فقد ضمنت الحضارة الغربية، على نحو متزايد ، الحرية السياسية والثقافية للعلماء والمبتكرين باعتبارها بيئة ضرورية ولا غنى عنها لحرية الممارسة العلمية. ولكن الحرية الاقتصادية كانت دائماً شرطاً ناقصاً ، بدرجات متفاوتة فى مختلف البلدان وفيما بين حقبة وأخرى. إننا نجد هنا أنماطاً ومستويات متباينة أيضاً. ففى الجامعات، كان العلماء والمبتكرون يستطيعون ضمان شروط اقتصادية ملائمة الى حد ما للقيام بالبحوث الأساسية، ولكن دخول حرم الجامعة والتمتع بوظائفها المدعومة من قبل المجتمع والدولة لم يكن أمراً يسيراً على العديدين. وتوفر لبعض العلماء والمبتكرين مدخرات عائلية أو صورة من صور الدعم الخير من جانب بعض العائلات الغنية أو حتى بعض الشركات. وقد مكن ذلك بعضهم ، وخاصة خلال القرن التاسع عشر من التحول الى مبتكرين أحرار. وينسب لهؤلاء المبتكرين العظام بروز نمط مميز طوال القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين وهو المطورون والمبتكرون الأحرار الذين يمارسون البحث والتطوير - عادة كسلسلة طويلة من شخص لآخر يتلوه بإضافات وتحسينات أو بابتكارات جديدة تتلوها تحسينات، وهكذا - مثلما كان يمارس الحرفيون القدامى عملهم، أى باعتبارهم أفراداً أحراراً يسيطرون على الجوانب الأساسية لشروط عملهم. فقد يحتاج هؤلاء لبعض التمويل فى البداية، ولكنهم عادة ما ينجحون عبر التجريب والتحسين فى إنتاج ابتكار أو تقنية جديدة سريعاً ما يتعاظم الطلب عليها بما يمكنهم من تمويل ابتكارات أو تقنيات جديدة، أو حتى تأسيس شركات بأسمائهم لإنتاج وتسويق هذه الابتكارات والتقنيات.

