يرى الكثير من المحللين والمؤرخين أن التاريخ الإنسانى ما هو إلا تاريخ الحضارات، وينفون إمكانية فهم أو تفسير تطور البشرية دون الإقرار بهذه الفرضية. وتصدق هذه الفرضية من وجهة نظر أصحابها على أجيال متعاقبة من الحضارات منذ الحضارات الفرعونية والسومرية والصينية، ومروراً بحضارات بلاد الرافدين والحضارتين الإغريقية والرومانية ثم الحضارة الإسلامية والهندية وصولا إلى الحضارة الغربية الحديثة. ويرى أصحاب هذه الرؤية أنه عبر التاريخ مثلت الحضارات مرجعيات الهوية التى يعرف بها البشر أنفسهم، أى انهم رأوا فى الانتماء الحضارى مستوى يفوق الانتماء الوطنى أو القومى أو اللغوى أو العرقى أو غير ذلك. ونتيجة لذلك، فإن أسباب نشأة وصعود وإنجازات وتفاعلات الحضارات ثم انحدارها وسقوطها لم تكن محل دراسة المعنيين بها من تخصصات مختلفة تراوحت بين المؤرخين كما هو متوقع فحسب، ولكنها شملت أيضاً علماء اجتماع وآخرين متخصصين فى علم أصول الإنسان وعلوم الأجناس وفلاسفة ومنظرين سياسيين. وضمت هذه القائمة الكبيرة أسماء لها وزنها فى تاريخ البشرية وعلومها، مثل أوزوالد سبنجلر، أرنولد توينبى، ماكس فيبر، ايميل دوركايم، امانويل الدشتاين، فيليب فرنانديز، وغيرهم كثيرين، مما أوجد ثروة هائلة كما وكيفا من الأدبيات الرفيعة المستوى التى كرست لدراسة خصائص الحضارات وطبيعتها وإجراء المقارنات التحليلية فيما بينها. ولاشك أن هذه الأدبيات اتسمت بالتنوع والتعدد من جهة منهج المعالجة، ونطاق الاهتمام، ولغة الخطاب، والمفاهيم المستخدمة والتعريفات الميدانية لها وغير ذلك. وبالرغم من هذا الاختلاف، فلاشك أنه يتوافر قدر من الاتفاق العريض على بعض الأفكار المحورية التى تتصل بطبيعة الحضارات وهويتها والعوامل التى تحكم دينامية هذه الحضارات وعناصر الثبات والتغير بها.
وكان أول من استخدم تعبير حضارة هم المفكرون الفرنسيون فى القرن الثامن عشر، وذلك على سبيل المفارقة مع مفهوم آخر هو البربرية. وتعددت معايير التمييز بين المجتمعات التى تنتمى إلى كل من المفهومين: فالمجتمعات المتحضرة هى تلك التى تتصف بأنها حضرية مستقرة وتتكون من أغلبية من المتعلمين. وكانت المفارقة هى أنه ما هو متحضر هو حسن ومطلوب وجيد، وما هو غير ذلك فهو سئ ومرفوض ويجب إنجاز مهمة تحضيره CIVILIZING. وبالتالى اصبح معيار التحضر هو الذى يتم الرجوع إليه كمعيار ذاتى محمل بمجموعة من القيم للحكم على المجتمعات. وخلال القرن الميلادى التاسع عشر، كرست أوروبا الكثير من طاقتها الفكرية والسياسية والدبلوماسية للتوصل إلى اتفاق على المعايير التى يمكن على أساسها تعريف المجتمعات غير الأوروبية التى يمكن أن يعتبرها الغرب متحضرة بما يكفى لقبولها كأعضاء فى النظام الدولى الذى كانت أوروبا تصوغه بشكل تدريجى منذ اتفاقية وستفاليا وكان يخضع للهيمنة الأوروبية. إلا أن نفس القرن التاسع عشر شهد تحركا فى اتجاه مختلف، فقد بدأ البعض يتحدث عن حضارات وليس مجرد حضارة. فكان هذا يعنى إدراكاً متزايداً ووعياً متفتحاً لدى هذا البعض بضرورة التخلى عن فكرة أن حضارة واحدة هى المثال والنموذج الذى يجب أن يحتذى به الجميع، وتحرك هؤلاء بعيداً عن فرضية أن هناك نسقا واحدا من المعايير ونمط حياة مجموعة من البشر فى شكل مجتمع أو أكثر تفترض فى نفسها التميز الأفضل وتعتبر نفسها نخبة البشرية، وهو مفهوم لا يختلف كثيرا عن مفهوم شعب الله المختار فى التراث التوراتى فى العهد القديم. وعند التخلى عن هذه النظرية المتمركزة حول الذات ETHNO CENTRIC يتم قبول تعدد وتنوع الحضارات وكل منها تعرف وتطرح ما هو حضارى طبقا لطريقتها الخاصة ونظرتها للحياة والإنسان والمجتمع والطبيعة.
