن بها العمل الواعي البصير، المدروس، ثم الأخذ بالأسباب المعقولة الموصلة للأهداف المرسومة، التي اقترن بها العمل الواعي البصير، عملاً بقوله تعالى في الآية 11 من سورة الرعد: (إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم)، لقد بدأ النبي، صلى الله عليه وسلم، بالأخذ بالأسباب التي كلَّف الله بها البشر، ومرَّن أصحابه الأولين عليها تمريناً قولياً مقروناً بالعمل، وظلت الدعوة تتعثر حيناً، وتنشط أحياناً على مدى ثلاثة عشر عاماً كاملة، حتى أذن الله لفجر الدعوة بالانبلاج••• نصروا الله على أنفسهم، وعلى أعدائه فنصرهم الله نصراً عزيزياً: (إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم) محمد:7، ومن سنن الحكيم أنه يبلو المؤمنين بأعدائهم ليمحصهم وإلا فهو قادر على نصرة الحق الذي أنزله بلا أنصار، ولا قتال، ولكن في هذا تثبيط همم المؤمنين وركونهم إلى الاسترخاء والتواكل، وفي ذلك يقول عز وجل في الآية 4 من سورة محمد: (ولو يشاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض)•
ولأن النصر لو جاء عفواً ما شعر المؤمنون بحلاوته، ولما أجهدوا أنفسهم في الحفاظ عليه، ولهان عليهم ضياعه، لأنهم لم يدفعوا فيه ثمناً، ولم يلاقوا فيه شدة•
بدأت الدعوة ـ وبدأ معها التمحيص والتدريب ـ تبثَّ في القلوب الإيمان، وفي العزائم الصدق، وفي الإرادة القوة•
(وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين• وليمحِّص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين) آل عمران: 140 ـ 141•
قلنا: إن الأخذ بالأسباب، هو طريق الحصول على ما عند الله، وهذا هو الذي بدأ النبي، صلى الله عليه وسلم، تدريب أصحابه الأولين عليه، فأمرهم بالصبر الجميل على ما ألحقه بهم المشركون من أذى، فكان الصبر هو أول درس تعلموه منه عليه الصلاة والسلام، وطبقوه عملياً في مواجهة أعدائهم•
ولما اشتد عليهم الأذى، وخشوا الفتنة في دينهم أرشدهم القائد الملهم إلى الهجرة إلى الحبشة، في عمليات أشبه ما تكون باللجوء السياسي المعروف في هذه الأيام، فقال لهم: >لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد••• حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه< فخرج من أصحابه من خشي الفتنة في دينه•
فعملوا بتوجيهه، وتحملوا وعثاء السفر بلا زاد يحملونه معهم إلا ما خفَّ، وكان منهم من خرج بأهله، ومنهم من خرج بمفرده، ولما لمست قريش أن الدعوة آخذة في القوة والانتشار قامت بمقاطعة بني هاشم وبني عبدالمطلب وأحكمت الحصار على المؤمنين، وبعد ثلاث سنوات من الحصار، جاء الفرج من الله ناصر المؤمنين، فسخَّر جماعة من شباب قريش أجمعوا أمرهم على نقض الصحيفة، ثم خرج، صلى الله عليه وسلم، يعرض نفسه على القبائل لنشر دعوة الله، فكانت رحلة الطائف، وعانى منها ما عانى، ثم كانت بواكير النصر الإلهي المؤزر بعد اليأس من أعوان الأرض، رحلة الإسراء والمعراج، وبعدها أخذ مسار الدعوة ينتهج نهجاً جديداً، إذ لم يعد للنبي r أمل يرجوه من أهل مكة والقرى المتاخمة، فعرض نفسه، صلى الله عليه وسلم، على القبائل الوافدة من خارج مكة، التي لم يتلوث فكرها بفكر قريش القادمين إلى مكة في مواسم الحج، وكان من ثمرة هذا التخطيط النبوي الجديد عرض نفسه، صلى الله عليه وسلم، على قبيلتي الأوس والخزرج، فكان لقاؤه بهم سراً على مشارف مكة لا في المسجد الحرام ولا في مكة، إخفاء للأمر عن قريش لأنها لو علمت لوضعت العراقيل أمامه، فكان لقاؤه بهم في مكان يُقال له العقبة، وكانوا اثني عشر شخصاً، عرض عليهم ،صلى الله عليه وسلم، الإسلام، فأسلموا وحسن إسلامهم، وبعث معهم أول سفير في الإسلام >مصعب بن عمير<•
