جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
مفتاح الجنة
د/ محمد بن عبد الرحمن العريفي
الحمد لله الذي رضي الإسلام لعباده دينا .. ونصب الأدلة على على ألوهيته وبينها تبييناً .. وكفى بربك هادياً ومعيناً .. لم يتخذ ولدا .. ولم يكن له شريك في الملك .. وكبره تكبيراً ..
يعطي ويمنع .. ويخفض ويرفع .. ويصل ويقطع .. ولا يسأل عما يقضي ويصنع .. لا شريك له في ملكه .. ولا ندّ له في حكمه .. ولا ظهير له ولا وزير .. ولا شبيه له ولا نظير .. ذلت الجبابرة لعزته .. وانكسرت النفوس لهيبته .. وخشعت القلوب لعظمته ..
فأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمد عبده ورسوله ..
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. وصفيه وخليله ..
صلى الله .. أما بعد ..
أما الأول : فجلس إليَّ مهموماً وقال : يا شيخ .. مللت من الغربة ..
فقلت : عسى الله أن يعجل رجوعك إلى أهلك ..
فبكى .. وقال : ولله لو عرفت شوقهم إليَّ .. هل تصدق أن أمي سافرت أربعمائة ميل لتدعو لي عند ضريح قبر الشيخ فلان .. وتسأله أن يردني إليها ..!! ثم قال : هو رجل مبارك تقبل منه الدعوات .. ويسمع دعاء الداعين .. حتى بعد موته ..!!
أما الثاني : فقد حدثني بعض المشايخ أنه كان على صعيد عرفات .. والناس في بكاء ودعوات .. قد لفوا أجسادهم بالإحرام .. ورفعوا أكفهم إلى الملك العلام .. قال : وبينما نحن في خشوعنا لفت نظري شيخ كبير .. قد انحنى ظهره .. وهو يردد : يا شيخ فلان .. أسألك أن تكشف كربتي .. اشفع لي .. وارحمني .. ويبكي وينتحب ..
فانتفض جسدي .. وصحت به : اتق الله .. كيف تدعو غير الله !! هذا الولي عبدٌ مملوكٌ .. لا يسمعك ولا يجيبك .. ادعُ الله وحده لا شريك له ..
فالتفت إليَّ ثم قال : إليك عني يا عجوز .. أنت ما تعرف قدر الشيخ عند الله !!.. أنا أؤمن يقيناً أنه ما تنزل قطرة من السماء .. ولا تنبت حبة من الأرض إلا بإذن هذا الشيخ ..
فسبحان الله .. أين هؤلاء اللاجئين إلى غير مولاهم .. الطالبين حاجاتهم من موتاهم .. المتجهين بكرباتهم إلى عظام باليات .. وأجساد جامدات .. أينهم عن الله ..!! الذي يرى حركات الجنين .. ويسمع دعاء المكروبين ..
البحر المتلاطم ..
كانت الدنيا مليئة بالمشركين .. هذا يدعو صنماً .. وذاك يرجو قبراً ..
وكان من بينهم سيد من السادات .. هو عمرو بن الجموح ..
كان له صنم اسمه مناف .. يتقرب إليه .. ويسجد بين يديه ..
صنم صنعه من خشب .. لكنه أحب إليه من أهله وماله ..
وكان هذا دأبه مذ عرف الدنيا .. حتى جاوز عمره الستين سنة ..
فلما بُعث النبي صلى الله عليه وسلم في مكة .. وأرسل مصعب بن عمير رضي الله عنه .. داعيةً ومعلماً لأهل المدينة .. أسلم أولاد عمرو بن الجموح دون أن يعلم ..
فقالوا : يا أبانا قد اتبعه الناس فما ترى في اتباعه ؟ فقال : لا أفعل حتى أشاور مناف !!
ثم قام عمرو إلى مناف .. فوقف بين يديه .. وقال :
يا مناف .. قد علمت بخبر هذا القادم .. وإنما ينهانا عن عبادتك .. فأشِرْ عليّ يا مناف .. فلم يردَّ الصنم شيئاً .. فأعاد عليه فلم يجب ..
