وتفيد الخبرة التاريخية أن الكنائس والجماعات الدينية المسيحية كانت أكثر فعالية في تكوين أو تدعيم أحزاب سياسية ذات نشأة خارجية في بعض البلاد الأوروبية ، بالرغم من محدودية الدور الذي يلعبه الدين في هذه البلاد .
فقد لعبت منظمات كاثوليكية ، بل والاكليروس نفسه ، دورا بارزا في ظهور الأحزاب المسيحية اعتبارا من أواخر القرن التاسع عشر وحتي العقد الثاني من القرن العشرين . وتعتبر حالة بل يكا واضحة في هذا الصدد ، حيث كان تدخل الكنيسة حاسما في نمو الحزب المحافظ المسيحي (كاثوليكي) ، بعد أن كان الاكليروس قد نجح في تكوين ما أطلق عليه (اللجان المدرسية الكاثوليكية ) لحماية التعليم الديني والحيلولة دون طغيان التعليم المعرفي عليه . وقد تحولت هذه اللجان في نهاية القرن التاسع عشر الي فروع محلية للحزب المحافظ المسيحي الذي كان من أقوي الأحزاب تنظيما في أوروبا.
وبالرغم من أن دور الكنيسة لم يكن بارزا في إنشاء الأحزاب الديمقراطية المسيحية التي ظهرت في عدة دول اوروبية عقب الحرب العالمية الثانية ، إلا أن جمعيات ومنتديات دينية مسيحية ساهمت في إقامة تلك الأحزاب .
فعلي سبيل المثال ، لعبت الجمعية الكاثوليكية للشباب الفرنسي دورا مساعدا في تكوين (حزب العمل الكاثوليكي) ، وقدمت له اعضاء وكوادر سواء علي الصعيد الوطني أو علي المستويات المحلية من خلال فروع هذه الجمعية (الشباب العامل المسيحي والشباب الطلابي المسيحي والشباب الزراعي المسيحي).
ولكن تجدر الاشارة الي أنه بالرغم من الدور الذي قامت به جمعيات كاثوليكية في تكوين الأحزاب الديمقراطية المسيحية ، فإن هذه الأحزاب لا تعتبر أحزابا دينية بأي حال. فهي تستلهم بعض القيم الاخلاقية المسيحية وتنطلق منها في اطار برامج مدنية لا دخل للدين فيها، خصوصا وأن الديانة المسيحية لا تتضمن نظرية سياسية .
ولم يكن دور جمعيات المحاربين القدامي في النشأة الخارجية للأحزاب أقل من دور النقابات والجمعيات الثقافية والتجمعات الدينية المسيحية . فقد ساهمت جمعيات المحاربين القدامي عقب الحرب العالمية الأولي (1914 - 1918) في خلق الأحزاب الفاشية في بعض البلاد الأوروبية ، وخصوصا ايطاليا وألمانيا اللتين خرجا مهزومتين من هذه الحرب ، وفرض الحلفاء المنتصرون شروطا قاسية عليها. وكانت هذه الشروط مهينة للكرأمة ، الأمر الذي ساعد علي انتشار الافكار الفاشية التي تقوم علي نزعة وطنية شديدة التطرف تمجد الذات الوطنية وتتخذ موقفا عنصريا حادا ضد كل الآخرين من قوميات وأجناس وحضارات، كما تتبني نزعة عسكرية عدوانية لابد أن تتمخض عن حروب . وكانت هذه النزعة في المانيا وإيطاليا وراء نشوب الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945).
وكان لجمعيات المحاربين القدامي دور مهم في تكوين الأحزاب الفاشية، وخاصة في ايطاليا حيث كان هؤلاء المحاربون قادرين علي اثارة مشاعر الجمهور من خلال القصص التي يرونها عما حدث في الحرب العالمية الأولي .
وهناك نوع آخر من الجمعيات كان مصدرا للنشأة الخارجية للأحزاب السياسية، وهو الجمعيات السرية والممنوعة ، وهناك فرق بين الاثنين . فالجمعيات السرية تتخذ هذا الطابع برغبتها لان أحدا لم يمنعها من الوجود العلني ، بخلاف الجمعيات الممنوعة التي تلجأ الي العمل السري لأنها محرومة من العمل العلني، ومن الطبيعي أن هذه وتلك لا تعملان علي الصعيد الانتخابي أو البرلماني ، فإذا ساهمت في تأسيس أحزاب سياسية، لابد أن تكون هذه الأحزاب ذات نشأة خارجية .
ولكن مساهمتها في تأسيس أحزاب يقتضي تحول السرية منها الي علنية وإزالة الأسباب التي أدت الي منع ما هو ممنوع منها . والمثال الأكثر شيوعا في هذا المجال هو حركات المقاومة ضد النازية والفاشية في بعض الدول الأوروبية خلال الحرب العالمية الثانية. فبعد أنتهاء هذه الحرب، حاولت تلك الحركات أن تتحول الي أحزاب سياسية . ونجح بعضها في ذلك بينما فشل البعض الآخر .
وينطبق ذلك علي الحزب الشيوعي في الاتحاد السوفيتي، والذي انتقل عام 1917 من اللاشرعية الي السلطة ، واحتفظ - رغم ذلك - بالكثير من معالم تنظيمه السري .
