فيكتور هوجو قدم لنا أعمال فكرية عبرت عن قضايا المجتمع
فواد الكنجي
المدخل
لا يمكن الحديث عن (فيكتور هوجو 1802 - 1882) دون الخوض في جوهر شخصيته باعتبارها مرآة التي تعكس كل المواصفات النفسية والعقلية له؛ والتي تكونت عبر تأثيرات البيئة وتجارب الحياة والعادات والتقاليد والخبرات اليومية والتي تتغير وتتجدد حسب ظروف الزمان والمكان والمواقف؛ وهي التي تمهد في تميز هذه الشخصية عن تلك في جملة من الخصائص العقلية والجسدية والمعرفية والوجدانية والمزاجية والتي يتم التعرف عن هذه الشخصية من خلال علاقاتها مع الآخرين؛ ومن خلال المواقف السلوكية عند الإقدام بأي فعل أو تفكير في موضوع (ما)؛ ذاتيا كان أو موضوعيا؛ ومن خلال ذلك يتم التعبير عن تلك المواقف والتأثيرات في العمل الإبداعي فنيا كان أو أدبيا، فأي عمل إبداعي لا يمكن تحليله أو تفسيره إلا وفق هذه الرؤية.. وهذه المؤثرات التي هي من تحفز الكاتب أو الفنان الإقدام إليه لتعبير عن مكنونات المؤثرة في ذاته .
فالإعمال الإبداعية التي قدمها (هوجو) ما كانت تأخذ مكانتها في الأدب العالمي إلا وهي مفعمة بالمشاعر والأحاسيس الصادقة والمعبرة عن واقع الذي عاشه الأديب؛ فقدمها في نصوصه بكل وفاء لتوقع في النفس نفس قوة التي انطلق منها مشاعر المبدع . فـشخصية (هوجو) استطاعت بعطائها الإبداعي إن تتخطى حدود (فرنسا) كروائي.. وشاعر.. ورسام.. وسياسي.. ومفكر.. واكب إحداث عصره بكل تجلياتها كشخصية مدافعة عن حقوق الشعوب ونضالها من اجل الحرية والعمل على رفع مستوى الوعي والتعليم وتثقيف الجماهير ورفع مستواهم ألمعاشي، ولهذا كان نضاله نضالا سياسيا وفكريا احتلي مكانة مرموقة ليس في تاريخ بلاده (فرنسا) فحسب بل في تاريخ العالم الحر .
فالصورة الأدبية التي قدمها (هوجو) تجعلنا نربط الحدث بواقعه وما يحمله من معطيات فكرية تخفي في طياتها الكثير من صفاته الشخصية وذكاءه والمؤثرات الاجتماعية والنفسية وطبيعة البيئة التي أثرت وتأثر بها؛ ومحاولته في إيجاد نوع من التوازن بين شخصيته ومحيطه، لان الأديب يجدد سلوكه وخبرته وطموحاته ورؤيته المستقبلية وفق محددات التي تفرضها عليه البيئة، فشخصية (هوجو) لا يمكن تفسيرها إلا وفق هذا التأثير بين ما هو (نفسي) و(موضوعي) أو بين (الداخل) و(الخارج)، فالتأثير والتفاعل بين هذين المصدرين تتم عملية تبادل وتكامل في سلوك الأديب أو الفنان لتعبير؛ الذي هو إنتاج ملاحظات وتسجيل صور في مخيلة المبدع، لتأتي قدرات المبدع العقلية في تشذيب الصور وتحسين إخراجها بصور التي هي أكثر تعبيرا وإحساسا وتأثيرا عند المتلقي وهذه القدرات العقلية عند الأديب أو الفنان هي التي تعلو وتتقوى وفق ثقة الأديب بنفسه، رغم كل الضغوطات المواقف التي يمر بها، فهو يغضب.. ويثور.. وينفعل.. ويتصرف وفق انضباط عالي واثق بنفسه لا يهتز بالمؤثرات الجانبية أو الإغراءات المادية، فعقل و روح المبدع تدفعانه معا للقيام بحركة العمل وبذل الجهد لتقيد بما هو واقعي ومعبر عن معانات الشعب وعن روح العصر؛ وهو ما قام به (هوجو) دون إن يدعو أي جانب سلبي من الخوف.. والقلق.. التردد.. والانكسار.. إن يؤثر في مشاعره وثقته بنفسه وبما يقدمه .
سيرة حياته
فالبيئة التي عاشها (هوجو) في (فرنسا) في كنف أسرة كان والده ضابطا في جيش (نابليون بونابرت) هجرت والدته أباه بعد تفاقم الخلافات بينهما على الأمور الحياتية والعائلية وفي الرأي و كل شي، فالأب كان مواليا للجمهوريين؛ والأم كانت موالية للملكية؛ ومن ثم أصبحت عشيقة لواحد من ألد الأعداء الذين تآمروا على (نابليون)؛ ويقال بان كان لها ضلع في هذه المؤامرات، وفي هذه البيئة الأسرية المفككة؛ وفي خضم ما كان يدور في (فرنسا) من حروب وتحولات سياسية، شب (هوجو) في هذه الأجواء المتلبدة بالغيوم؛ وكان آنذاك قد بلع سن الرشد فلم ينشأ في بيئة سليمة؛ ورغم ذلك تواصل تعليمه فدرس الحقوق واطلع على الأدب (ألاتيني) فتفتحت قريحته الشعرية؛ واخذ يكتب أبـياتا مقفاة وموزونة تأخذ شكلها بإحكام متزنة، فنظم قصائد شعر منذ 1816 واستمر في كتابة الشعر والنثر والدراما والمقالات السياسية حتى لحظة وفاته، واشتهر كأحد الكتاب الشباب الذين أطلقوا على أنفسهم (الكتاب الرومانسيين) وفي عام 1822 نشر أول ديوان شعري تحت عنوان (أناشيد وقصائد متنوعة) وقد نال هذا الديوان مكافأة من الملك (لويس الثامن عشر) بعد إن أعجب بها الملك؛ ليؤمن حياته بمورد مالي وهو في سن الشباب، ليصبح أحد شعراء البلاط، وبين عامي 1822 و1850 ابتدأ صعود نجم (هوجو) نحو الشهرة والمجد، وفي عام 1819خطب وتزوج (هوجو) من صديقة طفولته الآنسة (أديل فوشيه) حيث كانت عائلتها تسكن بجوار عائلته، وعن الآنسة (أديل فوشيه) هناك قصة تدور حولها وهي أن أخاه كان يحب هذه الفتاة أي (أديل فوشيه) التي خطبها (هوجو)، وعندما تزوجها أصيب أخوه بالجنون والصرع، وتفاقمت حالته الصحية لدرجة التي حملوه إلى المصحة العقلية حتى مات فيها، وعن هذا السلوك من لدن (هوجو) باتجاه أخوه؛ هناك كثير من النقاد طرحوا أسئلة حول هذه القصة منها:
إن كان (هوجو) يعلم بان أخوه يحب هذه الفتاة، لماذا أقدم هو الأخر إلى تبادل العلاقة معها دون إن يكترث بمشاعر أخوه ....؟
هل عرض بمشاعر أخيه عرض الحائط ليفوز بمن يحب هو ....؟
ما هو موقف (هوجو) حين توفي أخوه بسبب هذا الجنون....؟
هل شعر بالذنب ....؟
أكان (هوجو) سادي ونرجسي يحب ذاته وينتشي بتعذيب الآخرين ويرغب بامتلاك كل من يحب فيعشق ويتلذذ بلعب دور العاشق....؟
إلى غيرها من الأسئلة .. ومع ذلك فان مغامرات (هوجو) ما انكفأت حتى في عام 1833 إذ راح يلعب دور عاشق مع (جولييت درويه) والتي اصطبحت عشيقته رغم كونه متزوج، لتصبح هذه العشيقة امرأته الشرعية، وهذه المرأة لعبت في حياة (هوجو) دورا كبير، فهي من أنقذته من محاولة قتله؛ وقد ظلت طيلة حياتها متفانية له وظلت معه إلى آخر يوم في حياتها تحميه وتدافع عنه؛ بل وتركت من اجله عملها في المسرح لتكرس نفسها لخدمته، وقد كتب (هوجو) آلاف الرسائل لها على مدار خمسين سنة من علاقتهما المشتركة وقد نشرت هذه الرسائل في مجلدات بعد موتهما .