فقال عمرو : لعلك غضبت .. وإني ساكت عنك أياماً حتى يزول غضبك ..
ثم تركه وخرج .. فلما أظلم الليل .. أقبل أبناؤه إلى مناف .. فحملوه وألقوه في حفرة فيها أقذار وجيف ..
فلما أصبح عمرو دخل إلى صنمه فلم يجده ..
فصاح بأعلى صوته : ويلكم !! من عدا على إلهنا الليلة .. فسكت أهله ..
ففزع ..واضطرب ..وخرج يبحث عنه ..فوجده منكساً على رأسه في الحفرة..فأخرجه وطيبه وأعاده لمكانه..
وقال له : أما والله يا مناف لو علمتُ من فعل هذا لأخزيته ..
فلما كانت الليلة الثانية أقبل أبناؤه إلى الصنم .. فحملوه وألقوه في تلك الحفرة المنتنة .. فلما أصبح الشيخ التمس صنمه .. فلم يجده في مكانه ..
فغضب وهدد وتوعد .. ثم أخرجه من تلك الحفرة فغسله وطيبه ..
ثم ما زال أولاده يفعلون ذلك بالصنم كل ليلة وهو يخرجه كل صباح فلما ضاق بالأمر ذرعاً راح إليه قبل منامه وقال : ويحك يا مناف إن العنز لتمنع أُسْتَها ..
ثم علق في رأس الصنم سيفاً وقال : ادفع عدوك عن نفسك ..
فلما جَنَّ الليلُ حمل الفتيةُ الصنم وربطوه بكلب ميت وألقوه في بئر يجتمع فيها النتن .. فلما أصبح الشيخ بحث عن مناف فلما رآه على هذا الحال في البئر قال :
ورب يبـول الثعلبـان برأسه لقد خاب من بالت عليه الثعالب
ثم دخل في دين الله .. وما زال يسابق الصالحين في ميادين الدين ..
وانظر إليه .. لما أراد المسلمون الخروج إلى معركة بدر .. منعه أبناؤه لكبر سنه .. وشدة عرجه ..
فلما كانت غزوة أحُد .. أراد عمرو الخروج للجهاد .. فمنعوه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. يدافع عبرته .. ويقول : ( يا رسول الله إن بنيّ يريدون أن يحبسوني عن الخروج معك إلى الجهاد .. قال : إن الله قد عذرك ..
فقال .. يا رسول الله .. والله إني لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنة ..
فأذن له صلى الله عليه وسلم بالخروج .. فلما وصلوا إلى ساحة القتال .. انطلق يضرب بسيفه جيش الظلام .. ويقاتل عباد الأصنام .. حتى كثرت عليه السيوف فقتل ..
فدفنه النبي عليه الصلاة والسلام .. وبعد ست وأربعين سنة .. نزل بمقبرة شهداء أحد .. سيل شديد .. غطّى أرض القبور ..
فسارع المسلمون إلى نقل رُفات الشهداء .. فلما حفروا عن قبر عمرو بن الجموح .. فإذا هو كأنه نائم .. لم تأكل الأرض من جسده شيئاً ..
فتأمل كيف ختم الله له بالخير لما رجع إلى الحق لما تبين له ..
بل انظر كيف أظهر الله كرامته في الدنيا قبل الآخرة .. لما حقق لا إله إلا الله ..
هذه الكلمة التي قامت بها الارض والسموات .. وفطر الله عليها جميع المخلوقات .. وهي سبب دخول الجنة ..
ولأجلها خلقت الجنة والنار .. وانقسم الخلق إلى مؤمنين وكفار .. وأبرار وفجار ..
فلا تزول قدما العبد بين يدي الله حتى يسأل عن مسألتين ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين ..
سفينة النجاة ..
وكم من إنسان هلك مع الهالكين .. واستحق اللعنة إلى يوم الدين .. بسبب أنه لم يحقق التوحيد ..
