المشتاقون إلى الجنة
الحمد لله الذي جعل جنة الفردوس لعباده المؤمنين نزلا
ويسرهم للأعمال الصالحة الموصلة إليها فلم يتخذوا سواها شغلا
وسهل لهم طرقها فسلكوا السبيل الموصلة إليها ذللا
وكمل لهم البشرى بكونهم خالدين فيها لا يبغون عنها حولا.
الحمد لله فاطر السموات والأرض جاعل الملائكة رسلا
وباعث الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل
والحمد لله الذي رضى من عباده باليسير من العمل
وتجاوز لهم عن الكثير من الزلل
وأفاض عليهم النعمة، وكتب على نفسه الرحمة
وضمن الكتاب الذي كتبه أن رحمته سبقت غضبه
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
أما بعد :
فإن الله سبحانه وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً ، ولم يتركهم سدى
بل خلقهم لأمر عظيم وخطب جسيم
عرض على السموات والأرض والجبال فأبين وأشفقن منه إشفاقاً ووجلا
وحمله الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً
والعجب كل العجب من غفلة من لحظاته معدودة عليه
وكل نفس من أنفاسه إذا ذهب لم يرجع إليه
وإنما يتبين سفه المفرط يوم الحسرة والندامة
إذا حشر المتقون إلى الرحمن وفدا وسيق المجرمون إلى جهنم ورداً
فالأولون في روضات الجنة يتقلبون وعلى أسرتها يجلسون وعلى بطائنها يتكئون
وأولئك في أودية جهنم يصطلون ، جزاء بما كانوا يعملون
ومن هنا اشتاقت نفوس الصالحين إلى الجنة
حتى قدموا في سبيل الوصول إليها كلَّ ما يملكون
هجروا لذيذ النوم والرقاد ، وبكوا في لأسحار ، وصاموا النهار ، وجاهدوا الكفار ،
فلله كم من صالح وصالحة اشتاقت إليهم الجنة كما اشتاقوا إليها
من حسن أعمالهم ، وطيب أخبارهم ، ولذة مناجاتهم ،
وكان لكل واحد منهم ، ولكل واحدة منهن مع الله جل جلاله أخبار وأسرار ، لا يعرفها غيره أبداً، جعلوها بين أيديهم عُدداً
لا يطلبون جزاءهم إلا منه ، فطريقهم إليه ، ومعولهم عليه ، ومآلهم يكون بين يديه
فلا إله إلا الله .. كم بكت عيون في الدنيا خوفاً من الحرمان من النظر إلى وجه الله الكريم
فهو سبحانه أعظم من سجدت الوجوه لعظمته ، وبكت العيون حياءً من مراقبته ، وتقطعت الأكباد شوقاً إلى لقائه ورؤيته
فالمشتاقون إلى الجنة لهم مع ربهم تعالى أخبار وأسرار
فإليكم شيئاً من أخبارهم ، وطرفاً من أسرارهم ..
أول هذه الأخبار
ما أورده ابنُ الجوزي في صفة الصفوة وابنُ النحاس في مشارع الأشواق عن رجل من الصالحين اسمه أبو قدامة الشامي ..
وكان رجلاً قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلا يسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل مع المسلمين فيه ، فجلس مرة في الحرم المدني فسأله سائل فقال :
يا أبا قدامة أنت رجل قد حبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو
فقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك :
خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور ( والثغور هي مراكز عسكرية تجعل على حدود البلاد الإسلامية لصد الكفار عنها ) فمررت في طريقي بمدينة الرقة ( مدينةٍ في العراق على نهر الفرات ) واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي ، ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله ، فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه ، فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق عليّ ، فلنا فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها ،
فقلت : ما تريدين ؟
قالت : أنت أبو قدامة ؟
قلت : نعم ،
قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟
قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية ،
فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها : إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي ،
قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها ، وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة .
فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة ، فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة ، قف عليَّ يرحمك الله ،
قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس ، فلما رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائباً ،
فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال .
فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمك القتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك .
فقال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة
فقلت له : يا بني ؟ عندك والد ؟ قال : أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي .
