هل يمكن أن نجد منطقا ثابتا للصراع الدولى عبر التاريخ؟ بمعنى آخر: هل هناك طريقة واحدة لتفسير الصراع الدولى فى كل وقت وكل مكان؟ السؤال هنا ليس عن أسباب الصراع بين الدول . فهذا سنناقشه فيما بعد، ولكن السؤال عن تفسير ظاهرة الصراع بين الدول فى حد ذاتها .
إذا كان هناك مثل هذا المنطق الثابت فإن بإمكاننا التنبؤ بسلوك الدول وبنتيجة الصراعات مسبقا إذا قرأنا التاريخ بشكل جيد . وذلك لأن ما ينطبق على الحرب البيلوبونيزية (الحرب بين أثينا واسبرطة فى القرن الخامس قبل الميلاد) سينطبق على الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى فى القرن العشرين .
الحقيقة انه ليس لدينا هذا المنطق الثابت، وهى حقيقة يثبتها فشلنا فى التنبؤ بالكثير من الأحداث فى السياسة الدولية . وربما كان أحد الأسباب الأساسية وراء ظاهرة الصراع الدولى هو ضعف القدرة على التنبؤ، فلو كان لدى القادة ورجال السياسة كرات بلورية تخبرهم بالذى سيحدث فى المستقبل لتغيرت قراراتهم تجاه الكثير من الأحداث (على الأقل لن تدخل الدول حروبا خاسرة) .
وبالرغم من انه ليس لدينا هذا المنطق الثابت الذى يحكم ظاهرة الصراع الدولي، فإنه لدينا الكثير من المفاهيم الثابتة التى يستخدمها المحللون والمؤرخون فى تفسير الصراعات والحروب والتنبؤ بالصراعات المستقبلية .
هذه المفاهيم هى مفاهيم بالغة البساطة، بعضها بقى على حاله وبعضها يخضع لتغير مستمر. وهى تساعدنا فى فهم البيئة التى يدور فيها الصراع الدولى .. أنها تعطينا خلفية عن طبيعة السياسة الدولية التى تؤدى إلى اندلاع الصراعات بين الدول .

أولا: الفــوضــويـــة:
ماذا نعنى عندما نقول إن النظام الدولى هو نظام فوضوي؟ هل معنى ذلك أنه ليس هناك أى نظام يحكم السياسة الدولية، وأنها تعانى من حالة من الفوضى الشاملة؟
بالتأكيد لا، لأننا نعرف أن هناك مجموعة من القواعد والأعراف التى تحكم العلاقات بين الدول، وهى القواعد التى تم التعارف على تسميتها بالقانون الدولي. ولكننا نعرف أيضا أن القانون الدولى لا يتم تطبيقه فى كل الأحوال . وعلى سبيل المثال فالقرار 242 الصادر عن مجلس الأمن فى عام1967 يقضى بانسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلتها فى حرب الأيام الستة، ولكنها لم تفعل ذلك حتى الآن .
ما الذى يحول دون تطبيق القانون الدولي؟ . . السبب بسيط ، وهو انه ليست هناك سلطة عليا تفرض تطبيق هذا القانون، وهذا ما نعنيه بالضبط عندما نقول أن السياسة الدولية تعانى من الفوضوية. فليست هناك فى العالم سلطة اعلى من سلطة الدولة . ويخطئ كثيرا من يظن أن الأمم المتحدة حكومة عالمية فسيادة الدول الأعضاء تحميها مواثيق دولية، والمواد من 2ـ7 من ميثاق الأمم المتحدة تنص على أنه لا يوجد فى ميثاق الأمم المتحدة ما يخول لها التدخل فى شئون الدول الداخلية .
وبنفس المنطق لا يصح أن نعتبر محكمة العدل الدولية سلطة قضائية عليا، فالمحكمة تتكون من 15 قاضيا يتم انتخابهم عن طريق الأمم المتحدة لمدة تسع سنوات، ولكنها ليست محكمة دولية عليا. فمن حق الدولة إن ترفض سلطتها القضائية، وقد ترفض دولة أن تقبل حكمها حتى إذا قبلت سلطتها القضائية .