فالله هو الرب الواحد .. لا يتوكل العبد إلا عليه .. ولا يرغب إلا إليه ..
ولا يحلف إلا باسمه .. ولا ينذر إلا له ..
فهذا هو تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله .. ولهذا حرم الله على النار أهلَ لا إله إلا الله ..
وانظر إلى معاذ رضي الله عنه .. لما مشى خلف النبي صلى الله عليه وسلم .. فالتفت إليه النبي صلى الله عليه وسلم فجأة ثم سأله .. يا معاذ : أتدري ما حق الله على العباد .. وما حق العباد على الله ..
قال : الله ورسوله أعلم ..
فقال صلى الله عليه وسلم : حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً .. وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً ..
وفي حديث آخر .. أنه رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله .. أي ذنب عند الله أعظم .. فقال صلى الله عليه وسلم : أن تجعل لله نداً وهو خلقك ..
نعم .. التوحيد من أجله .. بعث الله الرسل .. قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ } .. والطاغوت هو كل ما عبد من دون الله .. من صنم أو قبر ..
والتوحيد هو مهمة الرسل الأولى كما قال تعالى : { وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ } .. والأعمال كلها متوقفة في قبولها على التوحيد .. قال تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } .. ومن حقق التوحيد نجا .. كما صح عند الترمذي .. أن الله تعالى قال : يا ابن آدم لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة ..
ولعظم أمر التوحيد .. خاف الأنبياء من فقده ..
فذاك أبو الموحدين .. محطم الأصنام .. وباني البيت الحرام .. إبراهيم عليه السلام .. يبتهل إلى الملك العلام .. ويقول : { واجنبني وبني أن نعبد الأصنام } .. ومن يأمن البلاء بعد إبراهيم ؟ ..
بداية الانحراف ..
أول ما حدث الشرك في قوم نوح ..
فبعث الله نوحاً .. فنهاهم عن الشرك .. فمن أطاعه ووحد الله نجى ..
ومن ظل على شركه .. أهلكه الله بالطوفان .. وبقي الناس بعد نوح على التوحيد زماناً .. ثم بدأ إبليس في الإفساد .. ونشر الشرك بين العباد .. ولم يزل الله تعالى يبعث المرسلين مبشرين ومنذرين ..
إلى أن بعث خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم .. فسارت الأمة على التوحيد ..
إلى أن عاد الشرك إلى بعضهم بسبب تعظيم الأولياء والصالحين ..
بنيت الأضرحة على قبورهم .. وصرف الدعاء والنذر لمقاماتهم ..
وسموا هذا الشرك توسلاً بالصالحين .. وزعموا أن تعظيمهم لقبور هؤلاء .. تقربهم إلى الله زلفى ..
ونسوا أن هذه حجة المشركين الأولين حيث قالوا عن أصنامهم : { ما نعبدهم إلى ليقربونا إلى الله زلفى } ..
نعم أبو جهل وأبو لهب كانوا يعتقدون أن الله هو الإله الأعظم.. لكنهم أشركوا معه آلهة أخرى ظنوا أنها توصل إليه .. وتشفع لهم عنده ..
قـصـة ..
روى البيهقي وغيره : أنه لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته بين الناس .. حاول كفار قريش أن ينفروا الناس عنده .. فقالوا : ساحر .. كاهن .. مجنون ..
لكنهم وجدوا أن أتباعه يزيدون ولا ينقصون ..
فاجتمع رأيهم على أن يغروه بمال ودنيا ..
فأرسلوا إليه حصين بن المنذر الخزاعي .. وكان من كبارهم ..
فلما دخل عليه حصين .. قال : يا محمد .. فرقت جماعتنا .. وشتت شملنا .. فإن كنت تريد مالاً أعطيناك .. وإن أردت نساءً زوجناك .. وإن أردت ملكاً ملكناك .. ومضى في كلامه وإغرائه .. والنبي عليه الصلاة والسلام ينصت إليه ..