فعشيقته (جولييت درويه) تحملت من أجلة كل تصرفاته وظلت تعشقه رغم انه ميز بينها وبين زوجته الأولى؛ إذ إبقائها في منزل صغير و متواضع قريب من منزل زوجته الأولى، ومع ذلك استمر (هوجو) يخون الاثـنـتين مع أي امرأة أخرى تغري شهواته، وظل (هوجو) بهذا الطبع حتى وهو في عقد السبعينيات من العمر، فكان (هوجو) مولعا بالتسكع في الشوارع والبحث عن العاهرات ومغامرات العاطفية .
وخلال هذه الحقبة لم تخلو سيرة حياته من مأساة داهمت حياته فقد فوجع بموت ابنه الأكبر وهو في عز شبابه؛ ولم تمضي على وفاته أمد حتى فوجع (هوجو) بموت ابنه الثاني؛ كما فوجع بموت ابنته غرقا مع زوجها وهي لم تبلغ العشرين من عمر بعد إن حاول الأخير إنقاذها ولكن لم يفلح فمات هو الأخر؛ كما فوجع (هوجو) بجنون ابنته الثانية، وكل هذه الفواجع لا محال أثرت في نفسية (هوجو) بشكل مؤثر وهو ما عكس على كتباته وإشعاره فجاءت أشعاره وهي مفعمة بمشاعر الشجن.. والأسى.. والحزن.. لتعطي نوع من ( الرومانتيكية ) على إشعاره، نعم لقد اشتهر (هوجو) في إبراز ملامح شعرية بعيدة عن الكلاسيكية التي كان هي السائدة في الساحة الأدبية آنذاك؛ ليكون تجديده في الشعر (الرومانتيكي) حالة متميزة ادخلها في (الشعر الفرنسي) بعد إن وضع لامسات الشعر (الرومانتيكي) في (فرنسا) في مطلع عام 1825 .
علما بان ظهور المدرسة (الرومانتيكية) كانت قد بدأت في (ألمانيا) ومن ثم في (انكلترا) لتظهر بفعل روح كتابات (هوجو) الشعرية والتعبير الأدبي في (فرنسا)، فكتب (هوجو) أول بيان وباللغة الفرنسية للأدب (الرومانتيكي) عام 1830 ، ونشرها في مقدمة مسرحيته المعنونة (كرومويل) ليعرف في الوسط (الأدب الفرنسي) بكونه هو أول مؤسس للحركة (الرومانتيكية الفرنسية) بعد إن دار نقاش محموم بين مثقفي (فرنسا) وخاصة بين (التيار الكلاسيكي) و(التيار الرومانتيكي) الذي انتصر عن الأولى؛ بكون (الرومانتيكية) كانت تمثل روح التجديد والمعاصرة وحركة التاريخ في أوربا، ووفق هذا السياق نشر (هوجو) مجموعة شعرية وهو بعنوان (رومانتيكي) تحت اسم (أوراق الخريف) في العام ذاته 1830 ، ومع تصاعد إبداعات النشر في مجال (الرومانتيكية) فوجئ (هوجو) بان الرقابة منعت إحدى مسرحياته عام 1832 ، مما تسبب له ذلك اثر نفسي فثار بموجة غضب؛ وعلى أثرها ألقى خطابا بحضور جمهور غفير عن حرية التعبير؛ وقد لاقى تأيدا منقطع النظير من الجماهير الفرنسية التي تعاطفت مع تطلعات (هوجو)، وكانت تلك بداية انخراطه في العمل السياسي في (فرنسا) من أجل نيل حرية التعبير والتفكير، وكان تحديه لسلطات الرقابة والقواعد (الكلاسيكية) هو واحد من الأسباب التي منعت (الأكاديمية الفرنسية) من قبول ترشيحه؛ ولكن إبداعاته الأدبية فرضت حضورها في الساحة الأدبية (الفرنسة)؛ ليكون (هوجو) لاحقا احد أشهر أعمدة الأدب في عموم (فرنسا)؛ لتضطر (الأكاديمية الفرنسية) قبوله في عام 1841 بعد إن رفض طلبه ثلاث مرات، لتكون لتجربته وتحديه قرارات الجائرة بحق المبدعين في (فرنسا) سببا لانخراطه في العمل السياسي عام 1848، ليتم انتخابه نائبا عن (باريس) في (البرلماني الفرنسي) وقد ألقى في (البرلمان الفرنسي) أول خطاب سياسي له داعما ترشيح (نابليون الثالث) إلى (رئاسة الجمهورية الفرنسية) ولكن سرعان ما غير اتجاهه من مؤيد للسلطة إلى معارض، فانتقل من اليمين المتطرف إلى اليسار العمالي مناصر قضايا العمال والكادحين؛ فابتعد عن أجواء الترف في أروقة السلطة إلى وسط الكادحين.. وعمال المصانع.. والفقراء.. والبؤساء.. والمتشردين، ليثبت بأنه ليس كاتبا وشاعرا (رومانتيكيا) فحسب؛ بل رجل سياسي يناصر قضايا الشعب ويتفاعل مع هموم عصره وقضاياه، فهو بقدر ما عرف عنه بكونه شاعر فهو مفكر يتطلع لمستقل بلاده مدافعا عن قضايا الشعب من اجل رفع مستوى الوعي عند أبناء شعبه و تثقيفهم وتعليمهم؛ ليعش كل أبناء (فرنسا) تحت راية الثقافة.. والحرية.. والمساواة، لهذا حين أدرك في عام 1851 بان (نابليون الثالث) الذي قام بانقلابه على (النظام الجمهوري) ليقود الدولة نحو الدكتاتورية، كان (هوجو) في مقدمة الجماهير التي أعلنت العصيان ونزولها إلى الشارع لمقاومة (نابليون الثالث)، وقد تعرض لمحاولة اختيال لولا أن عشيقته (جولييت درويه) التي أنقذته واستطاعت إن تمهد له طريق الهروب خارج (فرنسا)، ليبدأ (هوجو) حياته في المنفى استمرت ما بين عام 1855م حتى عام 1870 ، وخلال هذه الحقبة الطويلة من عمره في المنفى كتب أجمل كتابات وأشعار ومؤلفاته، وخلال هذه الفترة الصعبة من حياته في المهجر أنجز روايته الخالدة (البؤساء) التي تعتبر واحدة من أفضل مائة رواية صدرت في تاريخ العالم؛ وتم اقتباس رواية (البؤساء) للعديد من الأعمال السينمائية والدرامية في العالم وأخرجت سينمائيا ومسرحيا مئات المرات.