ولم يتفرقا إلا على نية اللقاء في العام المقبل، وفي المكان نفسه•
لكن هذا اللقاء >العقبة الثانية< كان أرسخ قدماً، وأعمق معنى، وأكثر التحاماً، وأوسع مدى، وأعظم منجزات من لقاء >العقبة الأول<، فمن حيث العدد بلغ المسلمون الجدد القادمون إلى الحج ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتين، كلهم جاؤوا شوقاً للقاء النبي، صلى الله عليه وسلم، ولأداء الحج بروح جديدة ورؤية جديدة•
والتقى بهم الرسول في سرِّية تامة، وقَدِمَ معه عمُّهُ العباس ليطمئن على شأن ابن أخيه، ويسمع ويرى بنفسه ما يدور في هذا اللقاء، وإن لم يكن قد أسلم بعد، ولكنه خرج بدافع العصبية والقرابة، وكان مصعب بن عمير قد حضر إلى مكة مع وفد الأوس والخزرج ليتابع مجريات الأمور•
قبل وفد الأوس والخزرج الإسلام وهم حضور مع صاحب الرسالة، بعدما مالوا إليه قبل مجيئهم على الداعية الإسلامي مصعب بن عمير•
سمع الوفد لرسول الله، صلى الله عليه وسلم، وسمع رسول الله لهم، واشترط لنفسه إن هو قدم عليهم في المدينة ما شاء من شروط، واشترطوا هم لأنفسهم ما اشترطوا من شروط، وألقيت الكلمات، وتبودل الرأي، حتى العباس عم النبي r شارك في وقائع اللقاء، وبعد أن التقت الرغبات تم الاتفاق على نقل مركز الدعوة من مكة المكرمة إلى المدينة، على أن تتم هجرة أصحاب رسول الله r إلى المدينة قبل مقدم صاحب الرسالة، صلوات الله وسلامه عليه•
وفي هذا اللقاء التاريخي الخالد، تم أول تنظيم سياسي اجتماعي بين الأنصار >الأوس والخزرج<، فقد قال لهم صاحب الرسالة، صلى الله عليه وسلم، بعد الفراغ من الاتفاقات التي أسفر عنها اللقاء: >أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً ليكونوا على قومهم بما فيهم<، وسرعان ما قدَّموا له أسماء اثني عشر رجلاً، منهم تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس، وكان هذا التقديم بمثابة الترشيح لشغل هذه المناصب، فقاموا ليبايعوه ويشدوا على يده الشريفة، ثم تفرقوا ولم يشعر بهم أحد من قريش•
وكان هذا التنظيم النبوي نواة للدولة التي أنشئت بعد الهجرة بالمدينة•
وبعد انقضاء الموسم، أذن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لأصحابه بالهجرة إلى المدينة، على الوجه الذي يرونه، فأخذوا يتسللون من مكة، حاملين معهم ما خف من أمتعتهم، تاركين منازلهم ومتعلقاتهم وراءهم، لأن ما هاجروا إليه أغلى وأعز من الأموال والممتلكات، فقد أرخصها حب الله ورسوله، وهنا لفتة لابد من القيام بها، ذلك أن البقاء في مكة كان في مخاطرات كثيرة، من التعرض لأذى المشركين واضطهاداتهم•
ولكن الرسول القائد r آثر أن يسافر أصحابه قبله ليبقى هو آخر المهاجرين، دون أن يخشى ماذا يحدث له من خصوم الدعوة، وهذا على خلاف عادة الزعماء والرؤساء، الذين يحيطون أنفسهم بهالة من الأمن لاتقاء الشرور، لأنهم طلاب دنيا ونعيمها الزائل، أما محمد، صلى الله عليه وسلم، فما أهون الدنيا عليه، وما أعظم ما عند الله، لذلك لم يَرُعه أن يهاجر قبله كل ذي قدرة، وأن يبقى هو وحده يصول ويجول في طرقات مكة أمام أبي لهب عدوه اللدود، وأمام أبي جهل عدّوه الألد•
كان رسول الله r معروفاً عند الناس جميعاً بالصادق الأمين، حتى قبل أن يكون رسولاً، لذلك اتخذه أهل مكة موضع ثقة، فأخذوا يُودعون عنده ما يخافون عليه من أموال ومعادن ثمينة كالذهب والفضة، فلما أذن الله بالهجرة استدعى ابن عمه علي بن أبي طالب لينام على فراشه الشريف، ووضع بين يديه ما عنده من ودائع أهل مكة ليردها لأصحابها، لأن الوديعة أمانة، والأمانة أمر الله بتأديتها لمالكيها، وكان من الممكن أن يحمل هذه الأمانات ليوزعها على المهاجرين الذين تركوا ممتلكاتهم وسبقوه إلى المدينة، ولكن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم ير هذا الرأي، لأن الذين استودعوه أمانتهم لا ذنب لهم فيما حدث من عتاة مكة وظالميها•