فلما انتهى من كلامه .. قال له صلى الله عليه وسلم : أفرغت يا أبا عمران ..
قال : نعم .. قال : فأجبني عما أسألك ..
يا أبا عمران .. كم إلهاً تعبد ؟ قال : أعبد سبعة .. ستة في الأرض .. وواحداً في السماء !! قال : فإذا هلك المال .. من تدعو !؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فإذا انقطع القطر من تدعو ؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فإذا جاع العيال .. من تدعو ؟
قال : أدعوا الذي في السماء .. قال : فيستجيب لك وحده .. أم يستجيبون لك كلهم .. قال : بل يستجيب وحده ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يستجيب لك وحده .. وينعم عليك وحده .. وتشركهم في الشكر .. أم أنك تخاف أن يغلبوه عليك .. قال حصين : لا .. ما يقدرون عليه ..
فقال صلى الله عليه وسلم : يا حصين ..أسلم أعلمك كلمات ينفعك الله بهن ..فقيل إنه أسلم فعلمه النبي صلى الله عليه وسلم دعاء يدعو به.. ( أو كما جاء في الحديث ) ..
وفي الصحيحين وغيرهما ..
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث خيلاً جهة نجد .. لينظروا له ما حول المدينة ..
فبنما هم يتجولون على دوابهم .. فإذا برجل قد تقلد سلاحه .. ولبس الإحرام .. وهو يلبي قائلاً : لبيك اللهم لبيك .. لبيك لا شريك لك .. إلا شريكاً هو لك .. تملكه وما ملك .. ويردد : إلا شريكاً هو لك .. تملكه وما ملك ..
فأقبل الصحابة عليه .. وسألوه أين يريد .. فأخبرهم أنه يريد مكة .. فنظروا في حاله فإذا هو قد أقبل من ديار مسيلمة الكذاب .. الذي ادعى النبوة ..
فربطوه وأوثقوه وجاؤوا به إلى المدينة .. ليراه النبي صلى الله عليه وسلم .. ويقضي فيه ما شاء ..
فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام .. قال لأصحابه : أتدون من أسرتم .. هذا ثمامة بن أثال سيد بني حنيفة ..
ثم قال اربطوه في سارية من سواري المسجد .. وأكرموه ..
ثم ذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيته وجمع ما عنده من طعام وأرسل به إليه ..
فربطوه بسارية من سواري المسجد .. فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما عندك يا ثمامة ؟
قال : عندي خير يا محمد .. إن تقتلني تقتل ذا دم .. ( أي ينتقم لي قومي ) .. و إن تنعم تنعم على شاكر .. وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ..
فتركه صلى الله عليه وسلم حتى كان الغد .. ثم قال له : ما عندك يا ثمامة ؟
فقال : عندي ما قلت لك إن تقتلني تقتل ذا دم .. و إن تنعم تنعم على شاكر .. و إن كنت تريد المال فسل منه ما شئت ..
فتركه صلى الله عليه وسلم حتى بعد الغد .. فمر به فقال : ما عندك يا ثمامة ؟
فقال : عندي ما قلت لك ..
فلما رأى صلى الله عليه وسلم أنه لا رغبة له في الإسلام .. وقد رأى صلاة المسلمين .. وسمع حديثم .. ورأى كرمهم .. قال صلى الله عليه وسلم : أطلقوا ثمامة .. فأطلقوه .. وأعطوه دابته وودعوه ..
فانطلق ثمامة إلى ماء قريب من المسجد .. فاغتسل .. ثم دخل المسجد .
فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ..
يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك .. فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي ..
و الله ما كان دين أبغض إلي من دينك .. فأصبح دينك أحب الدين إلي ..
والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي ..
ثم قال : يا رسول الله .. إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فماذا ترى ؟
فبشره النبي صلى الله عليه وسلم بالخير .. وأمره أن يكمل طريقه إلى مكة ويعتمر ..
فذهب إلى مكة يلبي بالتوحيد قائلاً .. لبيك لا شريك لك .. لبيك لا شريك لك ..
