بالنسبة للعلماء والمبتكرين أنفسهم، تمثل التكنولوجيا ميداناً للتجريب والبحث عن حلول ممكنة لمشكلات معرفية أو فنية وعلمية. وشغلهم الشاغل هو أن حلاً ما لمفارقة معينة هو أمر ممكن. وتتحدد المشكلة وينبسط الحل الممكن لها عبر تجاوز الحدود التى مرت بها عملية التجريب والبحث فى الماضى وحتى لحظة إنبثاق إبتكار ما ، وذلك بهدف تحقيق وظيفة جديدة بدت مستعصية حتى تلك اللحظة.
أما بالنسبة للمجتمع، فالتكنولوجيا أو بالأحرى الابتكار والتجديد ينطوى على دوافع أخرى. إننا نجمع هذه الدوافع كلها فى تعبير واحد يشبه المظلة لأهداف مختلفة وأحياناً متضاربة، وهو الأغراض الإنسانية. وإذا قمنا بتحليل الخطاب الاجتماعى (والسياسى) فيما يتعلق بالتكنولوجيا ، فسوف نجد بعض الخطابات وثيقة الصلة بالحاجة لإستئصال الفقر ومساعدة الناس فى قاع المجتمع على حل مشاكلهم اليومية وتحسين معيشتهم. فكان الرئيس الأمريكى توماس جيفرسون يأمل أن تهتم الكيمياء بتحسين فنون الطبخ وصنع المشروبات. وكان يفضل أن يكون الابتكار لأشياء صغيرة ونافعة.. لأن الأشياء الصغيرة القابلة للتطبيق فى مجالات اهتماماتنا اليومية أكثر قيمة بما لا يقاس من الأشياء العظمى التى يمكن استخدامها فقط للأمور الكبرى التى لا تهم سوى القلة .
وبذلك تختلف التكنولوجيا عن العلم، كان ولا يزال العديدون ينظرون للتكنولوجيا كمدخل لحل مشكلات محددة ، أو الحصول على فرصة مربحة. وفى مقابل هذا التشوق لدور بارز للتكنولوجيا فى حل مشكلات الحياة اليومية وتحسينها، سوف نجد أن هناك بعداً آخر، وقد يكون مفارقاً أو حتى مضاداً يتجسد فى هذه الجملة الأخيرة: أى الحصول على الربح. ذلك أن جوهر الرأسمالية وفحواها هو المصلحة الخاصة التى تترجم الى ربح. فالرأسمالية نظرت للتكنولوجيا باعتبارها أحد أهم أبعاد زيادة مجال الربح.
وعلى أية حال ، فإن التكنولوجيا قد برهنت فعلاً على دورها الهائل فى نمو ثروة المجتمع الرأسمالى، أو الصناعى الحديث، رغم أننا لا نعرف الطريقة التى يحدث بها ذلك بالضبط . فتؤكد بعض التقديرات أن ثلث الزيادة فى الدخل الفردى فى الولايات المتحدة جاءت عن التقدم التكنولوجى وليس من زيادة الادخار والاستثمار. ويقدر البعض أن 80% من الزيادة فى اجمالى الناتج الأمريكى خلال القرن العشرين قد تولدت عن التقدم التكنولوجى.
ويعمم الاقتصادى الكبير كوزنيتسKuznets هذه النتيجة بتأكيده على أن المنبع الأكبر للنمو الاقتصادى فى البلدان المتقدمة كانت التكنولوجيا القائمة على العلم.
واللافت للنظر فى الدراسات الاقتصادية عن نتائج التطبيقات التقدمية للتكنولوجيا فى النمو الاقتصادى هو أن عائدها بالنسبة للمجتمع - أو الاقتصاد الكلى - كانت أكبر من عائدها بالنسبة للشركات أو المصالح الخاصة التى تطبقها. ويقرر ما نسفيلد مثلاً أن عائد أنشطة البحث والتطوير بالنسبة للصناعة الأمريكية تقدر بنحو 30% فى المتوسط. أما العائد الاجتماعى فيتراوح معدله بين 50 و 90%. وبتعبير آخر، فإن الشركة تحصل على 30% (عائد الاستثمار فى تطبيق تكنولوجيات جديدة فى الصناعة)، بينما يحصل المجتمع من هذا الاستثمار نفسه على عائد يصل الى 50-90% ، أى أن النتائج الايجابية للاستثمار فى تكنولوجيات جديدة أكبر فى المجال العام منها فى المجال الخاص، حتى لو كان هذا الأخير هو المسئول الأول عن الابتكار. (Skolimkoff/113)