وبعد سقوط الديكتاتورية أثناء حكم (نابليون الثالث) في (فرنسا) عاد (هوجو) من منفاه إلى بلاده (فرنسا) وقد استقبل استقبالا شعبيا حاشدا في قلب العاصمة الفرنسية (باريس)، وتدريجيا بعد استبداد الأمن في (فرنسا) تحول روح الرجل (هوجو) المعروف بالتمرد إلى رمزا للفضيلة والإخلاص الوطني ليكون رمز للمثل الجمهورية، فأُعيد انتخابه في مجلس العموم الفرنسي مرات عدة ثم التحق بمجلس الشيوخ، بل رشح للرئاسة أيضا، ولكن لم تكن له أية رغبة حقيقة في ذلك بأن يصبح سياسيا معترفا بالمعنى العام والمعروف للكلمة؛ لان طموحاته الأدبية كانت تفوق عن أية رغبة أخرى؛ بكون (الأدب) و(الشعر) احتل كل شيء في كيانه ووجوده، وكانت تلك بداية أسطورته لتبرز ملامح شخصية (هوجو) في الأدب.. والفكر.. والشعر.. والسياسة.. ليدفع ثمن شهرته غاليا ليحتل مكانة مرموقة في تاريخ (فرنسا)، فترجمت أعماله للعديد من اللغات و تم وضع صورته على (الفرنك الفرنسي) - العملة المالية للدولة - بعد إن أخذت دور النشر العالمية تنشر أعماله الروائية .
إعماله
وفي خضم هذا الصراع وهذه التحولات في حياة (هوجو) فهو ما انكفأ عن الكتابة ونشر إعماله التي كنت تلقى رواجا منقطع النظير ليس في (فرنسا) فحسب بل في عموم (أوربا)، وهنا سنسلط الضوء عن أهم رواياته التي مازالت إلى يومنا هذا مدار اهتمام القراء والمثقفين والمهتمين بشؤون الفكر والأدب والنقد؛ فنذكر منها :
رواية (البؤساء)
تعتبر رواية (البؤساء ) واحدة من أهم إعمال (هوجو) بكونها تعتبر رواية لكل العصور، ولهذا حينما نتعمق التأمل بروايته الرائعة (البؤساء) والتي تم نشرها عام 1862 وحصلت على العديد من الجوائز والتي تعتبر إلى يومنا هذا من أشهر وأهم روايات صدرت في تاريخ العالم وليس في فرنسا فحسب، إننا نستشف فيها حجم التعبير عن الظلم الاجتماعي الذي كان سائد ويلتمس وقائعه في بلاده (فرنسا)، فالرواية وان كانت توصف وتسلط الضوء عن الحياة في (فرنسا) خلال القرن التاسع عشر؛ بكل تجلياتها إلا إن الظلم الاجتماعي الذي جسده (هوجو) في هذه الرواية هو ذاته تحسها كل الشعوب المضطهدة في مختلف بقاع الأرض، فالرواية جسدت هذا الواقع المؤلم من خلال ما قدمته من شخصيات؛ ومنها شخصية السجين (جان فالجان) ومعاناته بعد الخروج من السجن، فتطرح الرواية تساؤلاتها حول عدة قضايا منها حول طبيعة الخير والشر.. والقانون في (فرنسا).. وطبيعة الحب والرومانسية.. و اللا مبالاة.. والفقر على الأرض، ولهذا تعتبر رواية (البؤساء) محورا تاريخيا تؤرخ بصدق عن حقبة الثورة الفرنسية الكبرى؛ والسبل التي جعلت الشعب يطيح بالنظام القديم، نعم هي رواية تسلط الضوء عن قصة العصر من أجل إقامة حكومة شرعية تؤمن بحقوق الإنسان والمواطن الفرنسي في العصر الحديث .
فإحداث الرواية تدور حول قصة عدد من شخصيات التي قدمها (هوجو) في هذه الرواية ؛ والتي تعد أعظم عمل كتبه (هوجو)، حيث تسلط الرواية التي تشمل على فصول كثيرة؛ تطرح الكثير من المواقف و الجوانب الإنسانية كالحب.. والحرب الطويلة.. والأيام.. والسجن الذي أضاع حياة إنسان، كل ذلك جسده (هوجو) في شخصية بطل الرواية (جان فالجان) وهو رجل فقير تم سجنه بسبب سرقته لقطعة خبز وحكم علية لمدة قصيرة؛ ولكن لهروبه المتكرر قبع في سجن لمدة تراوحت 19 سنة و لأسباب تافه؛ قضى حياته وهو يبحث عن لقمة العيش شريفه؛ كما تحدثت الرواية عن (نابليون بونابرت) والشباب الفرنسي في عهده الديمقراطي، فالرواية في مجملها تتحدث عن الحياة الاجتماعية البائسة التي عاشها الفرنسيون بعد سقوط (نابليون) في عام 1815، فإحداث الرواية تدور بين فترة سقوط (نابليون) والثورة الفاشلة ضد (الملك فيليب) في عام 1832، أي في فترة النزاعات التي كانت لها اثر عظيم في البنية الاجتماعي والاقتصادية لفرنسا آنذاك، فالرواية تعكس هذا الواقع في ظل غياب العدالة الاجتماعية وانتشار الجريمة.. والفساد.. والفقر .
حيث يصور الكاتب معاناة التي عاشها الفرنسيين من خلال شخصية (جان فالجان) الذي عانى مرارة السجن؛ وعانى أيضا بعد خروجه منه.
