ج - الديموقراطية داخل المجتمع المدني :
أي جماعة مهما بلغت درجة تماسكها سيظل بها قدر من الاختلاف والتعدد بين عناصرها. صحيح أن هناك مصلحة أو أهداف مشتركة اجتمع عليها الأفراد كأرضية مشتركة بينهم لتأسيس الجماعة، إلا أنه تبقى مصالح وأهداف شخصية وخاصة لدى كل منهم. هذا التنوع والاختلاف داخل الجماعة لابد أن يتم التعامل معه على أنه مصدر للثراء يزيد من قوة الجماعة ككل إذا ما سمح له بالتعبير عن نفسه علناً بدلا من كبته أو إخفائه أو التظاهر بعدم وجوده. ولابد أن تستمع القيادة داخل كل منظمة أو جمعية إلى بقية الأعضاء وأن تستشيرهم فيما تتخذه من قرارات بشأن الجمعية وأن تتقبل ما يوجهونه لها من انتقادات تساعدها على تصحيح الأخطاء، والأهم من ذلك أن تأتي تلك القيادة باختيار الأعضاء لها من خلال انتخابات حرة ونزيهة تتيح المنافسة المفتوحة والشريفة أمام الجميع بحيث يتمتع أعضاء أي منظمة داخل المجتمع المدني بحق التصويت والترشيح والمشاركة في صنع القرار الداخلي لتلك المنظمة. أما التعامل بأسلوب الكبت والقمع وغياب الديموقراطية داخل المنظمة بحجة الحفاظ على تماسكها فإنه قد يقود المختلفين إلى الانفجار ويصبح البديل الوحيد المتاح لهم هو الانفصال الكامل عن الجماعة .
وكما يتضح فيما سبق، فإن الركن الأخلاقى والمعنوي يعد هو أساس وجود المجتمع المدني. فالعبرة ليست بوجود منظمات أو مؤسسات وهيئات متعددة من ناحية الكم اذا كانت لا تعبر عن جوهر المجتمع المدني من الناحية الكيفية أي من ناحية تصرفات الأفراد ومدى التزامهم في تعاملهم مع بعضهم البعض بقيم ومبادئ الحوار والتسامح والتنافس السلمي وقبول التعدد والاختلاف واحترام حقوق المعارضين والمختلفين ونبذ العنف ورفض استعماله. ففى هذه الحالة لا تكون تلك القيم مجرد شعارات ترفعها الجماعات، وإنما مبادئ حاكمة فعلاً لسلوكها وأفعالها وهذا هو معيار الصدق، كما أن ديموقراطية المجتمع المدني هي شرط أساسي لديموقراطية المجتمع ككل .
وهكذا فإن هذه الشروط والصفات الأخلاقية هي بوابة الدخول إلى المجتمع المدني. فرغم ما ذكرناه من أن منظمات المجتمع المدني تعبر عن مرحلة أكثر تقدماً ورقياً مقارنة بالتنظيمات الاجتماعية السابقة والتي تقوم على الروابط الأولية والطبيعية الموروثة، إلا أن هذه التنظيمات قد تتحول أيضا إلى جزء لا يتجزأ من المجتمع المدني ويتم قبولها في إطاره في حالة التزامها بمبادئ هذا المجتمع ووفائها بشروطه المعنوية بغض النظر عن اختلافها عنه في الشكل. فالقبيلة والعشيرة والجماعة الدينية والمذهبية والطائفية قد تصبح من مكونات المجتمع المدني إذا قبلت التعدد والاختلاف وتوقفت عن إدعاء أنها وحدها تملك الحقيقة كلها واتجهت بدلاً من ذلك إلى الدخول في حوار سلمي لتبادل الرأى مع غيرها من الجماعات فهي عندئذ تصبح صالحة للقيام بدور الوسيط بين الحكومة والأفراد في حدود ما يسمح به القانون .
وفي إطار الحديث عن معنى المجتمع المدني وشروطه وخصائصه التي تميزه، تبين لنا أنه يقوم بدور هام كحلقة للتوسط والوصل والاتصال تربط بين الحكومة والمحكومين، كما تربط بين مختلف الجماعات والأفراد. وهذا الدور يتفرع عنه عدد من الوظائف الهامة التي يحتاجها المجتمع لتحقيق أهدافه. لابد أنك تسأل نفسك الآن ما هي تلك الوظائف ؟ وهل هي وظائف متشابهة مع وظائف الدولة أم متعارضة معها أم أنها مكملة لها ؟
ثانيا : وظائف المجتمع المدني
كما تتعدد معاني المجتمع المدني وخصائصه تتعدد أيضاً وظائفه وأدواره في المجتمع. وهذا التعدد يفسر لنا مدى أهمية المجتمع المدني عموما وبالنسبة للمجتمعات النامية خصوصا:
1 - تحقيق النظام والانضباط في المجتمع :
فهو أداة لفرض الرقابة على سلطة الحكومة وضبط سلوك الأفراد والجماعات تجاه بعضهم البعض. ويكفي في هذا الصدد الإشارة إلى أن كل منظمة أو جمعية تضع مجموعة من القواعد بخصوص الحقوق والواجبات التي تترتب على الفرد نتيجة لانضمامه إلى عضويتها. ويعتبر التزام الأعضاء بهذه القواعد شرطاً لقبولهم داخل المنظمة واستمرارهم فيها .