ولكن القرن العشرين شهد تطوراً آخر للممارسة التكنولوجية وهو بروز مؤسسات البحوث الضخمة، إما فى شكل أقسام داخل شركات عملاقة، أو فى شكل مراكز مستقلة ولكنها ذات تمويل مضمون عادة من الحكومات أو العامة أو مؤسسات نشأت لهذا الغرض تحديداً.
وسريعاً ما تمكنت تلك المؤسسات الضخمة من استيعاب الجانب الأعظم من أنشطة الابتكار والبحث والتطوير خارج اطار الجامعات. كما أخذت هذه المؤسسات فى التطور التنظيمى الداخلى بحيث صارت أبنية بيروقراطية ضخمة ذات تكوين وظيفى وإدارى معقد. وعلى نحو متزايد ، أصبح العمل البحثى والتطويرى الذى يتم داخل هذه المؤسسات متعدداً ومتكامل التخصصات . كما أخذ فى الامتداد أحياناً الى عدد من المجالات والفروع العلمية والصناعية.
وفى ظل هذا التطور، كاد يختفى نمط المبتكر الحر - ذو الطبيعة المشابهة للحرفى أو الأسطى التقليدى. وهو الأمر الذى يلقى ظلالاً كثيفة من الشك على حرية البحث والتطوير، وخاصة فى المجال التكنولوجى بالمعنى الضيق، إن لم يكن فى المجال العلمى البحت أيضاً.
مؤسسات البحوث والتطوير هذه، هى مرتكزات ضخمة من العلماء والباحثين والمبتكرين الذين يتم تصنيفهم الى مراتب مختلفة تبعاً لمعايير متباينة ، ويقسمون الى إدارات وأقسام نوعية حسب المهام التى يكلفون بها، وحسب التصور التخطيطى الموضوع من جانب الشركة أو المؤسسة الأم التى يتبعونها. وباختصار تقوم هذه المؤسسات على قاعدة تقسيم العمل وكفاءة تخصيص الوقت والجهد، وتكامل المهارات والتخصصات ، والتخطيط الموضوع سلفاً والذى ينقسم بذاته الى طويل ومتوسط وقصير الأجل ، وقبل كل شئ على توقعات النجاح مقاساً بالتسويق والأرباح والشهرة والسمعة وحسن الصلات مع الحكومات ومجتمع الأعمال والمنافسة مع الآخرين.
وباختصار ، فقد طبق على المجتمع العلمى والتكنولوجى نفس نموذج العقلانية الصناعية المتطرفة التى طبقت على شركات الأعمال ، وخاصة فى ميدان الصناعة التحويلية، وهو النموذج الذى قسم عملية الإنتاج الى خطوط إنتاج تخصصية يقوم فيها كل عامل/عالم بعمل جزئى صغير ومتخصص على نحو متطرف، للوصول به الى أعلى معدلات الأداء.
وبتعبير آخر ، وقع العلماء والمبتكرون ضحية مفهومهم هم عن الكفاءة التكنولوجية.
وبالفعل ، فقد تحسنت كفاءة البحوث والتطوير الى مدى هائل، خلال النصف الثانى من القرن العشرين، وذلك باعتباره نشاطاً صناعياُ تخصصياً . ولكنه أفقد مجتمع العلماء والمبتكرين شيئاً هاماً أيضاً يعتبر من أشد سمات خصوصية الممارسة العلمية والتكنولوجية، وهو الحرية: حرية العلماء والمبتكرين فى أن يضعوا جدول أعمالهم، وأن يبدعوا وينوعوا فى طرائق وصولهم الى أهدافهم ، بل وحرية وضع تلك الأهداف نفسها.
وقد أدى نمط التطور المؤسساتى لأنشطة البحث والتطوير داخل الشركات الكبرى الى ظهور نظريات عديدة خاصة بإدارة هذا النشاط وعلاقته بالشركة الأم. فيؤكد تويس أن استراتيجية البحث والتطوير تنبع من استراتيجية الشركة. ويتفق مع هذا الاستنتاج بيتوندو وفرومان، غير أنهم يضيفون أن العكس أيضا صحيح، بمعنى أن نشاط البحث والتطوير قد يؤثر على استراتيجية الشركة. وفى كل الأحوال يتحدث علماء الإدارة عن ربط التخطيط فى الشركة بالتخطيط فى مراكز البحوث والتطوير (Rod Coombs/52)، بل يصل هذا الربط الى حد تغلب الاعتبارات التجارية على جميع أوجه التنظيم والأداء فى مجال البحوث والتطوير .
ولذلك تطور وتنوع تنظيم مراكز البحوث بين ست استراتيجيات أو أنماط تنظيم مختلفة، كالآتى:
-
نماذج القسم department حيث تصبح أنشطة البحث والتطوير قسماً داخل الشركة. مثل أقسام الإنتاج، والتسويق، والشئون الإدارية وغيرها . كما تتفاعل مع هذه الأقسام.
-
نماذج النشاط أو طبيعة العمل activity ، حيث تنشأ عمليات البحث والتطوير تبعاً للحاجة فى أى قسم من أقسام الشركة ، وتتحدد برامج البحوث تبعاً لحاجة النشاط فى الشركة .
-
نماذج تربط بين تنظيم البحث والتطوير كقسم، وتنظيمه كنشاط مرتبط بمختلف الأقسام وطبيعة النشاط .
-
نماذج متعلقة بقرارات الشركة ، فيكون نشاط البحث والتطوير متعلقاً بهذا القرار، سواء جاء من خارج النشاط نفسه أو بواسطة الباحثين الذين يتكونون كفرق عمل للتصدى للمهمة التى يكلفهم بها قرار الشركة .
-
نماذج الاستجابة، حيث يقوم الباحثون فى مراكز البحث والتطوير بالاستجابة بأنفسهم لتحديات معينة فى بيئة الأعمال، مثل قيام شركة أخرى منافسة بطرح منتج جديد أو إتباع أساليب إنتاج جديدة ، أو مجرد معرفة الباحثين بوجود برامج بحوث جديدة قد يكون لها إنعكاسات ثورية على الصناعة...الخ.
-
نماذج التمويل والمزج: حيث يطلع الباحث فى مراكز البحوث والتطوير على بيئات جديدة للعمل ويأخذ فى مناقشة كل قسم أو كل مستوى من المستويات الادارية للشركة لتبيان حاجاتهم ، وتحويل كل ذلك الى اتجاه جديد للبحث. (Gaile and Brooks/192-245)
وداخل مراكز البحوث والتطوير قد تتبع طرق مختلفة لتنظيم العمل. فيكون هناك مثلاً وحدات يتخصص كل منها فى منتج أو أسلوب إنتاج بعينه. كما قد تنقسم تلك الوحدات على أساس عمليات البحث مثل التصميم الأساسى، والتصميمات الثانوية ، والتجريب، وأقسام تصنيع وتجريب النماذج التجريبية prototypes ، وأقسام مساندة ، ...الخ.
وينسب العديدون لهذا التحويل البيروقراطى لأنشطة البحوث والتطوير فضل تدفق التجديد فى النظام التكنولوجى الغربى ، والأمريكى خاصة. Rod Coombs/53) . غير أن ذلك مشكوك فيه الى حد كبير. فالواقع ان هذا التحول لبناء منظمات بحوث عملاقة يواتى عملية واحدة فقط وهى عملية التطوير development ، التى تعنى بإحداث تحسينات فى نوعية المنتجات، والإضافة والتركيب بين المنتجات، وأساليب الإنتاج. أما الإبداع فهو شئ آخر، وغالباً ما يأتى من جانب باحثين أو علماء عظام يعملون بمفردهم مع مساعديهم أو فى إطار فرق عمل تتفرغ لمهمة تكنولوجية تترجم مفهوماً جديداً فى العلم جاء من ملكوت البحث الأساسى.

 

 

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 101 مشاهدة
نشرت فى 3 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

286,885