يصور الأدب والفن بصورة بديعة هذا الجانب - الخفى عن الرأى العام- من المغامرة الإنسانية، أى مغامرة المعرفة والإبداع التكنولوجى ، والتى يخوضها العلماء والمبتكرون أنفسهم. ففى فيلم مؤثر للغاية بعنوان 451 فهرنهيت (وهى درجة الحرارة اللازمة لاحتراق الورق) نجد أرضاً افتراضية يهرب إليها أفراد بعيداً عن الرقابة اللصيقة والملاحقة اللعينة التى يقوم بها نظام بوليسى مستبد يستهدف إحراق جميع الكتب، خوفاً مما تشتمل عليه من معارف وما تؤدى إليه من قلق معرفى ومن ثم فجوة تصديق يعانى منها الخطاب المستبد لهذا النظام. وكل فرد يهرب من هذه الرقابة عن طريق حفظ كتاب كامل، ويسمى نفسه بإسم هذا الكتاب.. فيكون هناك شخص إسمه الانجيل لأنه يحفظ الانجيل وآخر اسمه كتاب الموتى لأنه يحفظ هذا الكتاب الاسطورى، وآخر إسمه علم المنطق لهيجل لأنه يحفظه، وهكذا. ويصور هذا الفيلم النضال الشاق من أجل المحافظة على ذخيرة المعرفة الإنسانية ونقلها الى الأجيال المقبلة.
ونجد معنى مماثلا فى رائعة امبرتكو ايكو إسم الوردة ، حيث يدور صراع ضارٍ حول الكشف عن كتاب لأرسطو كان مجهولاً لمجتمع العصور الوسطى المتقدمة فى أوربا. أما رائعة أمين معلوف والتى تروى لنا حياة عمر الخيام فتصور مرحلة دقيقة من التاريخ الحضارى الإسلامى عندما كان يدور الصراع حول العلم والعلماء بين تيار ضئيل يعرف قدرهم وتيار آخر يؤلب العامة ضدهم ويلاحقهم بالقتل، بإسم الدين.
غير أن المسألة تتخطى كل ذلك، لأن جذورها الحقيقية تكمن فى الإلحاح المعرفى الذى يملأ جوانح العالم الأصيل والمفكر المبدع. فالكون والعالم وما بعدهما من قضايا الوجود والعدم والمعرفة والتقدم يحفل بمسائل وأسئلة لم يتم حلها بعد ، أو تم حلها بصورة غير كافية. ويصدق الأمر أيضاً على ملكوت التكنولوجيا. فالعالم والمبتكر والباحث يواجه أسئلة لا حدود لها، غالباً ما تطرح نفسها عليه بأشكال ملموسة، ولا يستطيع هؤلاء الفكاك من التجريب حولها وصولاً الى إجابات أو تحسينات تحقق الإمتياز فى اشباع الأغراض الإنسانية أو تتجاوزها إلى حاجات وأغراض جديدة.
إنك دون شك تشعر بتلك الرغبة الحارقة فى إيجاد إجابة سليمة على أسئلة كثيرة مما تطرحه عليك الحياة. ومن الصعب عليك أن تتخذ قراراً سليماً بدون الاستعانة بخبرات ماضية، وحصيلة المعارف التى تكونت عندك، ونوع التعلم الذى حصلته والذى يرشدك بخصوص توقعات النتائج الخاصة بكل اختيار على ضوء ردود فعل المجتمع ، ونوع القيم التى تؤمن بها، وقبل كل شئ أهدافك أنت. وهكذا يفعل العلماء والمبتكرون، إنهم يحرقون أنفسهم بالرغبة فى إيجاد إجابات على أسئلة مطروحة عليهم أو مبتكرة بالنسبة للكثيرين منهم. وهم يفكرون فى تلك الإجابات إنطلاقاً من خبراتهم وحصيلة معارفهم ومداخلهم المميزة فى الإجابة ونوع القيم التى ترشدهم فى الطريق الذى إختاروه. وأحياناً لا يكفى ذلك كله لإيجاد إجابة أفضل، فيضطرون للثورة على المعارف الموجودة أو على الأقل المداخل والمناهج التى أطلقت إجابات قديمة أو قائمة بحثاً عن إجابات أكثر إقناعاً.