وأشهر شخصيات الرواية هي (جان فالجان) و(العمدة مادلين) و(فانتين) و(كوزيت) و(تينيارديه) و(مدام تينارديه) و(أزلما) و(المفتش جافير) و(ماريوس بونتمرسي) و(ايبونين) و(أنجلوراس) و (كوريڤير اكص) و(الأسقف ميريل)، وكل هذه الشخصيات تحمل في الرواية صفات ارتبطت بالإحداث وسلكت سلوكا خاص وفق قيم ارتبطت بواقع الإحداث التي لا يمكن إن توصف إلا بكونها ممتعة ومثيرة، فـ(هوجو) إذ يقدم هذه الشخصيات إنما أراد استعراض عدد مختلف ومتنوع من أنماط الشخصيات تتجاوب وتتعامل مع الإحداث والمؤثرات البيئية المحيطة بها؛ فيتم من خلال ذلك تعزيز قيم الأخلاق من حيث التسامح والتجاوز عن الخطأ من اجل تصحيح مسار وسلوك الإنسان وبكل ما يترتب عنه من تأنيب ضمير والمغفرة، إلى جانب ما تقدم الرواية هذه الشخصيات وبهذا الروح فهناك أيضا يقدم (هوجو) شخصيات لا تكترث بأي شي ولا تصغي ولا تسمع؛ فيتوغلوا في الأخطاء والتصرف الغير المسئول والاستهتار؛ فبقدر ما تؤذي نفسها فهي تؤذي غيرها، لذلك حرص (هوجو) في رواية (البؤساء) تقديم وطرح مختلف القضايا الاجتماعية.. والدينية.. والأخلاقية.. والنفسية؛ عبر أنماط من الشخصيات، فشخصية (جان فالجان) الذي قدمه كانسان فقير؛ سرق قطعة خبر لإطعام أطفال أخته؛ قدمه كواقع حال بكل ما أعقبها من تطورات لاحقه .
فـ(جان فالجان) الذي كان يعيش في مدينة (ديني) الفرنسية؛ أطلق سراحه في عام 1815 ، بعد أن قضى 19 سنة في داخل سجون (طولون)، حيث سجن (خمس سنوات) إثر سرقته خبزا لإطعام أطفال أخته الذين كانوا يعانون من الجوع الفاحش، واعتقل 14 عاما بسبب محاولته للهروب مرات عديدة. بعد خروجه من السجن حاول النزول في أحد الفنادق إلا أنه رفض استقباله بسبب كون هويته مؤشرة بخط احمر لأنه كان سجين ومن أصحاب السوابق، مما ترك ذلك غصة في قلبه ونفسيته؛ فاضطره النوم على الطرقات، لحين إن وجده الأسقف (شارل ميريل) فشفق على حاله فاستضافه في منزله، والأسقف (شارل ميريل) هو أسقف مدينة (ديني)، إلا أن (جان فالجان) فر منزل الأسقف بعد سرقته بعض الأواني الفضية، وبعد إلقاء القبض عليه ذهب الأسقف وسجل في مخفر الشرطة بأنه هو من أعطى الأواني الفضية لـ(جان فالجان) وأنه لم يقم بسرقتها. ولن يقف الأسقف عند هذا الحد بل قام بمساعدته فأعطاه شمعدانين من الفضة كهدية لكي يبيعها ويرتب أمره لحين إن يجد عمل يمكنه إن يعيش من خلاله، واشترط الأسقف (شارل ميريل) على (جان فالجان) بأن يهب حياته لرب السموات وأن يجعل من نفسه رجلا صالحا مقابل هذه الفضيات، ولكن (جان فالجان) عاد وسرق مرة أخرى من أحد المارة؛ إلا أنه ندم على فعلته فبحث عن الشخص الذي سرقه ليعيد له نقوده ألا أنه تم الإبلاغ عن السرقة فاضطر للاختباء خوفا من العودة إلى السجن والعيش فيه مدى الحياة .
ولهذا فان (هوجو) في سرد هذه الوقائع المؤسفة عزاها كما طرحها في مطلع الرواية إلى ما تركته الحروب من آثار مدمرة في المجتمع الفرنسي والتي ترتب عنها غياب العدالة الاجتماعية وانتشار الفقر وغلاء المعيشة؛ لتصبح في النهاية جحيم لا يطاق من الظلم والجبروت والتمييز العنصري بين أفراد المجتمع؛ الأمر الذي يدفع بالعديد من أبناء الشعب إلى الشعور بفقدان الأمل في العيش الكريم، ومع ذلك فان الكثير من الفرنسيين تمسكوا بالقيم والأخلاق السامية وتحلوا بها وراحوا ينتقدون الظلم والعنف السائد، ومن خلال هذا الواقع المرير لابد من إن نفهم نفسية (الجاني) والدوافع عمله على أنه (فرد) قابل للإصلاح إذا ما تم تقويمه وإصلاح سلوكه والتجاوز عن خطأه؛ كما فعل الأسقف مع (جان فالجان) عندما سرق منه بعضا من ممتلكاته الفضية الثمينة، الأمر الذي دفع (جان فالجان) إلى ترك الجريمة، وتحوله إلى إنسان صالح .
ومن هنا علينا إن نبحث في الرواية عن شخصية (جان فالجان) وما ارتكبه لتنزل بحقه هذه العواقب التي لا يتحملها أي الإنسان، لقد دخل السجن كونه كسر زجاج نافذة وسرق رغيف خبز، فاقتيد إلى السجن كأي مجرم وفرض عليه ارتداء ملابس السجناء؛ وشد على قدميه أقراص من الحديد؛ لينام على الأرض في حجرة مظلمة بدون غطاء بقسوة المناخ وتقلباته حاله كحال المجرمين والقتلة فيهانون.. ويعاقبون بالأشغال الشاقة.. والضرب.. والشتم، وكل ذلك كان ينفذ بـ(جان فالجان) من أجل لا شيء، لمجرد انه سرق قطعة خبز لا غير من اجل أطعام أطفال أخته الجياع، لذلك فانه أحس حجم الظلم الذي ينزل بحقه دون إن يبادر أحدا بالتحقيق معه لمعرفة دوافعه من وراء ما فعله؛ هو مدرك جيدا بأنه ما ارتكبه كان خطا ولكن لم يستطع إن يفعل أي شيء لإطعام أطفال أخته؛ ولكونه ليس عنده من شيء ليفعله لإنقاذ هؤلاء الأطفال الجياع، فدخل السجن وهو نادم.. وبائس.. وخائف.. ومرتجف.. ومنهار نفسيا، ولم يخرج من هذا السجن إلا وهو متحطما نفسيا لتمضي من عمره وهو في عز الشباب تسعة عشر سنة هباء يقضي جل أوقاته وحيد دون أنيس في هذا الوجود، لتمضي حياته دون حب ولا زوجه ولا أب لأطفال؛ مع ما كان يحمل في قلبه من حب.. وإخلاص.. و وفاء، فالرجل لم تكن في حياته سوى أخته وأطفالها الذين كانوا يحبهم ويعطف عليهم؛ والذين لم يترك في قلبه سوى ذكريات مفعمة بالعطف.. والحنان لتذهب حتى هذه الذكريات سدى مع مضي السنوات وهو قابع في السجن .