وبعد أن هاجر من هاجر من أصحابه، ولم يبق منهم بمكة أحد إلا غير القادرين، أمره الله بأن يهاجر هو ويلحق بأصحابه في عاصمة الإسلام الجديدة، وصحب معه صاحبه أبابكر، وخرجا من مكة ليلاً بعد أن ركن الناس إلى الراحة في بيوتهم، ونزلا بغار ثور قرب مكة حتى تهدأ قريش من سعيها للإمساك به، ومكثا بالغار ثلاثة أيام في تمويه محكم حتى لا تُهدى قريش إلى مكانهما، هذا السبب أخذا به وطبقاه، وكانت عناية أكبر من الأخذ بالأسباب، فقد أعمى أبصار قريش عن مقره مع سعيها الدائب في البحث عنه•
وبعد أن هدأت، انطلق هو وأبوبكر إلى المدينة، وتكبَّدا مشقة السفر في صحراء موحشة حتى وصلا إلى المدينة، فعسكر قريباً منها، وبنى مسجد قباء، ثم دخل المدينة التي استقبلته بكل من فيها من رجال ونساء وشباب وكهول•
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
وجد الرسول، صلى الله عليه وسلم، فور قدومه إلى المدينة مشكلة عويصة تنتظر الحل منه، وهي وجود المهاجرين فيها بلا نشاط ولا عمل، وسرعان ما قضى على هذه المشكلة بالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، ومشاركة كل أخ لأخيه فيما يملك، وظل كل أخوين يتوارثان، حتى استقر أمر المهاجرين فنزل قوله تعالى في الآية 75 من سورة الأنفال: (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) فألغى التوارث بينهم•
وهذه الحلول كانت عبقرية من الرسول صلى الله عليه وسلم، وحسن تدبيره للأمور، مهما كانت معضلة•
ثم وضع رسول الله، صلى الله عليه وسلم، فور استقراره في المدينة صحيفة الوفاق الجامعة، التي وفَّق بين فيها أوضاع جميع الطوائف في المدينة، وهم:
ـ الأنصار أهل المدينة•
ـ المهاجرون الوافدون إليها من خارجها•
ـ اليهود الذين كان لهم وجود في المدينة منذ زمن متقدم•
وقد مهَّدت الصحيفة التي نُظِّمت فيها العلاقات بين الطوائف الثلاث سلماً وحرباً، إلى قيام دولة على بصيرة من أمرها، حتى اليهود سماهم النبي، صلى الله عليه وسلم، أمة مع المؤمنين، وسمح لهم بمزاولة شعائرهم الدينية مع البقاء على عقيدتهم دون أن يضاموا بسببها•
وبذلك آتت الهجرة ثمارها، والذي نستخلصه مما سبق ونضعه بين يدي الأمة في حاضرها ومستقبلها، ونرجو أن تسمعه بآذان صاغية وفهم واع، وقلوب صافية هو ما يلي:
أولاً: إن الأخذ بالأسباب الصحيحة المتاحة شرط أساس في الحصول على المطلوب مع مواصلة العمل الجاد المحكم وقوة العزم وإخلاص النية وصدقها•
ثانياً: ترك التواكل والاعتماد على القدر بأنه المتصرف في تحقيق ما هو كائن مع إلغاء الجهود المقدور عليها لاستكشاف ما هو مقدر وطرح مقولة: >المكتوب على الجبين تراه العيون<، لأن هذا يُولِّد الكسل والخمول عند الفرد والجماعة والأمة•
ثالثاً: وضع الخطط المدروسة، ثم تعديلها إذا أثبت التطبيق قصورها أو عجزها دون الوصول إلى الغايات المرادة منها وطرح اليأس•
رابعاً: بذل أقصى ما تقدر عليه الأمة مهما كانت الصعاب، كما قال عز وجل في الأية 06 من سورة الأنفال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)•
خامساً: إيثار ما عند الله تعالى على مغريات الحياة الدنيا•
سادساً: وحدة الصف والاعتصام بحبل الله•
سابعاً: أن تنصر الأمة الله ولو على نفسها، فإن نصر الله مقصور على الذين ينصرونه•
كل هذه المبادئ كانت وراء نصر الله لرسوله والذين آمنوا معه، فلتلتزم الأمة بها، فإن آخرها لن يصلح إلا بما صلح به أولها، والله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون•
ساحة النقاش