إنهم يفكرون من داخل منطق العلم وآلياته المعروفة. وعندما يثورون على الإجابات القائمة فإنهم يدخلون مناهج ومداخل وأدوات عمل جديدة تساعدهم فى رؤية الأسئلة والمعضلات بشكل أفضل، من أجل الحصول على إجابات أقرب الى الحقيقة التى يلهثون وراءها أو الاشباع الذى يبحثون له عن وسائل وطرق جديدة .
فى ذلك كله ، يجب أن يتمتع العلماء والمبتكرون والباحثون بالحرية فى صياغة أسئلتهم ومهمتهم، وأدائها على الوجه الذى يستقيم مع عقولهم ومع معطيات المعرفة وآلياتها العلمية، ومن ثم فى تحديد جدول أعمالهم، والطريقة التى يشخصون بها المشكلات والمعضلات، والمداخل والمناهج التى يقتربون عبرها من التعامل مع تلك المشكلات والمعضلات ، وخاصة عن طريق التجريب والاستنباط ، دونما استبعاد للبنيات المنطقية والنظرية سواء للوصول الى معارف جديدة أو الى منتجات جديدة أو أفضل. هذه الحرية هى التى ميزت أجيالاً من العلماء والمبتكرين الأوربيين خلال القرون الثلاثة الماضية.
ولكن هذه الحرية ليست أمراً يسيراً أو معطى سهلاً فى أى مجتمع أو فى أية حقبة. والدور الذى يلعبه العلماء والمبتكرون والباحثون باعتبارهم كذلك - أى إنطلاقاً من الأسئلة الملحة فى عقولهم هم ومن خلال المناهج والطرائق التى تتوافق مع عقولهم وقناعاتهم - لم يكن حراً دائماً ، بل لم يكن يحظى بالتقدير فى كثير من الأحوال، وكثيراً ما كان أسيراً لكثير من القيود المجتمعية. بل إن مكانتهم ذاتها لم تكن بعيدة عن التساؤل.
وتختلف المجتمعات تبعاً لما إذا كانت تعترف باستقلالية العلماء وتمكنهم من المساهمة بدور - كبير أو صغير - فى صياغة جدول أعمال الممارسة العلمية والتكنولوجية ذاتها، ناهيك عن قضايا السياسة العامة الكلية والقضايا الاجتماعية الأوسع، أم تخضعهم لسيطرة قوى أخرى غيرهم. بل إن ذات المجتمع قد يراوح بين سياسات وتوجهات مختلفة قد تحاصر العلماء وتضمن خضوعهم لأولويات وطرائق عمل مفروضة عليهم، وسياسات أخرى قد تقوم بالعكس، إذ تشجعهم على الابداع والابتكار وتطلب منهم القيام بدور أكبر مع احترام خصوصية مناهج العلم والبحث التكنولوجى وتميزه عن غيره من الأنشطة الاجتماعية.
لقد شغلت هذه القضية ولازالت تشغل أذهان المؤرخين والباحثين فى أسباب تراجع الحضارة العربية الإسلامية وعطائها العلمى والتكنولوجى. وثمة بالطبع أحداث مأساوية فى التاريخ قد تفسر الانكماش والتراجع العلمى والثقافى بصورة عامة مثل سلسلة الغزوات المدمرة التى تعرضت لها منطقة القلب مثل غزوات بنى هلال لتونس وشمال افريقيا والصليبيين فى فلسطين ولبنان، وبالطبع الغزوات الأكثر تدميراً بما لا يقاس للمشرق العربى من جانب المغول والتتار خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر التى تركت دماراً لا يمكن تصوره لكافة أبنية الحياة والحضارة.
ولكن أحد المفاتيح الهامة فى الإجابة على سؤال التراجع العلمى والحضارى قد يكون الظروف السياسية التى وجد فيها العلماء والمبدعون والفنيون أنفسهم. ففى أحيان كثيرة، كان الخلفاء والأمراء والسلاطين يعترفون بهم ويقربونهم ويشجعونهم. ولكن فى أحيان أخرى أكثر امتداداً من الناحية الزمنية، وجد هؤلاء أنفسهم يعانون من العزلة والفقر والقهر السياسى والمجتمعى. لقد أكد البعض أن المجتمع لم يكن بحاجة للعلم والعلماء طالما أن الدين قد ملأ قلوب وعقول الناس بقناعة تستغنى عن المعارف الدنيوية وتؤكد كفاية المعرفة الدينية والسلوك النمطى القويم والذى تحرسه المؤسسات الدينية . ولكن هذه المقولة لا تكفى بالمرة لتفسير الجمود العلمى والتكنولوجى.