لهذا فان محنة (جان فالجان) هي محنة المجتمع الذي أرسى هذه القيم بين أفراد المجتمع انسلخت من أعماقهم العطف.. والحنان.. والمودة.. والتعاضد.. الكل تمضي في طريقها بطريقة أنانية لا احد يساعد احد ولا احد يشفق على احد، ولهذا قد صدق (هوجو) بالقول (( بان البؤس ينتج رجال شريرين ولكن في كثير من الأحيان لا تفسد الجانب الإنساني في أعماقهم...))، لذلك فان (جان فالجان) في أقصى حالات البؤس والشقاء؛ لم يفقد إنسانيته وشهامته، فهو رجل من أهالي الريف ولم تكن لدية خصال فاسدة وشريرة، ولكن بمكوثه الطويل في زنزانة السجن أحس بان طبائعه قد تغيرت بعد إن شعر بن لا وجود للعدل وان المجمع أصبح شريرا؛ لدرجة التي اخذ يكفر ويتجه اتجاها إلحاديا، ولهذا فان (هوجو) يساءل في الرواية (( ا حقا تستطيع الطبيعة الإنسانية إن تنقلب رأسا على العقب، وان الإنسان الذي خلقه الرب يحيله إلى إنسان شرير.....؟ )) .
ويمضي (هوجو) في التساؤلات من هذا القبيل لفهم ما آلت إلية الطبيعة البشرية، لذلك فانه جسد هذه التساؤلات في تصرفات (جان فالجان) حين خرج في المرة الأولى من سجن واستضافه الأسقف؛ ولكن حين قام بسرقته وذهب الأسقف وأخرجه من سجن؛ كانت اكبر تحول في حياة (جان فالجان) حين صرخ الأسقف في وجه ليفهمه بالقول: (( أنت لم تعد ملكا للشر؛ ولكن ملكا للخير، وإني إنما أشتري نفسك؛ أنا أنتزعها من الأفكار السوداء ومن روح الهلاك وأقدمها إلى الرب ... ))، فكانت هذه الواقعة منعطفا في حيان (جان فلجان)، فحين عاد ليسرق طفل بائس شعر بالذنب وعاد على الفور يبحث عن هذا الطفل ليعيد ما سرقه منه؛ لان في أعماقه حدث فعل دراماتيكي غير سلوكه وهو شعور أشعره بأنه إنسان بائس؛ وانه أصبح لا يفهم ما يجري في ذاته، لان عبارات الأسقف ضلت تترد في ذاكرته فأصبح مشتت التفكير والتصرف ويحس بالانفصال عن ذاته .
وتستمر الرواية بطرح مواقف إنسانية وأخلاقية مثيرة، ففي إحدى المقاطع من الرواية؛ يتم إلقاء القبض على شخص كان يشبه (جان فالجان) فاعتقدوا بأنه هو، فسيق هذا الرجل ليحاكم في المحكمة، عندما عرف (جان فالجان) بهذا الأمر وكان يتستر على نفسه تحت اسم (مسيو مادلين)، وما هنا تبدأ الصراعات النفسية في أعماق (جان فالجان) تتعالى في الرواية، فإما إن يضحي (مسيو مادلين) الذي هو (جان فالجان) بمنصبه العمدة وإغداقه الأموال بشراهة على الفقراء والمحتاجين أو إن يكشف عن نفسه ويضحي بنفسه من أجل إنقاذ شخص ليس له أي ذنب إلا أنها يشبه (جان فالجان) فعليه أن يختار بين ما هو (صح) وما هو (خطا)، بمعنى أخر إن يختار بين الطهارة الباطنية أو العار الخارجي.....!
لذلك بدأ صراعه النفسي المرير يدب في أعماق (جان فالجان) بعد إن أيقظ ضميره؛ وبما قاله الأسقف له ((بان غايته أن ينقذ روحه لا جسده، وأن يصبح إنسان مستقيما صالحا وأن يمضي إلى الإمام ولا يفكر بالماضي)) .
وتمضي الرواية لتقدم لنا شخصية أخرى تثار فيها الكثير من تساؤلات لا تقل بؤسا عن شخصية (جان فالجان) وهي شخصية (المفتش جافير) الذي لم يعرف شيء في حياته سوى وظيفته في الشرطة كمفتش عام ورئيسه هو (مسيو جيسيكيه) الذي كان بالنسبة له إله، لذلك لم يفهم شيء في الحياة سوى احترام السلطة وكره التمرد، وهذا المفتش كما تقدمه الرواية قضى عشرين سنة وهو يطارد (جان فالجان) ولكن شاء القدر إن يقع تحت قبضة الثوار؛ ليأتي (جان فالجان) فيحرره، ليعود المفتش ليجد نفسه في النهاية الأمر بين إن يطلق سراح (جان فلجان) وبين إلقاء القبض عليه، فوقع في حيرة لا يستطيع كيف يتصرف، لتفتح هنا الرواية فصلا فلسفيا مثير في مشكلة الضمير والأخلاق .
وفق هذا السياق الفلسفي في الرواية فان (هوجو) يطرح قضية أخلاقية بشكل أخر حين قدم شخصية (فانتين)، فـ( فانتين) هي فتاة بالأصل لقيطة أغراها شاب غني وتركها وأنجبت طفلة سميت (كوزيت)، واضطرت لبيع جسدها من أجل طفلتها، ولهذا فان قصة (فانتين) في الرواية هي قصة المجتمع يشتري نفس البشرية مقابل كسرة خبز، وتستمر الرواية بسرد وقائع مثيره حول شخصية (فانتين) وطفلتها (كوزيت). فالطفلة (كوزيت (هي الطفلة الوحيدة لـ(فانتين) والتي أنجبتها بعد علاقة فاشلة مع حبيبها الذي خذلها (تولومييس)، وحين سعت للعمل في المصانع تم رفضها لان لم تستطع ترك طفلتها لوحتها فاضطرت إن تترك هذه الطفلة في دار (غافروش تينادرييه) واضطرت هذه الطفلة للعمل هناك كخادمة بالرغم من صغر سنها؛ إلا إن هذه الأسرة لم تحسن معاملة (كوزيت)، وكانت تستغل في أعمال المنزل ويسيئون معاملتها بشكل غير اعتيادي، وذات يوم بينما (كوزيت) كانت في طريقها لجلب الماء، فيلتقي (جان فالجان) بها صدفة وبعد سؤاله عن اسمها واسم أمها وعمرها وأين تسكن فيتعرف عليها بكونها ابنة (فانتين) لذلك قرر إن يتبناها فيدفع مبلغا كبيرا (غافروش تينادرييه) مقابل أخذها على أنها حفيدته فتعيش (كوزيت) مع هذا الرجل العظيم الذي انتشلها وأنقذها من بؤسها، ثم كبرت (كوزيت) ووقعت في قصة حب مع (ماريوس) وأحبته كثيراً فتزوجا بعد أحداث مثيره .
كما ان (هوجو) يقدم شخصية أخرى ونمط أخر وهي شخصية (غافروش تينادرييه)، فـ(غافروش تينادرييه) هو طفل مشرد يتسكع في شوارع (باريس) يتزوج ويصبح أب وهو طفل لم يتعدى العاشرة من العمر، فهذا الطفل الصغير يصبح كما تقدمه الرواية أب كبير.. ثائر صغير يجتمع بين الثورة والغناء، فهو في شوارع باريس يبحث عن ذاته وعن الثورة، فيجول في شوارع ينادي بين جموع المتظاهرين (تعيش الجمهورية)، لحين إن يستشهد في ثورة 1832، حيث استطاع (هوجو) تقديمه كشخصية ثورية مناضله أتقنت نشر الحماس بكلماته الثائرة بين جموع المتظاهرين ليكون استشهاده شهادة؛ ليؤكد (هوجو) في الرواية بان مفهوم الموت في فلسفته ما هو إلا وجه أخر من الكمال.. والتحرر.. والحرية .