نعم أسلم فقال : لبيك لا شريك لك .. فلا قبر مع الله يعبد .. ولا صنم يُصلَّى له ويُسْجَد .. ثم دخل ثمامة رضي الله عنه مكة .. فتسامع به سادات قريش فأقبلوا عليه ..
فسمعوا تلبيته فإذا هو يقول .. لبيك لا شريك لك .. لبيك لا شريك لك ..
فقال له قائل : أصبوت ؟ قال : لا .. ولكن أسلمت مع محمد صلى الله عليه وسلم ..
فهموا به أن يؤذوه .. فصاح بهم وقال :
والله .. لا تأتيكم من اليمامة حبة حنطة .. حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم ..
فانظر كيف كان يعظم الله .. ويعظم غيره معه .. فصار بذلك مشركاً ..
نعم .. كانوا يعظمون الله .. أكثر من تعظيمهم لهذه الآلهة ..
فقل لي بربك .. ما الفرق بين شرك أبي جهل وأبي لهب ..
وبين من يذبح اليوم عند قبر .. أو يسجدُ على أعتاب ضريح .. أو يذبحُ له ويطوف ..
أو يقف عند مشهد الولي ذليلاً خاضعاً .. منكسراً خاشعاً ..
يلتمس من عظام باليات شفاء المريض .. ورد المسافر ..
عجباً .. والله يقول : { إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ..
وهذا الشرك ..الذي يقع عند القبور من ذبح لها ..وتقرب إلى أهلها .. هو أعظم الذنوب ..
نعم أعظم من الخمر والزنا .. وقد قال تعالى ( إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء ) ..
نعم .. الله لا يغفر أن يشرك به .. بينما قد يغفر الله للزناة .. ويعفو عن القتلة والجناة .. أما الشرك فهو أعظم الذنوب .. ولا يغفره الله أبداً .. قال الله { إن الشرك لظلم عظيم } ..
والجنة حرام على المشركين .. قال تعالى : ( إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار ) ..
ومن وقع في الشرك .. أفسد عليه هذا الشرك .. جميع عباداته من صلاة وصوم وحج وجهاد وصدقة .. قال تعالى : { ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين } ..
والشرك له صور متعددة :
منها ما يخرج من الملة .. ويخلد صاحبه في النار إذا مات ولم يتب منه ..
كدعاء غير الله .. والتقرب بالذبائح والنذور لغير الله .. من القبور والجن .. والخوفِ من الموتى .. أو الجن والشياطين أن يضروه أو يمرضوه ..
ورجاءِ غير الله فيما يقدر عليه إلا الله .. من قضاء الحاجات .. مما يمارس الآن حول الأضرحة والقبور ..
فالقبور تزار لأجل الاتعاظ والدعاء للأموات .. كما قال صلى الله عليه وسلم : زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة ..
أما زيارة القبور لدعاء أهلها ..أو طلب الحاجات منهم فهذا شرك أكبر .. ولا فرق بين كون المدعو المقبور نبياً أو ولياً .. فكل هؤلاء بشر .. لا يملكون ضراً ولا نفعاً .. قال الله لأحب خلقه إليه محمد صلى الله عليه وسلم : ( قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ) ..
ويدخل في ذلك ما يفعله الجهال عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم من دعائه والاستغاثة به .. أو عند قبر الحسين .. أو البدوي .. أو الجيلاني .. أو غيرهم ..
أما زيارة القبور للصلاة عندها والقراءة .. فهذه بدعة ..
وكثير من هذه القبور .. التي تُعظَّم .. يكون لها خدم يظهرون التقى ويختلقون الأكاذيب .. ويدعون إلى الشرك ..
ومما يزيد الطيب بلة .. أنهم لم يكتفوا بتعظيم الأموات وإنما صرفوا الأموال في تزيين القبور والبناء عليها ..
وقد حذر النبي عليه الصلاة والسلام من ذلك .. بل قال لعلي رضي الله عنه : لا تدع تمثالاً إلا طمسته .. ولا قبراً مشرفاً إلا سوّيته ..
