وبفضل انفجار الثورة التكنولوجية الراهنة، ودخولها بقوة مجال التجارة الدولية، واحتكار عدد محدود من أكثر الدول تقدماً لهذه التكنولوجيات المستحدثة، لم يعد من الضرورى أن تحافظ هذه الدول على الصناعات التقليدية داخل أراضيها. بل أصبح من الممكن أن تتلخص من الصناعات المكلفة ذات القيمة المضافة القليلة، أو الملوثة للبيئة أو التى تحتاج الى حجم كبير من العمالة. وقد تم نقل هذه الصناعات عن طريق الاستثمار المباشر أو اتفاقيات الترخيص الصناعى الى بلاد معينة من العالم الثالث، حيث يمكن إنتاج نفس السلع بنفس الجودة وتكلفة أقل، وإعادة استيرادها. فالولايات المتحدة تنقل هذه الصناعات الى المكسيك والبرازيل والأرجنتين، وتوافق على نقل بعضها الآخر الى الصين وتايوان وسنغافورة وماليزيا وغيرها من دول جنوب شرق آسيا. وتعتمد اليابان بدورها على نفس هذه الدول، وإن كانت قد جعلت كوريا الجنوبية المحطة الأساسية لعشرات من المنتجات والسلع التقليدية ، بما فيها السلع الهندسية وعلى رأسها السيارات. وتتيح عملية النقل هذه ، تخصيص قوة العمل فى البلاد المتقدمة لإنتاج مستحدثات الثورة التكنولوجية الراهنة.
وحتى لو لم تُقدمْ الدول المتقدمة على نقل الصناعات الكلاسيكية أو أكثريتها للدول النامية المؤهلة للقيام بهذه المهمة، فإنها لن تتمكن من منافسة هذه الأخيرة فى مجال المنتجات كثيفة العمل، وذلك بحكم ما تمليه اقتصادات التكنولوجيا ذاتها.
فعندما يكون المنتج التكنولوجى جديداً ، وتستطيع الشركة المنتجة أن تحتفظ بالأسرار التكنولوجية المتضمنة فيه، فإنها تحرص على بقاء إنتاجه فى بلدها الأم، لكى تحصل من خلال تصديره للأسواق الأجنبية على ريع احتكار تكنولوجى. غير أن المنافسين فى بعض البلاد الأجنبية يحاولون فك هذه الأسرار بهدف الحصول على نصيب كبير فى أسواقهم القومية. وفى النهاية ينجحون فى ذلك. فالأسرار التكنولوجية لا تبقى طويلاً طى الكتمان. ومع إنتشار التكنولوجيا وظهور مقلدين فى الأسواق تحاول الشركة أو الشركات المبتكرة الدفاع عن الأسواق الأجنبية عن طريق الاستثمار فيها. أى أن فرص التسويق تصبح أهم من الحصول على ريع احتكار لم يعد قائما من الناحية الفعلية. أما عندما يخطو المنتج الى مرحلة ثالثة وتصير التكنولوجيا المتضمنة فيه شائعة، تتحول الميزة النسبية من الأسواق الى تكلفة الإنتاج، وتحديداً الى البلاد التى تتمتع بتكلفة عمل أقل ( عند نفس مستوى الإنتاجية ) . وتستطيع هذه البلاد الأخيرة أن تغزو البلد الأصلى للابتكار بفضل أسعارها الأقل.