ومن خلال ما تقدم نستطيع القول بان محور الفكر الفلسفي عند (هوجو) تكمن من خلال ما قدمه من شخصيات مختلفة في رواية (البؤساء)، كل شخصية من شخصيات الرواية قدمت رؤية معينه عن مواقفها اتجاه الحياة وفق منظور فلسفي، فالرواية منذ إن انطلق (هوجو) بكتابتها لم تكتمل إلا بعد اثني عشر سنه، فإحداث الرواية في مجملها وقعت في فرنسا بعد الثورة، فهو يقدم في هذه الرواية تاريخ (فرنسا) في أروع وأبهى تجلياته يتحدث عن (ثورة الفرنسية) و(نابليون) و(معركة واترلو)، حيث يسلط (هوجو) الضوء في روايته هذه عن الثورة ورجالها وتاريخها والتي على دوام الأحداث تكون حاضرة بالقوة في مشاهد الرواية؛ وقد عبر عنها وفق رؤية فلسفية أتقن (هوجو) طرحها بشكل سليم ومؤثر .
رواية (الأحدب نوتردام)
اما رواية (الأحدب نوتردام) التي نشرها عام 1831 فان (فيكتور هوجو) ينطلق في كتابة روايته هذه ليعبر فيها عن الكثير من مواقفه الأدبية.. والفكرية.. والإنسانية؛ فوظفها في أحداث الرواية بحبكة متقنة لدرجة التي لا يذكر عمل روائيا عالميا إلا وتضمنت لاحتها على رواية (احدب نوتردام)، فقد لاقت هذه الرواية نجاحا منقطع النظر لدرجة التي منحت لـ(هوجو) مكانة مرموقة في عالم الأدب الفرنسي، فـ(هوجو) قدم في هذه الرواية شخصيات من طراز خاص تحمل في طياتها حسنات وسيئات كطبيعة نفس البشرية؛ إذ لا كمال مطلق، ولهذا سعى (هوجو) في طرح فلسفته عبر منظومة من القيم بغية الوصول إلى الحقيقة وعبر خطوات تتواكب مع الأحداث لتصل الرواية إلى قلوب الفقراء والبسطاء ليقرءوا العالم على ما هو عليه بدون رتوش، وليطلع عن الوجه الحقيقي للحب وبشكله النقي؛ بعد إن تمكن (هوجو) عبر مكنونات مشاعر التعبير عن الهم الإنساني، فاخرج مشاهد وصور ومشاهدات محبوكة عبر العواطف وقيم أنسائية تسبح في فضاء تراجيدي غير مألوف؛ وعبر قصة حب خارج نطاق المألوف أيضا؛ لنكون إمام العاطفة والمشاعر الإنسانية الصادقة بالحب الإنساني النبيل، فرسم (هوجو) شخصية رواية بشكل غير مألوف ليعبر عن ملامح شخصية إنسانية حقيقية مدهشة تعبر عن مكنونات حبها بصدق ووفاء وإخلاص، فقدم شخصيته وهو (احدب) يعاني من عوق ولأدي؛ كطفل لقيط من عائلة غجرية جاءت إلى (نوتردام) وهي تمارس السرقة والسلب، وفي إحدى محاولاتهم للسرقة فشلوا؛ فتركوا طفلهم الأحدب وهربوا، فيأخذه القاضي (الدوم كلود فرولو) وهو قس لكنيسة (نوتردام)، ويربيه في الكنيسة، ومن خلال هذه الواقعة تبدأ إحداث القصة تدور عبر إحداثها في العاصمة الفرنسية (باريس) أرخها (هوجو) في أواخر العصور الوسطى في أوروبا، تلك الفترة التي اشتهرت بالإعدامات في كل ساحات أوربا؛ وليس في فرنسا فحسب، فكان (هوجو) يمقت ذلك ويعتبره جزء من أفعال بربرية وحشية لا تليق بالقيم الإنسانية؛ لذلك كان يعارض إنزال عقوبة الإعدام بحق أي إنسان مهما كان نوع جرمه، فعبر عن مواقفه هذه في كل إعماله الأدبية؛ وقد جسدها تجسيدا في روايته (أحدب نوتردام) هذه التي فصح عن مواقفه بخصوص الإعدام .
ومن كاتدرائية (نوتردام) التي تقع في (باريس) - وما زالت قائمة إلى يومنا هذا - تدور إحداث الرواية، فالقس القاضي (الدوم كلود فرولو) الذي يربي الطفل الأحدب والذي عرف تحت اسم (كوازيمودو) وقد سميي بهذا الاسم من قبل القاضي أو القس (الدوم كلود فرولو) عندما وجده الأخير على درج كنيسة (نوتردام) فحمله وقرر تربيته، وقد كان الطفل (كوازيمودو) مشوه و أحدب و مظهره في غاية البشاعة، وبعد مرور الوقت أصابه عاهة إضافية على ما هو علية وهو فقدانه لحاسة السمع بسبب صوت الأجراس التي كان يقرعها، وقد أحب سكان مدينة (باريس) أصوات الأجراس؛ وكانوا يطربون لسماعها؛ وقد سموها غناء (كوازيمودو) .
فالطفل ألأحدب رغم مظهره القبيح فقد اعتنى به القاضي (الدوم كلود فرولو) ودربه ليكون على الدوام متواجدا في الكنيسة وخوله بقرع أجراس كاتدرائية (نوتردام) في أوقات الصلاة، ومع مرور الأيام نشأ وكبر هذا الطفل الأحدب مما تسببت عاهته الكثير من المعانات بسبب مظهره الخارجي المشوه، الذي كان الناس يعتبرونه قبيح الشكل والمظهر، رغم ما كان يحمل في داخله الكثير من قيم النبل والشهامة ويحمل في قلبه الكثير من العواطف والمشاعر الإنسانة النبيلة .
وذات يوم تم اختياره إن يكون زعيم المهرجين في الاحتفال السنوي الذي كان تقيمه المدينة، مع أن القاضي القس (الدوم كلود فرولو) لم يوافق على هذا الأمر بسبب مظهره؛ ولكي لا احد يجرح نفسيته ويتسببوا له بالمشاكل، ومن جهة أخرى، كان يريد له إن يواصل الحياة وأن لا يبقى طوال عمره في خدمة الكنيسة، وحين يبد الحفل تظهر على المسرح راقصة غجرية اسمها (أزميرالد) في غاية الفتنة والجمال والإغراء، و(أزميرالدا) واسمها الحقيقي (أجنيس) وهي فتاة فرنسية من (رايمس)، و كانت في منتهى الجمال، وذات يوم جاءت مجموعة من الغجر إلى المدينة وسرقوا (أزميرالدا) واستبدلوها بالأحدب (كوازيمودو) القبيح، ومع مرور الأيام شبت الطفلة عند الغجر وتعلمت كل أساليب الغجر من العادات والتقاليد وطرق معيشتهم وسموها الغجر بـ(لا أزميرالدا)، في وقت الذي اعتقدت أمها الحقيقية بان الغجر قد قتلوا طفلتها، أخذت تصلي وتصوم لتبق طوال حياتها ناسكة تتذكر ابنتها وتحتفظ بـ(فردة الحذاء) الذي أضاعته طفلتها عندما اختطفوها الغجر، لتقوم الطفلة (أزميرالدا) بالاحتفاظ بـ(فردة الحذاء الثانية) فحملتها كميدالية وعلقتها حول عنقها لاعتقادها أنها ستجد أمها في يوما ما، في وقت الذي كان الإحساس عند الأم والبنت بأن (فردة الحذاء) هذه قد تكون الأمل في رؤية بعضهما، وشاءت الأقدار كما تدور الإحداث الرواية إن تلتقي الأم بابنتها قبل إعدام ابنتها (ازميرالدا) .
