<!--
<!--<!--
متى يصمتُ أهل الفتوى ،، وينطقُ أهل الذكر ؟؟ .
يعكِف أحدهم على كتب التراث ويتلقى نزراً من علوم الفقه والأصول واللغة والتفسير والحديث ليحظى بلقب (عالم شريعة) ، ثم يخرج على الناس ليعلن لهم رأي الإسلام - لا رأيه - في الأيديولوجيات الوافدة والاتفاقيات الدولية والصراعات الطائفية والقضايا الوطنية وشؤون الاقتصاد والفكر والسياسة ومشاكل الإنسان مع التكنولوجيا والحروب الدائرة في أفغانستان والعراق والسودان وسوريا وهلم جرا كل ذلك رغم فقره من المعرفة والتجربة في هذه الميادين ، وتأخذك الدهشة حين ترى الفقهاء يستشيطون غضباً إن تصدر أهل الاختصاص لمثل هذه القضايا بعيداً عن وصايتهم ولا يتورعون أن يتهموه بموبقات ليس أقلها رفض الشريعة.
- وهنا أقولها بكل شجاعة .. إن تأويل علماء الاجتماع لآيات سُنن الله في قيام الحضارات واندثارها أقوى عندي من تأويل الطبري لهذه الآيات ، وتفسير علماء الطبيعة لحديث الله عن آياته في الكون والإنسان أصوب عندي من تفسير ابن كثير ، ورأي فحول السياسة ورجال الاقتصاد في حل مشاكلنا المعقدة أحق بالإتباع من رأي فقهائنا المحصورين في أراء ابن الحسن وأبي يوسف ، وقول المعنيين بشؤون الأقليات والعلاقات الدولية أصلح لعصرنا وأجمع لشملنا من قول ابن القيم وابن تيمية ، ومذهب العاملين في مجال انتهاكات حقوق الإنسان والمرأة والطفل أقوم سبيلاً من المذاهب الأربعة ولو اجتمعت ، على أن ذلك مشروطاً لدى أولى الألباب بإتباع ميزان القرآن وتحقيق مصلحة الإنسان .
- حاشا لله أن أهون من جهود أسلافنا في بيان آيات الكتاب أو اكتشاف أحكام الشرع ، غير أني أكره التقليد المحض وأنزه القرآن آن يحيط بعلمه أحد أو تحتكره فئة من الدارسين على امتداد الزمان ولو لقبوا أنفسهم (فقهاء الشريعة) ، فالقرآن زادُ كل باحث عن المعرفة من كل الأجناس والأديان وفي شتى العلوم والفنون ، وأبواب الدخول إليه واستخراج كنوزه وكشف أسراره ليس لها حصر بل تزداد بتطور العلوم والمعارف ، وتتسع باتساع خبرات الناس وتجاربهم ، وكلما أوغلت في علوم الحياة أو اكتسبت من خبراتها أو عركتك التجارب كلما كنت أفهم للقرآن وأحق بتأويله من غيرك فيما علمته وخبرته ، فآيات الله في الكتاب تبينها آياته في الأنفس والآفاق .
علوم الحياة لا علوم الفقهاء :
إن كتاب الله بحر زاخر تعجز العقول أن تحويه وقمة شامخة تتنافس الأفهام في بلوغها، إن آياته تنقلك من فن إلى فن ومن علم إلى آخر ، فمن آياته ما يُبين الحقوق ويَنظُم الحياة على ميزان دقيق ، ومنها ما يروي أحوال الأمم وتاريخ الخليقة ، ومنها ما يعرض لوحة الكون بكل ما فيه من ألوان الإبداع والتصوير ، ومنها ما يهديك إلى قوانين السقوط والنهوض للدول والحضارات ، ومنها ما يُفصل رسالات السماء وشرعة الأنبياء ، ومنها ما يعلمك أنواعا من فنون الجدال وأساليب الخطاب ، ومنها ما يدلك على عظمة الله والطريق إليه ، ومنها ما يكشف لك ما لا تراه من الغيب كأنك تراه ، ومنها ما يجلو القلوب ويقوِّم الأخلاق ويُرشد العقول ، ومنها ما يكشف علل التدين وتحريف الأديان ، ومنها ما يرفع حيرة أولي الألباب على امتداد الزمان (من ؟ ، ولماذا؟ ، وأين) .