وهنا يتمثل واحد من أهم وأسوأ ملامح النظام الاقتصادى الدولى، حيث تعتبر الدول المتقدمة أن التكنولوجيا سواء كانت جزءاً من آلة أو منتج أو سلعة أو غيرها (أى تكنولوجيا مجسدة) أو كانت تكنولوجيا خالصة فى شكل تصميمات صناعية أو معادلات كيميائية أو برامج ناعمة Software تدخل فى نطاق الملكية الخاصة التى تتوافر لها الحماية القانونية. وبالتالى، فإن الحصول على هذه التكنولوجيا يسرى عليه نظام البيع أو الاستغلال على نحو أو آخر، ولا يمنح مجاناً ، سواء فى داخل نفس الدولة أو خارجها. وينص النظام القانونى لمعظم دول العالم الرأسمالى على توفير الحماية لما يسمى بحقوق الملكية الفكرية، من خلال نظام تسجيل براءات الاختراع Patents أو العلامات التجارية trade marks أو الشعارات labels أو حق النشر والنسخ copy right ...الخ. ويمكن هذا النظام الشركات المنتجة للتكنولوجيا- أو الأفراد المنتجين بالطبع - من الحصول على عائد كبير لمنح حق استخدام هذه المعارف للآخرين بمن فى ذلك الشركات والأفراد فى الدول الأقل نمواً، وحتى الأشد فقراً منها. وتتنوع الأشكال القانونية وأنماط العقود التى تنقل حقاً جزئياً لاستغلال هذه المعرفة التكنولوجية، مثل الترخيصات الصناعية، وعقود الإدارة والخدمات.
وخلال عقدى السبعينات والثمانينات كان هذا النظام يتعرض لنقد شديد، ليس من جانب الدول الفقيرة والنامية فحسب، بل ومن قبل المنظمات الدولية أيضاً. وتحفل أدبيات التنمية بالإشارة الى عيوب هذا النظام القانونى لعقود نقل التكنولوجيا. ومن هذه العيوب توفير الحماية للاحتكار التكنولوجى لفترة طويلة جداً ، والحصول على ريع (أى عائدات لبيع حق الاستخدام أو الاستغلال) كبير ومجحف للغاية، وكذلك الممارسات التقييدية المتصلة بهذه القيود أو المتضمنة فيها. وتشيع هذه القيود، فى مجالات كثيرة مثل الأدوية والكيماويات المتخصصة والآلات والمعدات الدقيقة. والسلع والأجهزة الاليكترونية.
ولذلك إنصرفت جهود بلاد عديدة ومنظمات دولية متنوعة الى إنتاج نمط من العقود الأفضل التى تقلل من الممارسات التقييدية والاستغلالية المتصلة ببيع حقوق الاستغلال للتكنولوجيا وخاصة الناضجة أو الشائعة منها إلى البلاد الفقيرة والنامية.
بينما اتجهت جهود الكثيرين إلى تجاهل هذه الممارسات الاحتكارية عن طريق محاولة فك الأسرار التكنولوجية فى السلع والآلات التى تحتاجها بلادهم بأساليب مختلفة. ومن أهم هذه الأساليب العودة الى الأصول العلمية التى وظفها المبتكرون الأوائل فى استحداث هذه السلع والآلات، لإنتاج بدائل أو منتجات مشابهة - من الناحية العلمية - ولكنها مختلفة بدرجة ما فى تكوينها المادى.
وكذلك هناك أسلوب يسمى بالهندسة العكسية، أى استنباط التصميم الأصلى للسلع والآلات والمواد التكنولوجية الأخرى بدراستها مباشرة ، وإنتاج هذه التصميمات بالقدرات الذاتية. وقد يضاف الى التصميم الأصلى خصائص جديدة، فيسمى هذا الأسلوب بهندسة الإضافة add-on ، أو قد يعاد تركيب السلع من جديد على نحو مختلف فيسمى هذا الأسلوب add-up هندسة التركيب .
وهناك آلاف مؤلفة من السلع التى لم تعد محمية بنظام حقوق الملكية الفكرية، أو لازالت محتكرة بصورة تعسفية ويمكن إنتاجها بهذه الأساليب. ولكن الأهم هو أن هناك مئات الآلاف من المنتجات المحمية والتى يمكن بكل بساطة نسخها مع تعديلها قليلاً . وتثير هذه الممارسات الشائعة فى كل مكان فى العالم تقريباً سخط الدول الغنية، وخاصة الولايات المتحدة. ولكن هذا السخط تضاعف فى العشرين عاماً الماضية لأسباب عديدة .
ساحة النقاش