إن الأمم المتحدة ليس لديها جيش يستطيع التدخل لفرض إرادتها، وكذلك فإن محكمة العدل الدولية ليس عندها جهاز شرطة يقوم على تنفيذ قراراتها .
وفى النظام الداخلى لكل دولة، تحتكر الحكومة سلطة استخدام القوة، ولكن على النطاق الدولى ليست هناك هيئة تحتكر استخدام القوة، حيث لم توجد بعد حكومة عالمية . وإذا كنا نشعر بالأمان على أنفسنا وممتلكاتنا، فذلك راجع إلى شعورنا بأن هناك قانونا، وهناك سلطة لفرض هذا القانون بالقوة إذا لزم الأمر. ولكن الدول لا تستطيع إن تشعر بمثل هذا الأمان، فالسياسة الدولية هى مجال الاعتماد على الذات، حيث تتعلم كل دولة إن تحاول الحفاظ على أمنها بمفردها فى عالم لا تحكمه سلطة عليا، أو قانون يتم تطبيقه بالإجبار .
ولهذا فان الفيلسوف الإنجليزى الشهير توماس هوبز كان يرى أن العلاقات بين الدول ينطبق عليها ما اسماه حالة الطبيعة وتعنى حالة حرب الجميع ضد الجميع . وهو لم يكن يعنى بهذا أن الدول تعيش حالة حرب دائمة ضد بعضها البعض، ولكن كان يشير إلى انه هناك دائما توقع بأن تنشأ حرب... تماما مثلما أن الجو العاصف لا يعنى سقوط المطر باستمرار، فإن حالة الحرب لا تعنى حربا دائمة .
ما الذى تفرضه هذه الحالة الفوضوية على الدول ؟ .. هذه الحالة تجعل الدول تواجه ما يسمى بـ معضلة الأمن ، حيث تحاول الدولة أن تحافظ على أمنها بمفردها، فتقوم باتخاذ بعض الإجراءات التى من شانها الحفاظ على هذا الأمن مثل الاهتمام بتقوية قدراتها العسكرية والاحتفاظ بجيش قوي. فى حين ترى الدول الأخرى أن هذه الإجراءات التى تقوم بها الدولة للحفاظ على أمنها قد يكون غرضها عدائيا وليس لمجرد الدفاع. وفى عالم فوضوى ليس هناك مجال للتأكد من النوايا الحقيقية للدولة .
ولنتخيل مثلا أن دولة من الدويلات اليونانية القديمة تحاول الحفاظ على أمنها فتقوم ببناء سور يحميها. فى هذه الحالة فإن الدول الأخرى سوف تعتقد أن هذه الدولة تقوم بذلك لكى تحصن نفسها فى مواجهة الآخرين تمهيدا للهجوم عليهم، مما قد يدفعهم للقيام بعمل عدائى يعطل بناء هذا السور، وهكذا ينشا الصراع ـ دون أن يقصد أى طرف ـ بسبب معضلة الأمن .
وهذه المعضلة لا يمكن أن تنتهى طالما أن نظام الدول ظل فوضويا لا تحكمه سلطة عليا . وعلى سبيل المثال فقد تبنت إدارة الرئيس كلينتون، ومن بعده إدارة الرئيس بوش الابن، مشروعا سمى بمشروع الدفاع الصاروخى يهدف ـ دون الدخول فى تعقيدات تكنولوجية ـ إلى بناء غطاء واق يحمى الولايات المتحدة من هجمات على أراضيها بالسلاح النووى الذى تحمله صواريخ باليستية عابرة للقارات عن طريق نظام يتتبع هذه الصواريخ ويقوم باصطيادها عند إطلاقها . وقد عارض الكثيرون ـ بمن فيهم حلفاء لأمريكا فى أوروبا ـ هذا المشروع على الرغم من أنه يعتبر فى نظر الولايات المتحدة الأمريكية إجراءً دفاعياً بحتاً .