وعندما نتحدث عن النشأة الخارجية للأحزاب السياسية ، لا ننسي بطبيعة الحال دور الشركات والتجمعات الصناعية والتجارية والمصارف وما الي ذلك من المشاريع الاقتصادية الكبري.
وبالرغم من ان تزايد قوة ونفوذ هذه المشاريع في النصف الثاني من القرن العشرين جعلها في غير حاجة الي تأسيس أو تدعيم أحزاب تدافع عن مصالحها، فلم يكن الوضع كذلك في الفترة التي بدأت الأحزاب تنتشر فيها اعتبارا من منتصف القرن التاسع عشر. فقد عملت مؤسسات اقتصادية كبري علي تأسيس أحزاب سياسية منذ أن قام بنك مونتريال وشركة (جران ترونك ريلوي) ومؤسسة (بيج بيزنس اوف مونتريال) بدور أساسى في تأسيس الحزب المحافظ في كندا عام 1854.
وأياً كان اصل الأحزاب ذات النشأة الخارجية ، فهناك سمات وملامح عأمة تميزها عن الأحزاب ذات النشأة البرلمانية والانتخابية. فالأحزاب ذات النشأة الخارجية تكون أكثر مركزية في بنائها التنظيمي ، لأنها تنطلق من القمة أو من أعلي بخلاف الأحزاب ذات النشأة البرلمانية والانتخابية والتي تنطلق من القاعدة. وذلك يكون دور مركز الحزب ، أي قيادته العليا أو مركزه الرئيسي ، طاغيا في حالة الأحزاب ذات النشأة الخارجية. فالاصل في هذه الأحزاب هو المركز الذي يوجد في البداية ، بينما تتكون اللجان والفروع المحلية تحت سيطرة هذا المركز الذي يستطيع ان يحدد دورها ومدي حريتها أو عدم حريتها في العمل .
أما الأحزاب ذات النشأة البرلمانية والانتخابية فهي - علي العكس - تنشأ من خلال لجان محلية بطبيعتها . وهذه اللجان يكون وجودها سابقا علي التنظيم المركزي الذي يعمل علي تنسيق أنشطتها ، ويندر أن يتمكن من السيطرة عليها .
فهناك فرق اساسي بين حزب ينشأ تتويجاً لأنشطة برلمانية وانتخابية سابقة علي وجوده ، وحزب ينشأ لممارسة هذه الانشطة التي لا وجود سابقا لها قبل تكوينه.
وهناك فرق بين حزب ينشأ تجميعا لجهود اعضاء مجالس نيابية ولجان محلية متعددة، مما يجعل التعدد سمة من سماته ، وبين حزب ينشأ بمبادرة من نقابة أو جمعية ثنائية أو هيئة دينية أو جمعية محاربين قدامي أو تكتل اقتصادي ، مع ملاحظة أن هذه المبادرة تأتي عادة من قيادة هذه المؤسسة أيا كانت أي من عدد محدود من الاشخاص هم الذين يتولون قيادة الحزب ويقومون بالدور الرئيسي - وغالبا الطاغي - في تسيير شئونه.
ومن الطبيعي أن يكون هناك ارتباط بين درجة المركزية في المؤسسة التي تقوم بالدور الرئيسي في تكوين حزب سياسي وبين درجة المركزية في هذا الحزب .
ويترتب علي ذلك أن الأحزاب ذات النشأة الخارجية أكثر تماسكا وانضباطا من الأحزاب ذات النشأة البرلمانية أو الانتخابية. فالمركزية في التنظيم الحزبي لها اضرارها وفوائدها. وأهم اضرارها هو ضعف المبادرات المحلية وافتقاد الديمقراطية الداخلية . ولكن لها في المقابل فوائد أهمها التماسك والانضباط اللذان يتوافران في الأحزاب ذات النشأة الخارجية .
واذا اخذنا في الاعتبار ان الحزب السياسي الحديث عليه ان يخوض معارك مستمرة سياسية وانتخابية ، يصبح التماسك والانضباط من الأهمية بمكان لأن افتقادهما يضعف قدرته علي المنافسة . وهذا هو احد أهم الأسباب التي ادت الي ازدياد الأحزاب ذات النشأة الخارجية وتناقض الأحزاب ذات النشأة البرلمانية والانتخابية علي مدار القرن العشرين . فحتي سنة 1900 كانت اغلبية الأحزاب السياسية في العالم ذات نشأة برلمانية وانتخابية .
وباستثناء الأحزاب الكاثوليكية ، وأهمها الحزب المحافظ البلجيكي والأحزاب التي يرجع اصلها الي جمعيات ثقافية ، واهمها حزب العمال البريطاني ، وبعض الأحزاب التحتية التي تعود الي مؤسسات اقتصادية كبيرة ، لم يكن هناك غير القليل من الأحزاب ذات النشأة الخارجية .
وعلي العكس من ذلك ، ومنذ بداية القرن العشرين ، أصبحت النشأة الخارجية هي القاعدة والنشأة البرلمانية هي الاستثناء .

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 326 مشاهدة
نشرت فى 2 أكتوبر 2011 بواسطة mowaten

ساحة النقاش

mowaten
يأتى الربيع العربى للثورات بمتطلبات ضرورية لعل من اهمها هو نشر التوعية السياسية بين المواطنين بوطننا العربى لارساء وتهيأة البيئة للعيش فى جو ديمقراطى طالما حلمنا به »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

267,611