ونهى صلى الله عليه وسلم أن ( يجصص القبر .. وأن يقعد عليه .. وأن يبنى عليه .. أو أن يكتب عليه " .. ولعن J " المتخذين عليها [ أي القبور] المساجد والسُرج " .. وقال عليه الصلاة والسلام : " لعن الله قوماً اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد " وهذا في قبره الشريف وفي كل قبر .. ولم يكن على عهد الصحابة والتابعين بناء على قبر نبي ولا غيره ..
ولكن ماذا يفعلون هناك ؟
يقصد كثير من القبوريين الأضرحة حاملين معهم الأغنام والأبقار .. وأنواع الأطعمة والأموال .. قرباناً لصاحب الضريح.. وقد يطوفون بالقبر وبتمرغون بترابه..
وتجد بعضهم يحلفون بالأولياء ولمقبورين بل لو حلف بالله ما قبلوا منه ولا صدقوه .. فإذا حلف باسم ولي من أوليائهم قبلوه وصدقوه ..
ومنهم من يخلع نعاله احتراماً لصاحب الضريح ..
ويتبرك بالضريح والقبة فيأخذ من ترابها.. أو يضع يديه على القبر ويمسح على جسده .. بل ترى المرأة ترفع طفلها .. وتهزه وهي تخاطب الشيخ المقبور راجية منه البركة في صغيرها .. وقد ترى من يسجد وهو مستقبل القبر ..
ومنهم من يعتكف عند القبر أياماً .. التماساً لشفاء أو قضاء حاجة ..
كما يظهر على الزائر الخشوعُ والسكينةُ والتأثرُ والبكاء..
فصار هؤلاء المقبورون آلهة من دون الله .. والله لا يرضى أن يعبد معه نبي ولا ملك .. فكيف إذا عُبد معه غيرهم ..
وهؤلاء المقبورون لا يستطيعون نصر أنفسهم .. ولا نفعها ,, فضلاً عن نفع غيرهم ..
وما أقرب حال من يعظمونهم ويخافونهم .. من حال وفد ثقيف لما أسلموا فخافوا من صنم عندهم .. وهو لا يضر ولا ينفع ..
فإنه لما تمكن الإسلام في الناس .. بدأت القبائل ترسل وفودها لتعلن إسلامها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم ..
فأقبل بضعة عشر رجلاً من قبيلة ثقيف .. إلى النبي صلى الله عليه وسلم .. فأنزلهم المسجد ليسمعوا القرآن .. فلما أرادوا إعلان إسلامهم .. نظر بعضهم إلى بعض فتذكروا صنمهم الذي يعبدون .. وكانوا يسمونه الربة ..
فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم .. عن الربا والزنا والخمر فحرم عليهم ذلك كله ..
فأطاعوا .. ثم سألوه عن الربة .. ما هو صانع بها ؟
قال : اهدموها .. قالوا : هيهات !! لو تعلم الربة أنك تريد أن تهدمها .. قتلت أهلها .. ومن حولها .. فقال عمر رضي الله عنه : ويحكم ما أجهلكم !! إنما الربة حجر ..
فقالوا : يا رسول الله .. تولَّ أنت هدمها . أما نحن فانا لن نهدمها أبدا ..
فقال صلى الله عليه وسلم : سأبعث إليكم من يكفيكم هدمها .. فاستأذنوه أن يرجعوا إلى قومهم ..
فدعوا قومهم إلى الإسلام .. فأسلموا ومكثوا أياماً .. وفي قلوبهم وجل من الصنم ..
فقدم عليهم خالد بن الوليد والمغيرة بن شعبة في نفر من الصحابة ..
فأقبلوا إلى الصنم وقد اجتمع الرجال والنساء والصبيان ..
وهم يرتجفون .. وقد أيقنوا أنها لن تنهدم .. وسوف تقتل من يمسها ..
فأقبل عليها المغيرة بن شعبة .. فأخذ الفأس .. وقال لأصحابه :
والله لاضحكنكم من ثقيف .. فضربها بالفأس ..