قلت : أعندك والدة ؟
قال : نعم ، قلت : ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدمها
فقال : أما تعرف أمي ؟ قلت : لا ،
قال : أمي هي صاحبة الوديعة ، قلت : أي وديعة ؟
قال : هي صاحبة الشكال ، قلت : أي شكال ؟
قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟
قلت : بلى ، قال : هي أمي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع ..
وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر ، وهَب نفسك لله واطلب مجاورة الله ، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة ، فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيَّ
ثم ضمتني إلى صدرها ، ورفعت رأسها إلى السماء ، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي ، هذا ولدي ، وريحانةُ قلبي ، وثمرةُ فؤادي ، سلمته إليك فقربه من أبيه ..
سألتك بالله ألا تحرمني الغزو معك في سبيل الله ، أنا إن شاء الله الشهيد ابن الشهيد ، فإني حافظ لكتاب الله ، عارف بالفروسية والرمي ، فلا تحقرَنِّي لصغر سني ..
قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا ، فوالله ما رأينا أنشط منه ، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً ...
………..
إذ رأيت قصراً يتلألأ أنواراً لبنة من ذهب ولبنة من فضة ، وإذا شُرفاته من الدرّ والياقوت والجوهر ، وأبوابه من ذهب ، وإذا ستور مرخية على شرفاته ، وإذا جوار يرفعن الستور ، وجوههن كالأقمار ..
…..
تقدم يرحمك الله فإذا في أعلى القصر غرفة من الذهب الأحمر عليها سرير من الزبرجد الأخضر ، قوائمه من الفضة البيضاء ، عليه جارية وجهها كأنه الشمس ، لولا أن الله ثبت علي بصري لذهب وذهب عقلي من حسن الغرفة وبهاء الجارية ..
فلما رأتني الجارية قالت : مرحباً بولي الله وحبيبه .. أنا لك وأنت لي
فلما اقتربت منها قالت : .. ..
.. .. ..
فجالت الأبطال ، ورميت النبال ، وجردت السيوف ، وتكسرت الجماجم ، وتطايرت الأيدي والأرجل ..
واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه ، وقال كل خليل كنت آمله ..
.. .. .. .. ..
فالتفت أبو قدامة إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام
وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه
فمزقت اللحمان ، وأدمت اللسان
وفرقت الأعضاء ، وكسرت العظام ..
وإذا هو يتيم ملقى في الصحراء
قال أبو قدامة : فأقبلت إليه ، وانطرحت بين يديه ، وصرخت : هاأنا أبو قدامة .. هاأنا أبو قدامة ..
فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك ، فاسمع وصيتي
قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمه ، وأخذت طرف ثوبي أمسح الدم عن وجهه
فقال : تمسح الدم عن وجهي بثوبك !! بل امسح الدم بثوبي لا بثوبك ، فثوبي أحق بالوسخ من ثوبك ..
قال أبو قدامة : فبكيت والله ولم أحر جواباً ..
فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة ، ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر ، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة ، ..
ثم قال : يا عم إني أخاف ألا تصدق أمي كلامك فخذ معك بعض ثيابي التي فيها الدم ، فإن أمي إذا رأتها صدقت أني مقتول ، وأن الموعد الجنة إن شاء الله ..
يا عم : إنك إذا أتيت إلى بيتنا ستجد أختاً لي صغيرة عمرها تسع سنوات .. ما دخلت المنزل إلا استبشرت وفرحت ، ولا خرجت إلا بكت وحزنت ، وقد فجعت بمقتل أبي عام أول وفجعت بمقتلي اليوم ، وإنها قالت لي عندما رأت علي ثياب السفر :
يا أخي لا تبطئ علينا وعجل الرجوع إلينا ، فإذا رأيتها فطيب صدرها بكلمات ..
ثم تحامل الغلام على نفسه وقال : يا عمّ صدقت الرؤيا ورب الكعبة ، والله إني لأرى المرضية الآن عند رأسي وأشم ريحها ..ثم انتفض وشهق شهقتين ، ثم مات ..
قال أبو قدامة : فلما دفناه لم يكن عندي هم أعظم من أن أرجعَ إلى الرقة وأبلغَ رسالته لأمه ..
.. .. .. .. .. .. ..