- هكذا يتنوع القرآن في مواضيعه بتنوع ميادين الحياة وتعدد احتياجات الإنسان ، و فٓهم القرآن بعمق أولاً ثم صبغ حياة الإنسان بصبغته ثانياً يٓعوزهُ عقول تتباين في المعارف والخبرات والتجارب كما تتباين في زوايا النظر والاجتهاد ، وفي مقدمتهم عمالقة الفكر والفلسفة ، و علماء الاجتماع والأديان ، و خبراء التقنين والتربية ، و رجال السياسة والاقتصاد ، وعباقرة العلوم التجريبية وفنون الاتصال ، وهذا ما يفتقده فقهاء الشريعة الذين انحصروا في بعض العلوم وغرقوا في كتب التراث ظناً منهم أن فيها إجابة كل سؤال وحلاً لكل مشكلة ، بل لا يجرؤ أحدهم أن يفسر آية من كتاب الله أو يستنبط حكما لقضايا العصر حتى يجد له سنداً من قول مدون في كتب السابقين ، وكأن المفسرين والفقهاء القدامى أحاطوا بعلوم الأولين والآخرين في جميع الفنون .
أهل الذكر ليسوا فقهاء الشريعة :-
لقد كان كلام الله حاسماً حين أمر نبيه (عليه الصلاة والسلام) أن يرد الحكم لأهل الاختصاص في شأن خلافه مع المشركين حول مسألة بشرية الأنبياء على امتداد تاريخ الرسالات فنزل التوجيه الإلهي (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) -الأنبياء:7 -، والعجيب أن يكون أهل الذكر في هذه القضية هم العالمون بالتوراة والإنجيل وما اندثر من تعاليم الرُسل ويعرف هذا في زماننا ب(علم الأديان) ، ويرى بعض المفسرين أنهم العالمون بقصص الأولين من الأمم البائدة ويعرف في زماننا ب (علم التاريخ) و (علم الأثار) ، وفي كلا الحالين ستجد أن أهل الذكر لم يكونوا من المسلمين فضلاً أن يكونوا من علماء الشريعة .
- أنا أعلم أن بعض المفسرين ساءهم أن يكون أهل الذكر من غيرهم فتأولوا الآيات بما نسبوه لغيرهم من الأوائل فزعموا أن أهل الذكر هم العلماء أو أهل القرآن - تفسير القرطبي - ، وازداد استياء بعضهم أن يكون أهل الذكر من غير المسلمين ليحكموا في قضية تتعلق بأصل من أصول الاعتقاد فبادروا للجزم أن أهل الذكر وإن كانوا أهل الكتاب إلا أن المقصود بهم من أسلموا منهم ، غير أن أهل البرهان ردوا هذه الأقوال لتهافتها ، فالآية لم ترد إلا في سور مكية وهما النحل والأنبياء ، وفي مكة لم يكن هناك فقهاء للشريعة ، كما أنه لم يُعرف دخول علماء أهل الكتاب إلى الإسلام في العهد المكي ، ثم كيف يقبل المشركون أن يفصل في دعواهم ضد الرسول (ص) رجلاً من عامة أتباعه فضلاً أن يكون من علمائهم - تفسير البحر المحيط .
مجامع علمية لا مجامع فقهية :-
أتفهم كثيراً وجود دعاة يذكرون الناس بخالقهم ولكنني كثيراً ما أتساءل عن أهمية وجود مجامع فقهية للإفتاء في قضايا إعلامية أو متعلقة بالجاليات في الغرب أو لمراقبة المعاملات البنكية ومدى توافقها مع الشريعة .. إلخ ، هل يا تُرى دين الله وأحكام الإسلام من الغموض ما نحتاج معه لحضور الفقهاء في كل جمع ليكشفوا الأسرار ويٓحُلوا الألغاز ؟! ، أليس في مقدور أعلام كل طائفة وتخصص أن تتعرف قواعد الشرع وتتعلم مبادئ الإسلام ومقاصده العامة لتحتكم إليه وتسير في ركابه بعيداً عن وساطة الفقهاء؟! ، أليس من الأجدى للأمة أن تُعنى بتكوين المجامع العلمية لتقديم الدراسات والبحوث المعنية بتطوير أداءنا الحضاري واللحاق بركب العالم المتقدم في المجالات المختلفة ؟.