ثم سقط يرفس برجله .. فصاح الناس .. وظنوا أن الصنم قتله ..
ثم قالوا لخالد بن الوليد ومن معه : من شاء منكم فليقترب ..
فلما رأى المغيرة فرحتهم بنصرة صنمهم .. قام فقال : والله يا معشر ثقيف .. إنما هي حجارة ومدر .. فاقبلوا عافية الله واعبدوه .. ثم ضربها فكسرها .. ثم علا الصحابة فوقها فهدموها حجراً حجراً ..
مادام أن الله فطر العباد على التوحيد .. فكيف نشأ الشرك ..؟!
لو تأملت كيف نشأ الشرك على الأرض .. لوجدت أنه الغلو في الصالحين ورفعهم فوق منزلتهم ..
ففي قوم نوح ..كان الناس موحدين ..يعبدون الله وحده لا شريك له ..ولم يكن شرك على وجه الأرض أبداً
وكان فيهم خمسة رجال صالحين .. هم وُد وسواع ويغوث ويعوق ونسر .. فلما ماتوا .. حزن عليهم قومهم .. وقالوا : ذهب الذين كانوا يذكروننا العبادة .. ويأمروننا بطاعة الله ..
فوسوس الشيطان لهم .. قائلاً : لو صوّرتم صورهم .. على شكل تماثيل .. ونصبتموها عند مساجدكم .. فإذا رأيتموهم ذكرتم العبادة فنشطتم لها ..
فأطاعوه .. فاتخذوا الأصنام رموزاً .. لتذكرهم بالعبادة والصلاح..!..
فكانوا فعلاً .. يرون هذه الأصنام فيتذكرون العبادة .. ومضت السنين .. وذهب هذا الجيل .. ونشأ أولادهم من بعدهم .. وكبروا وهم يرون آباءهم يثنون على هذه التماثيل والأصنام .. ويعظمونها .. لأنها تذكرهم بالصالحين ..
ثم نشأ قوم بعدهم .. فقال لهم إبليس: ( إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يعبدونها .. وكانوا إذا أصابهم قحط أو حاجة لجئوا إليها ) فاعبدوها..
فعبدوها .. حتى بعث الله إليهم نوحاً عليه السلام .. فدعاهم ألف سنة إلا خمسين عاماً .. فما آمن معه إلا قليل .. فغضب الله على الكافرين .. فأهلكهم بالطوفان ..
هذا ما حدث في قوم نوح عليه السلام ..
واليوم نأتي إلى القبوريين فنسأل : كيف تبدأ علاقتهم بالضريح ؟ وكيف تنتهي بهم إلى الشرك ؟
تبدأ العلاقة بتقديس الأشخاص .. ذوي الصلاح والتقوى ..
ومن ثم : تستحب زيارة تلك البقاع .. ليس لتذكر الموت والآخرة .. بل لتذكر الشيخ الصالح ودعاءِ الله عنده رجاء الإجابة .. ثم لمسُ القبر والتمسحُ به ..
واتخاذه واسطة ووسيلة للشفاعة عند الله .. ويزعمون أن صاحب الضريح له جاه عند الله .. بينما صاحب الحاجة متلطخ بالذنوب .. لا يصلح أن يدعو الله مباشرة .. فلا بدَّ أن يجعل صاحب القبر واسطة بينه وبين الله !!
ثم يقذف الشيطان في قلوب الزائرين .. يقول لهم :
ما دام هذا المقبور مكرماً فقد يعطيه الله تصرفاً وقدرة ..
فيبدأ الزائر يعظم المقبور في نفسه .. ويهابه .. ويرجوه ..
ثم بعد ذلك يدعوه .. ثم يبني عليه مسجداً .. أو قبة وضريحاً ..
ثم ينسجون حوله الكرامات .. والقصص والحكايات .. فهذه امرأة دعته فرزقت زوجاً .. والثانية أنجبت ولداً .. وهكذا ..