وعلى حد قول أحد الخبراء الاستراتيجيين الأمريكيين: ما الذى يضيرهم فى حماية سكان أمريكا من هجوم على أراضيها بالسلاح النووي؟ .. هل يشعرون بأمن اكثر عندما يكون سكان الولايات المتحدة معرضين للخطر؟ .
إن هذا المثال يعبر عن معضلة الأمن بوضوح: الدول الأخرى ترى إن تمتع الولايات المتحدة بهذه الميزة الدفاعية الهامة يعطيها فرصة لأن تكون فى موقف أكثر أمنا فى مواجهتهم، وبالتالى تصبح اكثر تهديدا لهم لأنها تستطيع استهداف أراضيهم بالسلاح النووى فى حين لا يستطيعون هم فعل الشيء نفسه .

ثانيا: الواقعية وسياسات القوة:
فى عالم تسوده الفوضوية، وتعانى الدول فيه من معضلة الأمن، لا يكون أمام الدولة إلا تنمية قدراتها الذاتية كى تتمكن من الدفاع عن نفسها فى مواجهة الدول الأخرى . فهى تبدأ فى التفكير فى اتباع استراتيجية معينة للحفاظ على أمنها قد تنطوى على بناء قدرات عسكرية كبيرة، ووضع خطط طويلة المدي . وقد يكون من ضمن هذه الخطط الدخول فى حلف مع دول أخرى لزيادة قوتها .
التفكير بهذه الطريقة التى تعطى أهمية كبيرة للأمن وللقوة، يسمى تفكيرا واقعيا. أى أنك ترى العالم كما هو لا كما ينبغى أن يكون .
وعندما تفكر بطريقة واقعية فلا مجال للأخلاق أو العواطف، فالمهم هو الأمن وحسابات القوة وتوازناتها . وربما كان هذا ما دعا ستالين إلى رفض رأى البابا ذات مرة قائلا: كم لدى البابا من دبابات؟ فلا شيء يهم هنا سوى القوة .
ولكن ما هى القوة؟ أنها القدرة على إجبار طرف آخر على أن يفعل ما لم يكن ليفعله فى غياب هذه القوة .
ولكن هذا مفهوم مجرد، والأسهل أن نعرف القوة من خلال الإمكانيات: فهناك مؤشرات معينة يمكن من خلالها أن نقيس قدرة الدولة وقوتها، من هذه المؤشرات مثلا الناتج القومى الإجمالي وهو مقدار ما تنتجه الدولة من سلع وخدمات فى فترة عام واحد. وهو مقياس جيد لقوة الدولة فى المجال الاقتصادي، لأنه يعبر أيضا عن حجم الدولة من ناحية السكان ومستوى المعيشة، والمستوى التكنولوجي . وإذا كان لدى الدولة اقتصاد مزدهر فإنها تستطيع بناء قدرات عسكرية متطورة، حيث يمكن ترجمة الموارد الاقتصادية إلى قوة عسكرية.
وعلى سبيل المثال، فبعد أن هاجمت اليابان الولايات المتحدة فى بيرل هاربر فى عام 1941، كان لديها قوة عسكرية مهيمنة مكنتها من السيطرة على أقاليم فى جنوب شرق آسيا، ومن طرد الولايات المتحدة من المنطقة . وعندما غادر الجنرال الأمريكى دوجلاس ماك آرسثر الفلبين تحت وطأة الهجوم اليابانى قال: سوف أعود .. وبالفعل عاد ثانية بعد هزيمة اليابان فى الحرب العالمية الثانية، ليصبح ممثل السلطة العليا فى اليابان تحت الاحتلال الأمريكي، فكيف حدث هذا؟

المصدر: جمال رشدي - موسوعة الشباب السياسية http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN12.HTM
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 162 مشاهدة
نشرت فى 13 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

271,440