2 - تحقيق الديموقراطية :
فهو يوفر قناة للمشاركة الاختيارية في المجال العام وفي المجال السياسي، كما تعد منظمات وجمعيات المجتمع المدني أداة للمبادرة الفردية المعبرة عن الإرادة الحرة والمشاركة الإيجابية النابعة من التطوع، وليس التعبئة الإجبارية، التي تفرضها الدولة على المجتمع للتظاهر بالتمتع بالجماهيرية والتأييد الشعبي .
3 - التنشئة الاجتماعية والسياسية:
وهذه الوظيفة تعكس قدرة المجتمع المدني على الإسهام في عملية بناء المجتمع أو إعادة بنائه من جديد من خلال غرسه لمجموعة من القيم والمبادئ في نفوس الأفراد من أعضاء جمعياته ومنظماته وعلى رأسها قيم الولاء والانتماء والتعاون والتضامن والاستعداد لتحمل المسؤولية، والمبادرة بالعمل الإيجابي والاهتمام والتحمس للشئون العامة للمجتمع ككل، بما يتجاوز الاهتمامات الخاصة والمصالح الشخصية الضيقة .
فانضمام الفرد إلى عضوية جماعة معينة يؤثر في حالته النفسية حيث يشعره بالانتماء للجماعة التي يستمد منها هوية مستقلة محددة، ويشجعه ذلك على المشاركة مع الآخرين داخلها والاستعداد للتضحية وإنكار الذات في سبيل الجماعة، وتلك شروط نفسية مطلوبة لصحة المجتمع ككل. أضف إلى ذلك، أن مشاركة الفرد داخل المنظمة في ممارسة حقوقه الديموقراطية، كالدخول في حوار مع الأعضاء الآخرين والتنافس على القيادة بالترشيح والتصويت في الانتخابات التي تجري فيها، تصبح بمثابة مدرسة يتعلم فيها الفرد أصول هذا السلوك الديموقراطي على مستوى الجماعة الصغيرة التي ينتمي إليها ليمارسه بنفس الحماس والإيجابية بعد ذلك على مستوى المجتمع ككل. فاعتياد الفرد على التصويت في انتخابات الجمعية أو المنظمة يؤدي إلى تصويته في الانتخابات التي تجري لاختيار النواب الذين يمثلونه في البرلمان أو لاختيار الحكومة التي تحكمه .
والفرد من خلال منظمته يشارك في أوجه النشاط العام ويعتاد على الاستماع إلى آراء الآخرين وقبول نتائج الحوار التي تتفق عليها الأغلبية مع التعبير عن معارضته بشكل سلمي .
ولاشك أن هذه العملية التعليمية والتدريبية تستغرق وقتا طويلا حتى تتمكن من غرس ثقافة ديموقراطية تقوم علىمبادىء التسامح والتعايش السلمي بين المختلفين و الوعي بأهمية المشاركة في تحقيق التقدم وتنمية المجتمع، فضلا عن الشعور بالثقة في النفس والاستعداد لتقبل الحلول الوسط والتضامن والتعاون مع الآخرين لتحقيق الغايات المشتركة .
4 - الوفاء بالحاجات وحماية الحقوق :
وعلى رأس تلك الحاجات الحاجة للحماية والدفاع عن حقوق الإنسان ومنها حرية التعبير والتجمع والتنظيم وتأسيس الجمعيات أو الانضمام إليها والحق في معاملة متساوية أمام القانون وحرية التصويت والمشاركة في الانتخابات والحوار والنقاش العام حول القضايا المختلفة .
وهكذا، يصبح المجتمع المدني بمثابة محامي يدافع عن المواطنين. ولكن السؤال المنطقي الذي قد يرد على بالنا هو: أمام من يقف هذا المحامي ؟ من هو الطرف الذي يعتدي على تلك الحقوق والحريات ؟ الحقيقة أن مفهوم المجتمع المدني ارتبط عادة بصفة الملجأ أو الحصن الذي يلجأ إليه الأفراد في مواجهة الدولة وحكومتها، من ناحية وقوى السوق من ناحية ثانية. فكل من الدولة وقوى السوق قد يهدد بتصرفاته الحريات والحقوق الإنسانية ويمارس الاستغلال والقهر ضد الفئات الضعيفة في المجتمع. ولا تجد هذه الجماعات درع وقاية تتسلح به ضد هذه التهديدات إلا بالانضمام إلى أحد تنظيمات المجتمع المدني التي لديها من القوة المادية والمعنوية ما يمكنها من الضغط على الحكومة لاحترام تلك الحقوق ووقف التعدي عليها، أو الضغط على قوى السوق كالمنتجين والتجار وأصحاب المشروعات مثل النقابات وجمعيات حماية المستهلك.
ساحة النقاش