- سيظهر علينا من الفقهاء من يدافع عن موقعه في هذه المجامع ويستدل بقوله تعالى (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) التوبة - 122- ، ثم يأتي لك من تفسير البغوي والقرطبي ما يؤيد موقفه ، وحتى لا أخوض في جدل يعلو فيه قول الرجال على قوة البرهان أعود بالقارئ إلى إمام المفسرين الطبري الذي أنكر جازماً أن يكون المراد بعبارة (لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ) فقهاء الشريعة لأن (النفير) لا يكون إلا في الجهاد والغزو ، وإنما عنى النافرين للجهاد ليروا تحقق وعد الله في إهلاك عتاولة المشركين وإظهار أهل الحق وراية الإسلام على سائر الأديان ثم ليعود كل فريق من هؤلاء المجاهدين إلى قبيلته لينذرهم بأيام الله وما تحقق من وعده فيبشر المؤمنين منهم ويحذر المشركين أن يصيبهم ما أصاب أقرانهم .
- إن الرجال الذين خرجوا ليشهدوا تأويل آيات الله أمام أعينهم أفقه في ميزان القرآن من الذين جلسوا في المدينة بين يدي رسول الله (ص) عاكفين على تلاوة القرآن ، بل هم فقهاء الدين على الحقيقة فيما شهدوه ولمسوه عن قرب (ليتفقهوا في الدين) ، وهذا ما قلته وأكرره لأولي الألباب "إن أهل الخبرة والتجربة في أي ميدان من ميادين الحياة أفقه في دين الله من علماء الشريعة وأقدر على فهم آيات الله وتأويلها فيما خبروه وعلموه وهم الأحق بالفتوى وبيان حكم الله في ذلك من علماء الشريعة عملاً بقوله تعالى (وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ "(.
سلموا الراية أيها الفقهاء :-
ربما يسارع البعض بالتحذير من غياب الفقهاء خشية ان يُفتح الباب لأهل الأهواء وخصوم الشريعة أن يفتروا على الله الكذب فيحرفون القرآن بسوء التأويل ويهدمون الشريعة بتعدي حدود الله ، وهنا أسارع بالقول إن سوء التأويل أكثر ما يأتي من فقهاء الشريعة العاكفين على كتب التراث المليئة بما دسه أهل الكتاب من خرافات وما اصطنعه السفهاء من روايات مكذوبة ثم يظنون أنها ستمكنهم من الإحاطة علماً بكلمات الله ، كما أن سوء التأويل الذي يخافونه لا يقل خطراً عن جُرم تحنيط نصوص الوحي ودفنها في كتب المفسرين والفقهاء بعيداً عن مشاكل عصرنا واحتياجاته ، غير أني لا ألبث أن أبث الطمأنينة في نفوس الفقهاء بأن شرط التزام لغة القرآن وقطعيات الشريعة عاصم من كل زلل وكاشف لكل خطاء أو خطيئة ، كما أن أولي الألباب والأتقياء في كل فن لن يتساهلوا أن ينفوا القبيح من الآراء ويفضحوا السفيه من أهل الأهواء .
- وأخيراً أتساءل أما آن للفقهاء أن يُخرجوا القرآن من سجن التراث ليحيا بين الناس حراً يؤدي رسالته الخالدة ؟ ، أما آن للفقهاء أن يرفعوا وصايتهم عنه ويدعوا الناس ينهلون من معينه بعيداً عن سلطانهم ؟ ، أما آن للفقهاء أن يعلموا أن أحكام الدين وقواعده ومقاصده قد يسرها الله لعامة الناس ليتعلموها ويعملوا بها ويحكموا بها أفعالهم دون حاجة لوسطاء يفتونهم (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِر (سورة القمر؟ ، أما آن للفقهاء أن يقتدوا بسُنن المرسلين فيُعيدوا الأمر إلى نصابه ويُسلموا الرآية لأهل الذكر ليمدنا القرآن بخيراته في كل علم وفن ؟ ، أما آن للفقهاء أن ينضموا لقافلة أهل الذكر فيجمعوا إلى دراسة التراث دراسة آيات الله في الأنفس والأفاق حتى يتبين لهم أنه الحق ؟ .
ساحة النقاش