رابعاً: المســــاومـــــة :
المساومة تعد من المفاهيم الأساسية فى عالم الصراع الدولي، فالدول تسخر كل الطاقات والإمكانيات التى تحدثنا عنها سابقا لكى تحقق مصلحتها الوطنية التى تتعلق اساسا بزيادة قوتها .
والمساومة قد تأخذ شكلا رسميا فتصبح مفاوضة، وفى المفاوضات تستخدم الدولة نفوذها وقدراتها من اجل الوصول إلى النتائج المرجوة .
ولكن المساومة تدور أيضا فى ساحات المعارك ! .. نعم فالمعارك الحربية ـ التى هى اكثر الصور تطرفا لظاهرة الصراع الدولى ـ يمكن اعتبارها مساومة حول قيمة يختلف عليها الطرفان. وفون كلاوزوفيتس ـ الكاتب الاستراتيجى الألمانى الذى عاش فى النصف الأول من القرن التاسع عشر والذى يعتبر كتابه عن الحرب مرجعا لا غنى عنه لرجال الدولة والعسكريين فى كل العصور ـ كتب ذات مرة إن الحرب هى امتداد للسياسة بوسائل أخرى . ومعنى ذلك إن الدولة تسعى إلى المساومة لتحقيق مصالحها وزيادة نفوذها على طاولة المفاوضات وفى ميادين المعارك .
وعالم الصراع الدولى مليء بالمساومات من كل نوع وحول كل شيء، ويمكن اعتبار كل صراع دولى ـ سواء اخذ صورة الحرب او لا ـ نوعا من انواع المساومة .
ولكى تحقق الدولة النتائج المرجوة من عملية المساومة فإنها تقوم بعمل خطط طويلة المدى لحشد إمكانياتها ومصادر قوتها لتحقيق الأهداف . وهذا ما يسمونه بـ الاستراتيجية .
وعندما يسعى رجال الدولة إلى التفكير فى الاستراتيجيات طويلة المدى فإنهم يواجهون الكثير من الصعوبات والعقبات، فأنت تصمم استراتيجيتك بناء على ما تراه الآن فى حين أن عالم الصراع الدولى مليء بالمفاجآت غير المتوقعة .
ومن العقد التقليدية التى تواجهها الدول فى هذا المجال الاختيار بين القدرات التى يتم تنميتها فى وقت معين. مثلا : ما حجم القوات العسكرية التى يجب الاحتفاظ بها فى وقت السلم؟ . . الاحتفاظ بقوة عسكرية كبيرة قد يحقق الأمن للدولة، ولكنه ـ من ناحية أخرى ـ يثقل كاهل الاقتصاد القومى مما قد يعرض الدولة لمشكلات اكبر. وهذه مشكلة واجهها الاتحاد السوفيتى فى وقت الحرب الباردة .
إن الدول تحاول أن تصل إلى استراتيجية تناسب حجم قدراتها، وتناسب أيضا الموقف الذى تستخدم فيه . وغالبا ما تتضمن الاستراتيجيات مجموعة من الخيارات .. وهى سلسلة من الأفعال التى يتم التخطيط لها بدقة لكى تأتى بأكبر تأثير، كأن تستخدم الدولة الخداع للتأثير على مفاهيم الآخرين فى مواقف معينة، وأن تلجأ إلى تشكيل الأحلاف، أو استخدام خطة بديلة لسرعة الاستجابة للظروف الطارئة .
وإذا دارت المساومات على طاولة المفاوضات فهناك استراتيجيات معروفة، منها مثلا البدء بسقف طلبات مرتفع. تماما عندما تساوم البائع فى السوق المصرى على شراء سلعة معينة فتبدأ بأدنى سعر ممكن .. وتستمر عملية المساومة (الفصال بالعامية المصرية) إلى إن يتم التوصل إلى سعر وسط يكون اقرب ما يكـــون إلى السعر الذى حددته أنت فى ذهنك منذ البدايـــة ! ..
وهناك استراتيجية الالتزام بموقف محدد والإعلان أن هذا موقف نهائي، على أمل أن يتجاوب الطرف الآخر فى النهاية. والسياسيون السوريون يتبنون هذه الاستراتيجية بخصوص منطقة الجولان التى احتلتها إسرائيل فى حرب 1967.
وهناك استراتيجية تجزئة المشكلة إلى مواضيع منفصلة، على أساس أن حل المشاكل الصغيرة واحدة تلو أخرى يسهل التوصل إلى حل نهائى للمشكلة الكبرى. وهذه الاستراتيجية تشكل الأساس الذى تقوم عليه عملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل منذ توقيع اتفاقية أوسلو 1993. فقد تم تجزئة القضية إلى عدة مواضيع منفصلة : طبيعة الدولة الفلسطينية .. الحدود..اللاجئون..المياه..القدس...الخ .
وكما أن هناك استراتيجيات معروفة للمساومة على طاولة المفاوضات فهناك استراتيجيات معروفة للمساومة فى مجال الصراع الدولى بشكل عام .
الرد بالمثل يعتبر من أهم هذه الاستراتيجيات المعروفة، فهو استراتيجية سهلة الفهم وتأتى بنتائج باهرة .
ولكى نفهم استراتيجية الرد بالمثل لابد أن نعرف ان الدول تحاول عندما تصمم استراتيجيتها أن تضع فى اعتبارها استراتيجيات الأطراف الأخرى . وفى هذه الحالة فإن الدولة لابد أن تعرف نوايا هذه الأطراف. وهذا أمر صعب فى حالة الدولة، فحتى التصريحات والخطب الرسمية قد تنطوى على خداع وتضليل .
وعلماء السياسة يروون مثالا طريفا يجسد هذا الموقف : لنتخيل أن الشرطة ألقت القبض على اثنين من المجرمين بتهمة حيازة كمية ضئيلة من المخدرات، وهى تعلم تماما انهم يعملون فى تجارة المخدرات ولكنها لا تستطيع إثبات ذلك ألا إذا اعترفا على نفسيهما.
فى هذه الحالة تقوم الشرطة باستجواب كل واحد منهم على حدة، وتقول لكل واحد انه إذا اعترف على زميله فسيخرج من القضية لتعاونه ويعتبر شاهدا ملكا . فى حين إذا اعترف عليه زميله ولم يعترف هو فسينال عقوبة 25 عاما. أما إذا اعترف كل منهما على الآخر فسينالا عشر سنوات لكل منهما .
ويفكر كل واحد من السجينين بالطريقة التالية : من الأفضل ألا اعترف، لأننا إذا تمسكنا بالصمت، فسننال عقوبة قصيرة لن تتعدى سنة لحيازتنا هذه الكمية الضئيلة من المخدرات. ولكن ماذا إذا سكت أنا واعترف هو على ؟ .. سأنال انا عقوبة 25 عاما بينما يخرج هو من القضية. ما الذى يضمن لى ألا يفكر هو بنفس الطريقة ويعترف على؟. وتكون النتيجة الطبيعية لهذا النمط من التفكير هى أن يعترف السجينان على بعضهما البعض، لأن كل واحد منهما يحاول أن يحقق مصلحته الذاتية ويشك كثيرا فى نوايا الطرف الآخر .
الدول تجد نفسها فى نفس هذا الموقف المعقد، فهى تشك فى نوايا الدول الأخرى، وتسعى إلى تحقيق مصلحتها الذاتية على حساب هذه الدول . فكيف يمكن حل هذه المعضلة؟
المصدر: جمال رشدي - موسوعة الشباب السياسية
http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/Y1UN12.HTM
نشرت فى 13 أكتوبر 2011
بواسطة mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
286,885
ساحة النقاش