وإنما تمثلت المشكلة فى أن طراز بناء المجتمع العربى - الإسلامى لم يشتمل على اعتبارات وقيم وقواعد ومؤسسات تكرس الاحترام للعلماء والمبتكرين وتحميهم من أهواء السلاطين وتقلبات العامة والتحريض الناشئ عن الخصومات سواء كانت عقيدية أو مدرسية أو حتى شخصية. وباختصار ، لم تقم مؤسسات تحمى وتصون حرية العلماء والمبتكرين فى إطار الحضارة العربية - الإسلامية ، وخاصة عندما هيمن الجمود عليها بشكل شبه تام وأغلق عليها باب الاجتهاد. وصار التقليد هو غاية إيمانية بذاتها.
وعلى العكس من ذلك، فبعد معارك قصيرة فى نهاية العصور الوسطى أو بداية عصر النهضة فى بعض أقطار أوربا الغربية، وخاصة ايطاليا، ثم إنجلترا ، تعزز المبدأ القائل بالحاجة الى إضفاء الحماية على العلماء والمبتكرين. وتمتع هؤلاء على نحو متزايد بمجال واسع للحرية. وأخذ الناس ينظرون باحترام واهتمام متزايدين لهذه الفئة الجديدة من الناس، ويقدرون الإبداع والابتكار. وفى المقابل فاض عطاء العلماء والمخترعين والمبتكرين عن توقعات الناس. وشارك فى تشكيل هذا المناخ طائفة من الاعتبارات ، مثل الفصل بين السلطة الدينية والكنيسة والسلطة الزمنية ، وبروز الدولة القومية المبكر وخاصة فى غرب أوربا ، وانتصار نموذج العلم الاستقرائى القائم على التجربة داخل مجتمع العلماء أنفسهم، ثم لجوء هؤلاء لتنظيم أنفسهم بصورة تدعو للإعجاب ، وخاصة فى حالة الجمعية الملكية فى إنجلترا ، والتى قامت بدور جوهرى فى تشجيع البحث العلمى ومحاربة الخرافة وضبط الأداء المقبول فى محراب الجامعة والمعمل والمجتمع العلمى بصورة عامة.
وفى سياق ذلك كله، أخذ المجتمع يفرز ثقافة مواتية بصورة متزايدة للمعرفة العلمية والتجريب والابتكار التكنولوجى، وهى الثقافة العقلانية. ولا شك أن التطور الاقتصادى ، وبروز الرأسمالية، وبزوغ وتطور طبقة برجوازية من رجال الأعمال الراغبين فى المخاطرة باستثمار أموالهم فى الصناعة والتجارة الحديثة قد مثل دفعة كبيرة لذلك كله. ولكن من المشكوك فيه أن تتمكن أوربا الغربية من احراز ما حققته من تقدم دون أن تكون فى الأصل قد انتصرت بصورة حاسمة لقيمة حرية العلم. فهذه القيمة هى التى حسمت أكثر من غيرها ريادة إنجلترا بالذات للتطور الرأسمالى والثورة الصناعية وعصر العلم والتكنولوجيا رغم أنها كانت الأفقر من مثيلاتها الأوربيات فى الثروة الطبيعية والمالية.
ومن حسن حظ أوربا أنها أمنت هذه الحرية عن طريق التطور الديموقراطى فى مرحلة لاحقة، بحيث صارت هناك قواعد وضمانات ومؤسسات تحمى وتحرس حرية العلم والبحث العلمى، وتضفى عليه المزايا والامتيازات، وتصونه من خلال تقاليد دستورية ومجتمعية صارت راسخة، ومجال افتخار الحضارة الأوربية ككل.
ولكن ذلك كله لا يمثل غير جانب واحد من قضية حرية العلم والعلماء والبحث العلمى والتكنولوجى، وهو الجانب الثقافى/السياسى.
ساحة النقاش