ويقوم هذا التقدير دليلاً على أن الاستثمار فى التقدم التكنولوجى يحقق الانسجام بين المصالح الخاصة والمصالح العامة، وهو أفضل طريقة للوصول الى هذا الانسجام.
غير أن العائد من الاستثمار فى تطبيق الابتكارات والتحسينات التكنولوجية قد لا يكون المؤشر الأهم الذى يلتقط أهمية ودور التكنولوجيا فى الحياة الاقتصادية الحديثة. فالواقع أن كل موجة من موجات التجديد التكنولوجى كانت تغير بصورة جوهرية طبيعة الحياة الاقتصادية، بل ومعنى الاقتصاد نفسه. فالتجديد يحدد ماذا ينتج وكيف ، بل وطبيعة حاجات الناس والشروط الأساسية لعملهم من أجل اشباع هذه الحاجات. فتكنولوجيا الطباعة الحديثة والتى بدأت أولى خطواتها مع اختراع المطبعة على يد جوتنبرج ليست مثل تكنولوجيا النسخ التى عاشت عليها الإنسانية مئات السنين. فالطباعة والنشر لم تعد مجرد مهنة ، بل صارت فرعاً اقتصادياً ، وبمقتضاها تغيرت طبيعة عملية القراءة، ونظام التعليم ودلالة ومؤشرات الثقافة ودورها...الخ. وكذلك ، فإن صناعات، مثل الغزل والنسيج والملابس والجلود والمنتجات المعدنية، وهى جميعها صناعات قديمة، طورتها المبتكرات التكنولوجية، بحيث باتت تشكل نسيجاً اقتصادياً بذاته. ولكن ذلك كله لا يرقى الى التطورات التى ولدتها الثورة الصناعية الأولى فى مجال الاقتصاد.
فإبتكار آلة الاحتراق الداخلى والموتور (المحرك) لم يكن مجرد إضافة سلعة جديدة، بل بداية ثورة اقتصادية غيرت جوهرياً معنى الاقتصاد ذاته، وأحدثت علامة فاصلة بين الاقتصاد التقليدى والاقتصاد الحديث، إذ أن هذا الابتكار مع التحسينات المتتالية عليه أصبح الأساس فى ابتكار آلاف السلع، والأهم هو ادخال أساليب إنتاج آلية مختلفة جذرياً عن كل سابقتها.
ويصدق الأمر بنفس الدرجة مع دخول تكنولوجيا الكهرباء، التى طورت أسلوب الحياة نفسه، مع الإنتاج والمنتجات. ولا يمكن تخيل الاقتصاد الحديث بدون المحرك الميكانيكى والتوربينى.
كذلك تحقق الثورة الحالية فى التكنولوجيا تحويلاً جذرياً لمعنى ودلالة النشاط الاقتصادى، بل والاقتصاد نفسه، وهو تحويل لا تكاد تدركه المصطلحات التى حاولت التقاط روح هذه الثورة، مثل ما بعد الصناعة ، أو اقتصاد المعلومات، أو الاقتصاد الرمزى، أو الاقتصاد التخيلى...الخ. فنسيج العمليات الاقتصادية يتغير على نحو جذرى فى الدول المتقدمة التى بادرت بابتكار وتطبيق التكنولوجيات الجديدة فى مجال المعلوماتية، والتكنولوجيا الحيوية والمواد الجديدة والاليكترونيات الدقيقة وتكنولوجيا الفضاء والطيران وتكنولوجيا البحار ...الخ.
وبفضل هذه التغيرات العميقة للنسيج الاقتصادى للمجتمعات المتقدمة (ما بعد الصناعية)، يعاد ترتيب مكانات الدول وفقاً لقدراتها على امتلاك وتوظيف المعارف الجديدة. ويتغير مضمون وفحوى المبادلات الاقتصادية، وطبيعة المنافسات التجارية والاقتصادية بين الأمم، بل وتقسيم العمل الدولى.
فالقوة الاقتصادية للدولة لم يعد يحددها حجم ما لديها من موارد طبيعية وقوة عمل ورءوس أموال، بل تتحدد بمدى ما تملكه من قدرة على توليد ابتكارات واستحداث تجديدات تكنولوجية.
وصارت التجارة فى مستحدثات التكنولوجيا الراقية hightech هى أكثر فروع التجارة الدولية سرعة فى النمو، بل صارت هى الجزء الأكبر من التجارة الدولية عموماً.

 

 

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 140 مشاهدة

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

286,903