قدمت هذه المرأة الصالحة كل ذلك في سبيل أن تدخل الدار التي اشتد شوقها إليها ،
وقدم ولدُها نفسَه رخيصةً لله ، وتناسى لذاتِه وشبابه ، فليت شعري ماذا قدم للجنة المفرطون أمثالُنا ؟!
رحم الله فتى هـذب الدين شبابه
ومضى يزجي إلى العلياء في عزم ركابه
مخبتــاً لله صــير الزاد كتابه
وارداً من منهل الهادي ومن نبع الصحابة
إن طلبت الجود منه فهو دوماً كالسحابة
أو نشدت العزم فيه فهو ضرغام بغابة
جاذبته النفس للشر فلم يبد استجابة
متــقٍ لله تعلــو من يلاقيه المهابة
رقّ منه القلب لكن زاد في الدين صلابة
بلسـم للأرض يمحو عن محياها الكآبة
ثابت الخطو فلم تُطف الأعاصير شهابه
جــرّبته صولة الدهر فألفت ذا نجابة
إن يقم يوماً خطيباً يُسمعُ الصمَّ خطابَه
أو يسر في الدرب يوماً أبصر الأعمى جنابه
مسلم يكفيه فخراً أن للدين انتسابه
المشتاقون إلى الجنة ، ارتفع قدرها عندهم ، حتى لم يرضوا لها ثمناً إلا أرواحَهم التي بين جنوبهم ..
ولماذا لا يبذلون للجنة ذلك وأكثر
وهي الدار التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأقل أهلها نعيماً ، وأدناهم ملكاً فكان له في ذلك نبأ عجيب ..
ففي صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" آخر من يدخل الجنة : رجل فهو يمشي على الصراط مرة ، ويكبو مرة ، وتسفعه النار مرة ، فإذا جاوزها التفت إليها ، فقال : تبارك الذي نجاني منك ، لقد أعطاني الله شيئاً ما أعطاه أحداً من الأولين والآخرين .
فترتفع له شجرة فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة أستظل بظلها وأشرب من مائها
فيقول الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم لعلي إن أعطيتكها سألتني غيرها ؟
فيقول : لا يا رب ، ويعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره ، لأنه يرى مالا صبر له عليه ، فيدنيه منها فيستظل بظلها ، ويشرب من مائها .
ثم ترفع له شجرة هي أحسن من الأولى ، فيقول: يا رب أدنني من هذه لأشرب من مائها ، وأستظل بظلها لا أسألك غيرها
فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أنك لا تسألني غيرها ؟
فيقول : لعلي إن أدنيتك منها أن تسألني غيرها ، فيعاهده أن لا يسأله غيرها وربه يعذره لأنه يرى مالا صبر له عليه فيدنيه منها ، فيستظل بظلها ، ويشرب من مائها
ثم ترفع له شجرة عند باب الجنة هي أحسن من الأوليين
فيقول : أي رب أدنني من هذه الشجرة لأستظلَّ بظلها وأشربَ من مائها لا أسألك غيرها
فيقول : يا ابن آدم ألم تعاهدني أن لا تسألني غيرها ؟
قال : بلى يا رب ، هذه لا أسألك غيرها وربه يعذره لأنه يرى مالا صبر له عليه فيدنيه منها ، فإذا أدناه منها سمع أصوات أهل الجنة
فيقول: يا رب أدخلنيها
فيقال له : ادخل الجنة فيقول : رب كيف وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم
فيقول الله : يا ابن آدم ما يرضيك مني ؟!
أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا ؟
فيقول : رضيت رب
فيقول : لك ذلك ومثله ، ومثله ، ومثله ، ومثله
فيقول في الخامسة : رضيت رب
فيقول الله تعالى : لك ذلك وعشرة أمثاله ، ولك ما اشتهت نفسك ولذّت عينك
ثم يقول الله تعالى له : تمن ، فيتمنى ، ويذكره الله : سل كذا وكذا ، فإذا انقطعت به الأماني
ثم يدخل بيته ويدخل عليه زوجتاه من الحور العين، فيقولان : الحمد لله الذي أحياك لنا وأحيانا لك
فيقول: ما أعطى أحد مثل ما أعطيت .