فـ(أزميرالدا) لم تكن حياتها بأفضل حال من الأحدب (كوازيمودو) الذي تم مبادلته بها، فقد عاش ونشأ في ظل تربية صارمة من قبل القاضي (الدوم كلود فرولو) الذي كان سببا في مقتل أمه وحبس أبيه بحجة تطهير (باريس) من الغجر، ولتكفير عن خطأه؛ قرر أن يعتني بالطفل الأحدب (بكوازيمودو) بنفسه، وأطلق عليه اسم (كوازيمودو) وهي كلمة بمعنى (ليس مكتمل)؛ فعاش الأحدب حياة منعزلة في كنيسة ( نوتردام) بكون القاضي (الدوم كلود فرولو) استمر بتعليم الطفل ويغرز في ذهنه بان يتجنب البشر بكونهم أشرار، لذلك فان الطفل لم يرى في حياته سوى هذا القاضي الذي رعاه وأطعمه وكساه بعد أن هجرته أمه وكل البشر بحسب قوله، ولكن الطفل الأحدب (كوازيمودو) كان يرغب دائما في اكتشاف العالم والاختلاط مع الناس؛ حيث دأب على مراقبتهم من موقعه في أعلى البرج، ولم يجد إمامه من سبيل للاختلاط بالناس سوى الذهاب إلى (مهرجان الحمقى) الذي كان يحتفل به سنويا في (باريس) كفرصة ليرى الناس عن قرب لأول مرة في حياته؛ ومن دون علم القاضي (الدوم كلود فرولو)، فذهب إلى ميدان الاحتفال متنكرا لكي لا يعرف القاضي (الدوم كلود فرولو) بخروجه وعصيانه لأوامره، وفي وسط المهرجان والحاضرين ضن الناس بان الأحدب ( كوازيمودو) متنكر لدخول مسابقة أبشع رجل في (باريس)، ولكن عندما اكتشفوا حقيقته وأنه ليس متنكرا أساءوا معاملته وقيدوه ساخطين من تواجده معهم؛ فاخذوا يضربونه بالسياط، وكان ذلك بحضور القاضي (الدوم كلود فرولو) ومعرفته بان الأحدب خالف أوامره، ولم يجد معينا له في أزمته إلا الغجرية المختطفة (أزميرالدا)، التي صرخت بوجه الحضور وقدمت يد العون له وحلت وثاقه .
و عندما شاهد القاضي (الدوم كلود فرولو) ما قامت به (أزميرالدا) مخالفة أوامره؛ أمر باعتقالها بتهمة عدم الانصياع لأوامره، فهربت؛ وكما ساعدت (أزميرالدا) الأحدب (كوازيمودو)؛ ساعدها على الهرب من حرس القاضي ووعدته بأن تعود إليه ثانية، وفي هذه اللحظة خفق قلب (كوازيمودو) باتجاه (أزميرالدا) وأحس بأن قلبه قد أحب هذه الغجرية منذ اللحظة الأولى، وصارت الحياة أكثر إشراقا في قلبه .
وبعد إن اكتشف القاضي (الدوم كلود فرولو) هروب (أزميرالدا)، جن جنونه، فأمر باعتقالها لرغبته في الزواج منها، وإن لم توافق فانه سيحرقها وهي حية، ويأمر القاضي (الدوم كلود فرولو) باعتقال كافة الغجر في محاولة للعثور على (إزميرالدا)، وقام بإضرام النار في كافة أنحاء (باريس) محاولا العثور عليها، ولكن قائد الحرس (فوبوس) يرفض هذا الأسلوب مما يتسبب في حدوث خلاف بينه وبين القاضي (الدوم كلود فرولو) الذي يأمر بقتله، إلا أن (فوبوس) وبمساعدة (أزميرالدا) يتمكن من الهرب، ولا يصيبه إلا سهما أسقطه في نهر (الرين ) الذي سرعان ما انتشلته منه (أزميرالدا) وأرسلته إلى صديقها المخلص (كوازيمودو) ليرعاه بعيدا عن بطش القاضي (الدوم كلود فرولو)، ويتحطم قلب الأحدب (كوازيمودو) ثانية بعدما علم أنه ليس هو من تحب (أزميرالدا)، وإنما هو القائد (فوبوس) الذي اتخذته حبيبا لها، ومع ذلك يعد (أزميرالدا) بمساعدتها والإبقاء على (فوبوس) أمنا معه، ولكن وعلى غير العادة، يقوم القاضي (الدوم كلود فرولو) بزيارة (كوازيمودو) في وقت متأخر من الليل، فيسرع بإخفاء (فوبوس) حتى لا يعتقله القاضي (الدوم كلود فرولو)، وهنا يتهمه القاضي بتهريب (أزميرالدا)، ويلقى على عاتقه مسؤولية الدمار الذي حل في (باريس)، وبأنه يخدعه وهو يعلم بمكان (ساحة العجائب) المكان الذي تتواجد فيه (أزميرالدا) وبقية الغجر، لذلك أعد عدد كثير من الجنود للهجوم على المكان، وعلى وجه السرعة ينطلق الأحدب ( كوازيمودو) و (فوبوس) في محاولة لإبلاغ الغجر المتواجدين في (ساحة العجائب) بنية القاضي (الدوم كلود فرولو) نحوهم، ويتبعون قلادة أعطتها (أزميرالدا) إلى الأحدب لـ(كوازيمودو) تحمل خريطة لمكان تواجد (ساحة العجائب)، ولكن القاضي (الدوم كلود فرولو) يتبعهم، ويقتحم (ساحة العجائب) ويأسر كافة الغجر المتواجدين فيها .
