إن الانطباع المباشر الذى يثيره مفهوم استخدام القوة هو أن ثمة استخداما فعليا عنيفا لها ، وأن الأمر يتعلق غالبا بالقوة العسكرية ، وأن السياق الذى يتم فيه ذلك صراعى . لكن المقصود باستخدام القوة هو ـ فى الواقع ـ أساليب التأثير ، أى الكيفية التى تستخدم بها الدول عناصر قوتها القومية فى التأثير على سلوك الآخرين ، والتى تتضمن أحيانا استخدام العنف المسلح أيضا ، إلا أن المشكلة هى أنه على الرغم من أن ما يقترب من 90 فى المائة من إجمالى التفاعلات اليومية بين دول العالم تقوم على الإيحاء أو الامتناع البسيط ، فإن مثل هذه التعاملات المعتادة قلما تصنع المانشيتات العريضة فى الصحف ، أو تتصدر نشرات الأخبار ، كما يحدث عند ما تستخدم الأساليب العنيفة ، وهو ما أدى إلى سيطرة تصور ، أو افتراض ، بأن علاقات الدول قائمة فى الأساس على التهديدات ، أو تنفيذها ، فقيام رئيس دولة ما بإجراء اتصال تليفونى مع رئيس دولة أخرى لا يلفت الانتباه مثلما يحدث فى حالة إعلانه قطع العلاقات الدبلوماسية معها ، رغم أن العمليتين يتضمنان مستويات متفاوتة من استخدام القوة ، بمعنى التعثير .
إن كل تفاعل يحدث بين الدول ، سواء كان يتعلق بمسألة فنية بسيطة ، كالاتفاق على موعد زيارة رسمية ، أو مشكلة كبيرة يوجد خلاف حولها كنزاع حدودى، يشهد استخدام أساليب (أو تكتيكات) مختلفة فى محاولة للتأثير على الطرف الآخر، إلا أن الأساليب المستخدمة تختلف تبعا لنمط العلاقة القائم بين الدولتين ، فالحلفاء مثلا ، على غرار الولايات المتحدة وبريطانيا ، نادرا ما يهدد أحدهما الآخر ، حتى لو كان هناك خلاف بدرجة ما بينهما ، إذ يتم الإعتماد غالبا على الإقناع أو التعويض ، أما بين الدول التى توجد بينها عداءات ، وتسود علاقاتها الشكوك ، كالولايات المتحدة والعراق ، فإنها من المحتمل أن تلجأ أكثر إلى أساليب التهديد وفرض العقوبات ، إلا أن ما يشار إليه هنا يمثل أيضاً أنماطا مثالية للقياس عليها ، فلا توجد تحالفات أخوية لا تسمح بحدوث خلافات ، وبالتالى مستوى من الضغط ، أو عداءات قبلية لا تسمح بحدوث تفاهمات ، وبالتالى مستوى من الاتصال ، فالمقصود هنا هو الطابع العام المسيطر على العلاقات .
فى هذا الإطار ، يرتبط استخدام القوة بمفهوم شهير هو الإستراتيجية Strategy ، فقد تمت الإشارة فى البداية إلى أن القوة (غالبا) وسيلة وليست غاية ، فالدول تسعى إلى اكتساب القدرة على التأثير من أجل الحفاظ على مصالحها العليا ، وذلك من خلال استخدام عناصر قوتها كأدوات لتحقيق الأهداف القومية المرتبطة بهذه المصالح ، كما تحددها قيادات الدول ، فى مرحلة معينة ، ويتم ذلك فى إطار استراتيجية تتحدد من خلالها كيفية (شكل أو نمط أو أسلوب) استخدام هذه الأدوات بغرض تحقيق تلك الأهداف المعروفة عادة . وتميز الدراسات الحديثة بين أكثر من مستوى للإستراتيجية، التى تعد المدخل الأساسى لاستخدام القوة ، أهمها مستويان :
الأول : الإستراتيجية القومية National Strategy ، وتختلف تسمياتها من دولة لأخرى أو من تيار فكرى لآخر ، فتسمى الإستراتيجية الشاملة Total أو العامة General أو العليا (الكبرى) Grand . إلا أنها تشير إلى نفس المضمون ، وهو الكيفية التى تستخدم بها الدولة كل أدوات قوتها السياسية والعسكرية والإقتصادية (الخ) ، لتوفير الدعم الأقصى لأهدافها (وسياساتها) القومية سواء فى أحوال السلم أو الحرب.
الثانى : الإستراتيجيات الفرعية ، وهى تعبر عن مستوى أضيق نطاقا يلى المستوى السابق ، ويختص بالكيفية التى يتم بها استخدام أداة معينة فى مجال من المجالات ، كالإستراتيجية العسكرية ، أو الإستراتيجية الإقتصادية ، فى إطار دورها المحدد فى الإستراتيجية العليا ، المتصلة بالأهداف القومية إستنادا على خطط أو تكتيكات أو أساليب ذات طابع فنى معروفة فى كل مجال، وتتسم بتعقيدات شديدة .
إن أهمية مفهوم الإستراتيجية فى تحليل استخدامات القوة هو أنه يحدد الإطار العام الذى تستخدم فيه أدوات القوة، فقرارات استخدام القوة العسكرية أو الأدوات الإقتصادية أو العمل الدبلوماسى كلها قرارات سياسية ، وتتركز مهام المسئولين عن كل أداة فى تحديد الكيفية التى يتم بها استخدام الأدوات لتحقيق المهام ، خاصة فيما يتعلق بالقرارات الكبرى ، فوزراء الدفاع ليسوا هم الذين يقررون شن الحروب أو وقف إطلاق النار ، ووزراء الخارجية ليسوا هم الذين يقررون إقامة علاقات دبلوماسية مع دولة معينة ، أو سحب السفراء منها ، لذا يقال أن الحرب أكبر من أن تترك للجنرالات . وإن كانوا يؤثرون بالطبع على عملية صنع هذه القرارات .
ساحة النقاش