قال ( يعني موسى عليه السلام ) : رب فأعلاهم منزلة ؟
قال : أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر ) فـ
سبحان من غرست يداه جنة الفردوس عند تكامل البنيان
ويداه أيضا أتقنت لبنائها فتبارك الرحمن أعظم بان
لما قضى رب العباد العرش قا * ل تكلمي فتكلمت ببيان
قد أفلح العبد الذي هو مؤمن * ماذا ادخرت له من الاحسان
فيها الذي والله لا عين رأت * كلا ولا سمعت به الأذنان
كلا ولا قلب به خطر المثا * ل له تعالى الله ذو السلطان
هي جنة طابت وطاب نعيمها * فنعيمها باق وليس بفان
دار السلام وجنة المأوى ومنزل عسكر الايمان والقرآن
أمشاطهم ذهب ورشحهم فمسك خالص ياذلة الحرمان *
هذا وسنهم ثلاث مع ثلا * ثين التي هي قوة الشبان
وبناؤها اللبنات من ذهب وأخـ ـرى فضة نوعان مختلفان *
وقصورها من لؤلؤ وزبرجد أو فضة أو خالص العقيان *
وكذاك من در وياقوت به * نظم البناء بغاية الاتقان
والطين مسك خالص أو زعفرا * ن جابذا أثران مقبولان
حصباؤها در وياقوت كذا ك لآليء نثرت كنثر جمان
وترابها من زعفران أو من المسك الذي ما استل من غزلان
أنهارها في غير أخدود جرت * سبحان ممسكها عن الفيضان
من تحتهم تجري كما شاؤوا مفجرة وما للنهر من نقصان
عسل مصفى ثم خمـــــــر ثم أنهار من الالبان
سبحان ذي الجبروت والملكوت وال * إجلال والاكرام والسبحان
والله أكبر عالم الاسرار والاعلان واللحظات بالاجفان *
والحمد لله السميع لسائر الأصوات من سر ومن اعلان *
وهو الموحد والمسبح والممجد والحميد ومنزل القرآن *
والأمر من قبل ومن بعد له * سبحانك اللهم ذا السلطان
المشتاقون إلى الجنة لهم مع ربهم أخبار وأسرار بل كانوا إذا حـصلوا الجنة لم يلتفتوا إلى غيرها أبداً
حارثة بن سراقة غلام من الأنصار .. له حادثة عجب ذكرها أصحاب السير وأصلها في صحيح البخاري
دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إلى بدر ..
فلما أقبلت جموع المسلمين كانت النساء ..
وكان من بين هؤلاء الحاضرين عجوز ثكلى ، كبدها حرى تنتظر مقدم ولدها ..
فلما دخل المسلمون المدينة بدأ الأطفال يتسابقون إلى آبائهم ، والنساء تسرع إلى أزواجها ، والعجائز يسرعن إلى أولادهن ، .. وأقبلت الجموع تتتابع ..
جاء الأول .. ثم الثاني .. والثالث والعاشر والمائة ..ولم يحضر حارثة بن سراقة ..
وأم حارثة تنظر وتنتظر تحت حرّ الشمس ، تترقب إقبال فلذة كبدها ، وثمرةِ فؤادها ،
كانت تعد في غيابه الأيام بل الساعات ، وتتلمس عنه الأخبار ، تصبح وتمسي وذكره على لسانها ..
تســــائل عنه كل غاد ورائح وتومــيء إلى أصحابه وتسلــم
فـللـه كـم مـن عـبرة مهراقة وأخـرى على آثارها لا تقــدم
وقــد شرقت عين العجوز بدمعها فتنظــر من بين الجموع وتكتم
وكانت إذا ما شدها الشوق والجوى وكاد
تذكـــر نفسـاً بالتلاقي وقربه وتوهمهــا لكنهـــا لا توهم
وكـــم يصبر المشتاق عمن يحبه وفي قلبـه نـار الأسى تتضــرم
ترقبت العجوز وترقبت فلم تر ولدها ..
فتحركت الأم الثكلى تجر خطاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودموعها .. ..
فنظر الرحيم الشفيق إليها فإذا هي عجوز قد هدها الهرم والكبر ، وأضناها التعب وقلّ الصبر ، وقد طال شوقها إلى ولدها ، تتمنى لو أنه بين يديها تضمه ضمة ، وتشمه شمة ولو كلفها ذلك حياتها ..