وبالرغم من التطور المشار إليه فى الفقرة السابقة، فقد بقى عبر الزمن وفى صفوف اتباع كل حضارة من استمر يعتقد بأن حضارته التى ينتمى إليها تمثل الحضارة العالمية التى يجب على كافة البشر فى كل زمان ومكان أن يتبعوها.
ويمنحنا التاريخ نموذجا لتعريف القدامى للحضارة وما تتضمنه من عناصر ثقافية أساسية وهو ما جاء على لسان أهل أثينا عندما تعهدوا لأهل إسبرطة بعدم الوشاية بهم أو خيانتهم لدى الفرس، بسبب عناصر مشتركة من صور الآلهة ومعابدهم وآثار الجهود السابقة المشتركة، وكذلك العرق اليونانى المشترك دماً ولغةً والتقاليد المشتركة وطريقة الحياة. وربما دفع هذا التعريف العريض البعض حتى زماننا هذا إلى القول بأن الدين هو أهم العناصر الموضوعية للحضارة، وكان دليلهم على ذلك أن أهم حضارات العالم ارتبطت بأديان بعينها وادعى هؤلاء أن أصحاب اللغة أو العرق المشترك حاربوا بعضهم البعض وهو ما لم يحدث فى حالة أصحاب الأديان المشتركة. وهنا بالطبع مغالطة واضحة تتجاهل رصيداً ضخماً ومتراكماً من الحروب بين أبناء الديانة الواحدة منذ الحروب بين المسيحيين القائلين بالطبيعة الواحدة للسيد المسيح وأولئك القائلين بطبيعته الثنائية فى مطلع التاريخ المسيحى والحروب فيما بين الإمبراطوريات والفرق الإسلامية المختلفة منذ الفتنة الكبرى فى عهد الخليفة الراشد الثالث عثمان بن عفان وصولا إلى الحرب بين الكاثوليك والبروتستانت فى ايرلندا الشمالية وبين العراق وإيران فى القرن العشرين. ومما يؤكد أن الحضارات لا ترتبط بالضرورة بالأديان هو أن الديانة البوذية مثلاً - وبخلاف الديانات الإسلامية والمسيحية والهندوكية والكونفوشية- لم تنجب حضارة خاصة بها، وإن ظلت تشكل أحد المكونات الرئيسية لعدد من الحضارات، خاصة الحضارتين الصينية والهندية، وأثرت فى ثقافات عدد غير قليل من الشعوب فى آسيا. ويصدق نفس الأمر على الديانة اليهودية التى لم تنجب أبداً حضارة خاصة بها - بالرغم من ادعاءات بعض مؤرخى اليهود بعكس ذلك- بل شارك أبناء الديانة اليهودية فى مراحل تاريخية مختلفة فى إثراء حضارات قائمة عاش اليهود فى كنفها مثل الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية وغيرهما. كذلك، وفى نفس السياق، فمن المهم إبراز أن كل ديانة قد انقسمت إلى مذاهب وفرق عقائدية متعددة، فالمسيحية انقسمت ما بين أرثوذكسية وكاثوليكية وبروتستانتية مع تفرع كل منها إلى فرق فرعية. والإسلام بدوره انقسم إلى سنة وشيعة وخوارج وفى مرحلة لاحقة تضاعفت التقسيمات، وانقسمت اليهودية إلى فرق عديدة، وكان لهذا الانقسام داخل كل ديانة دائماً دلالاته الثقافية من جهة التأثير على عادات وتقاليد وممارسات الشعوب. وينطبق نفس المنطق على حالات دخول نفس الدين إلى عدة دول أو إمبراطوريات، فهو بنفس القدر الذى يؤثر به على ثقافة شعب هذه الدولة أو الإمبراطورية يتأثر بما كان موجوداً قبله ويتفاعل معه. ونستطيع القول أن كل دين عند دخوله أى دولة تعرض لنوع من المواءمة والتكيف، ونذكر على سبيل المثال العديد من العادات التى مارسها المسلمون فى مصر بالرغم من انتمائها تاريخياً إلى المرحلتين الفرعونية أو القبطية السابقتين على الفتح الإسلامى لمصر، بل إنه فى سياق تطور الفقه الإسلامى نجد أن الإمام الشافعى طور مذهبه فى العراق، ثم عندما ارتحل إلى مصر واستقر بها راجع العديد من مقولات هذا المذهب وكانت له أفكار ثانية مما دفعه إلى تعديل بعض أطروحاته وكان تفسير ذلك اختلاف البيئة الثقافية والشعبية فى مصر عن مثيلتها فى العراق رغم تماثل الدين ووحدته وتقارب مصادره.

المصدر: د. وليد عبد الناصر - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN16.HTM
  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 667 مشاهدة

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

271,280