فيخير القاضي (الدوم كلود فرولو) الغجرية الحسناء (أزميرالدا) أما بالزواج منه أو بحرقها حية، فترفض (أزميرالدا) ذلك، فيقوم القاضي (الدوم كلود فرولو) بإضرام النيران بالأخشاب المقيدة بها (أزميرالدا)، ولكن (كوازيمودو) ينقذ (أزميرالدا) للمرة الثانية من النيران، ويصعد بها إلى ملجأه في محاولة لحمايتها من القاضي (الدوم كلود فرولو)، ولكن القاضي يأمر باقتحام كنيسة (نوتردام) لإعادة (أزميرالدا) والنيل من الأحدب (كوازيمودو)، إلا أن (فوبوس) أقنع أهل (باريس) بضرورة التصدي لذلك الهجوم، وهنا تقوم المعركة بين جنود القاضي (الدوم كلود فرولو) وأهالي (باريس) في محاولة لمنعهم اقتحام (نوتردام)، ويشارك في المعركة الأحدب (كوازيمودو) وأصدقاءه (التماثيل الثلاثة) من موقعهم بأعلى (نوتردام)، وأثناء المعركة يتمكن القاضي (الدوم كلود فرولو) من اقتحام (نوتردام)، ويصل إلى الأحدب (كوازيمودو) والغجرية الحسناء (أزميرالدا) محاولا قتلهم، ويطلع القاضي (الدوم كلود فرولو) على حقيقة والدة (كوازيمودو) بقوله بأنها ماتت في محاولتها إنقاذه مثلما يحاول (كوازيمودو) التضحية بنفسه في سبيل إنقاذ (أزميرالدا)، وهنا يتهشم أحد التماثيل تحت قدمي القاضي (الدوم كلود فرولو) ليموت القاضي بشكل مفاجئ ويسقط ميتا وسط النيران التي تسبب في إشعالها، ويسقط الأحدب (كوازيمودو) من فوق البرج ولكن (فوبوس) ينقذه ويرد له جميل حمايته كما فعل، وتهد المعركة ويخرج الأحدب (كوازيمودو) إلى الناس الذين حملوه على الأعناق بعدما اكتشفوا أنه رغم خلقته المشوهة إلا أنه يمتلك قلبا طيبا وبأنه بطل حقيقي؛ فيحملونه على أكتافهم لأنه أنقذ المدينة من عنف القاضي(الدوم كلود فرولو)، ليدركوا بان جسده القبيح ما هو إلا قبح خارجي لا أساس له ولا يعني شيء بما يحمل في أعماقه من قيم ومشاعر إنسانية جميلة .
ومن خلال صفحات هذه الرواية استطاع (هوجو) تسليط الضوء عن الكثير من القضايا التي كان المجتمع الفرنسي يعاني منها آنذاك؛ فطرحها بأسلوب أدبي شيق لنجد كيف طرح (هوجو) مشاهد التعذيب لتجبر البريء على الاعتراف بذنوب لم يرتكبها كما طرحا في مشاهد تعذيب (أزميرالدا)، فيصور (هوجو) المشهد في غاية القسوة حين فرق الجنود بين الأم (أزميرالدا) وابنتها (أزميرالدا)، ليقودوا ابنتها للشنق بعد لقاء قصير من بعد خمسة عشر سنة من الانتظار، ومع هذه القسوة تموت الأم قبل أن تشنق ابنتها فقد رحمها الرب قبل إن تشاهد ابنتها وهي معلقة تعاني سكرات الموت .
وكذلك فان (هوجو) لم يصور القس والقاضي (الدوم كلود فرولو) إنسان فاضلا بل صور حاله كحال أي إنسان؛ يحب ويكره، وقد أحب لدرجة التي وقع في فتنة جمال (آزميرالدا)، ثم بدأ يفقد السيطرة على نفسه، لان وسواس الحب سيطر عليه؛ إذ فضل أن تقتل من إن يجد هذه الفتاة تعيش مع غيره، هذه الأنانية سمحت لنفسه إن يرتكب الجرائم؛ حاله كحال إي مجرم منحرف؛ وليس كقاضي يحكم بالعدل على الدوام، و رغم ذلك فقد كان القاضي (الدوم كلود فرولو) له جانب طيب فقد أحب وعطف على أخيه الصغير إذ كان لا يحتمل أن يرد أي طلب منه رغم أن أخاه كان فتى فاسدا، كما انه قام برعاية الأحدب (كوازيمودو) .
كما ان (هوجو) استطاع إن يعطي صورة من الأخلاق والفضيلة في شخصية الأحدب (كوازيمودو) على عكس أخلاق القاضي (الدوم كلود فرولو) الذي تولى رعايته، فالأحدب عطف على الغجرية (آزميرالدا) لنبل أخلاقها معه، فرغم إن الناس كانوا يستهزئون به لتشوهه؛ وقد اثر سلوكهم هذا في نفسية ومشاعر الأحدب وعاملوه كمنبوذ ومكروه؛ ولكن وجد الأحدب من (آزميرالدا) عكس ذلك فهي كانت تحن عليه وتحترمه ورغم معرفته بان (آزميرالدا) تحب (فوبوس) إلا انه لم تعمي الغيرة قلبه كما فعلت بالقاضي (الدوم كلود فرولو) بل عمل على تقريب بين الحبيبين فحاول الأحدب (كوازيمودو) أن يحضر (فوبوس) إلى (آزميرالدا) لما عرف حبها له، رغم إن (فوبوس) لم يحبها وإنما كان معجب بجمالها وخضوعها له؛ ولكن حب (فوبوس) لم تتعدى علاقته بها بكونها لهو ليس إلا، إما (آزميرالدا ) فبعد إن كان حلمها أن تجد والديها ولكنها تخلت عن هذا الحلم بعد أن قابلت (فوبوس) بكونه أصبح كل شيء في حياتها؛ لدرجة التي أحبته بصدق؛ وكانت مستعدة لفعل أي شيء كي يبقيا معا
وصدقت كلماته بكل سذاجة حين قال بأنه يحبها أيضا؛ ولكن لم يكن صادقا ، ومع ذلك فقد كان حبها حبا جنونيا ولكن غير متبادل، وهو الحب الذي أوصلها إلى الهلاك، كما أنها لم تستطع أن تحب الأحدب (كوازيمودو) الذي أنقذها، لان (فوبوس) كانوا عائقا أمام تكون هذا الحب .
لنستشف من خلال وقائع هذه الرواية العظيمة بان (هوجو) استطاع بجدارة تشخيص قيم الفضيلة.. والتضحية.. والظلم.. والحرمان.. والجريمة.. والعنف.. والحب.. في شخصيات التي قدمها في روايته إلى أعلى مستويات الوصف؛ ليثبت أن المظاهر ليس كل شيء في الحياة وان شخصية الإنسان وحقيقة الإنسانية تمكن في جوهرها، وقد قدم شخصية (الأحدب) بمظهره القبيح والمشوه جسديا كما يراه الآخرين؛ فيقدم شخصية (الأحدب) بعاهته الجسدية وما يتعرض من معانات القمع الآخرين له، ففي أعماق هذا المخلوق - بغض النظر - عن شكله ومظهره المشوه؛ مشاعر وأحاسيس إنسانية رفيعة، فهو يحب.. ويكره.. ويتألم.. وهو كانسان يشعر بالحب ودفئه وبالحرمان؛ فما إن وجد عاطفة من إنسانة رقيقة حنت له حتى خفق قلبه بالحب وشعر لأول مرة في حياته بهذا العطف الإنساني المحروم منه، لأول مرة يقف وجها لوجه مع حسناء جم