وبعضهم يردد قائلاً .. من زار الأعتاب ما خاب .. أي: من زار الأضرحة والأعتاب ( المقدسة ) .. قضيت حاجته ونال مراده..
بل سئل أحد التجار : لماذا تقسم للزبائن بضريح الشيخ .. ولا تقسم بالله ؟
فقال : إنهم لا يرضون بالقسم باسم الله .. ولا يرضون إلا بالقسم بضريح سيدنا فلان .. فانظر كيف صار تعظيمهم للضريح أكبرَ من تعظيمهم لله !!
وما أقرب حال هؤلاء بما حكاه أبو رجاء العطاردي رضي الله عنه .. لما قال :
كنا في الجاهلية نعبد الأصنام .. والأحجار والأشجار ..
فكان أحدنا يعبد حجراً .. فإذا رأى حجراً آخر أمثل منه .. ألقى حجره وعبد الآخر .. فإذا لم نجد حجراً جمعنا جُثوة من تراب ثم جئنا بالشاة فحلبناه عليه ثم طفنا به..
فخرجنا مرة في سفر .. ومعنا إلهنا الذي نعبده .. حجر قد جعلناه في خُرج .. فكنا إذا أشعلنا ناراً لطعام فلم نجد حجراً ثالثاً للقدر .. وضعنا إلهنا .. وقلنا : هو أدفأ له إذا اقترب من النار ..
فنزلنا منزلاً يوماً .. وأخرجنا الحجر من الخُرج ..فلما ارتحلنا صاح صائح من قومي فقال : ألا إن ربكم قد ضل فالتمسوه ..
فركبنا كل بعير صعب وذلول نبحث عن ربنا ..
فبينما نحن نبحث إذ سمعت صائحاً آخر من قومي يقول : ألا إني قد وجدت ربكم .. أو رباً يشبهه ..
فرجعت إلى موضع رحالنا .. فرأيت قومي ساجدين عند صنم .. فأتينا فنحرنا عنده الإبل ..
فاعجب من جهلهم في جاهلية ما قبل الإسلام .. واعجب أكثر من جاهليتهم اليوم ..
بالله عليك ما الفرق بين يعبد حجراً .. ومن يعبد قبراً ..
بين من ينزل حاجاته بأصنام .. ومن ينزلها برفات وعظام ..
بين من يتعبد لقبور الأولياء .. ومن يتعبد لطين وماء ..
نعم كل هؤلاء يقولون : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ..
أربعة اعتراضات .. الأول :
قد يقول بعض المتعلقين بالقبور : أنتم تشددون علينا .. فنحن لا نعبد الأموات .. لكن هؤلاء المقبورين أولياء صالحون .. لهم عند الله جاه ومكان .. فهم يشفعون لنا عند الله .. فنقول : هذا هو شرك كفار قريش في عبادتهم للأصنام ..
فمشركو العرب كانوا مقرين بتوحيد الربوبية .. وأن الخالق الرازق المدبر هو الله وحده لا شريك له .. كما قال تعالى : ( قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ وَيُخْرِجُ المَيِّتَ مِنَ الحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ ) ..
ومع ذلك قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم .. لأنهم لم يفردوا الله بجميع أنواع العبادة ..
والشرك هو أن يفعل العبد لغير الله شيئاً يختص به الله سبحانه سواءً أطلق على ذلك الغير ما كان تطلقه عليه الجاهلية كالصنم والوثن .. أو أطلق عليه اسماً آخر كالولي والقبر والضريح ..
الثاني .. وقد يعترض بعض المتعلقين بالقبور .. ويقولون :
نحن نتقرب إلى المقبورين .. من الأولياء والصالحين .. من أجل طلب الشفاعة.. فهؤلاء الموتى قوم صالحون .. فلهم جاه وقدر عند الله .. نحن نطلب منهم أن يشفعوا لنا عند الله ..
فنقول لهم .. يا قوم .. ويحكم أجيبوا داعي الله وآمنوا به ..
لسنا الوحيدون ..... لكننا الأفضل