اضطربت القدمان ، وانعقد اللسان ، وجرت بالدموع العينان ..
كبر سنها ، واحدودب ظهرها ، ورق عظمها ، ويبس جلدها ، واحتبس صوتها في حلقها ..
وقد رفعت بصرها تنتظر ما يجيبها الذي لا ينطق عن الهوى ..
فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلها وانكسارها ، وفجيعتَها بولدها ، التفت إليها وقال :
ويحك يا أم حارثة أهبلت ؟! أوجنةٌ واحدة ؟! إنها جنان ، وإن حارثة قد أصاب الفردوس لأعلى ..
فلما سمعت العجوز الحرى هذا الجواب : جف دمعها ، وعاد صوابها ، وقالت : في الجنة ؟ قال : نعم .
فقالت : الله أكبر .. ثم رجعت الأم الجريحة إلى بيتها ..
رجعت تنتظر أن ينزل بها هادم اللذات ..ليجمعها مع ولدها في الجنة ..
لم تطلب غنيمة ولا مالاً ، ولم تلتمس شهرة ولا حالاً ، وإنما رضيت بالجنة ..
ما دام أنه في الجنة يأكل من ثمارها الطاهرة ، تحت أشجارها الوافرة ، مع قوم وجوههم ناضرة ، وعيونهم إلى ربهم ناظرة ، فهي راضية ، ولماذا لا يكون جزاؤهم كذلك ..
وهم طالما يبست بالصيام حناجرهم ، وغرقت بالدموع محاجرهم ..
طالما غضوا أبصارهم عن الحرام ، واشتغلوا بخدمة العزيز العلام ..
فهم في جنة ربهم يتنعمون ] على سرر موضونة * متكئين عليها متقابلين * يطوف عليهم ولدان مخلدون * بأكواب وأباريق وكأس من معين * لا يصدعون عنها ولا ينزِفون * وفاكهة مما يتخيرون * ولحم طير مما يشتهون * وحور عين * كأمثال اللؤلؤ المكنون * جزاء بما كانوا يعملون * لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما * إلا قيلا سلاما سلاما
وأينما سرت في ركب الصالحين لتجدن طلب الجنة يملأ قلوبهم ويشغل نفوسهم .. قد تعلقت بها أرواحهم حتى لم تقم لغيرها وزنا .. فهان عليهم كل شيء في سبيل الوصول إليها ..
أبو الدحداح ثابت بن الدحداح .. كان له نبأ عجب ..
روى البخاري ومسلم عن أنس y : أن غلاماً يتيماً من الأنصار كان له بستان ملاصق لبستان رجل منذ سنين ، فأراد الغلام أن يبني جداراً يفصل بستانه عن بستان صاحبه ..
نعم خرجت أم الدحداح وخرج أبو الدحداح وتركوا البستان والأشجار ، وفارقوا الظلال والثمار
نقلوا عيشَ دنياهم من الحدائق إلى المضائق ،
تركوا الشهوات ، واشتغلوا بالقربات ، عطشوا في دنياهم وجاعوا ، وذلوا لربهم وأطاعوا ، فارقوا في طلب رضاه كلَّ شيء وباعوا
فعل ذلك أبو الدحـداح حتى يكون هو وزوجته مع أولادهما في ظلال على الأرائك يتكئون ] "إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون * هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون * لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون * سلام قولا من رب رحيم [
ولا يزالون في مزيد فهو سبحانه البر الرؤوف الرحيم
] "إن المتقين في جنات ونعيم * فاكهين بما آتاهم ربهم ووقاهم ربهم عذاب الجحيم * كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون * متكئين على سرر مصفوفة وزوجناهم بحور عين * "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرئ بما كسب رهين * وأمددناهم بفاكهة ولحم مما يشتهون * يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم * ويطوف عليهم غلمان لهم كأنهم لؤلؤ مكنون * وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون * قالوا إنا كنا قبل في أهلنا مشفقين * فمن الله علينا ووقانا عذاب السموم * إنا كنا من قبل ندعوه إنه هو البر الرحيم