موقع الدكتور الشارف لطروش/ جامعة مستغانم/ الجزائر

يهتم هذا الموقع بالفكر والعلوم الإنسانية

          التعليل والتحليل في تفسير الزمخشري جار الله

تقديم

سلك الزمخشري(ت538م) في تفسيره المشهور الكشاف وهو يؤول النص القرآني منهجا يقوم على قواعد كثيرة أهمها التوجيه الكلامي واللغوي والنحوي والصرفي للآيات، والتعليل العلمي والتحليل الأدبي.

وفي هذه الورقة سنتوقف عند بعض العينات من أسلوب الزمخشري الذي يقوم على التعليل والتحليل الأدبي في تفسيره.

أ ـ التعليل العلمي في تفسير الزمخشري

              يبدو الاتجاه العلمي عند الزمخشري في الجدل وطرح السؤال والإجابة عليه، والعناية بتوجيه الأدلّة ، وقد كان سمة في البلاغيين عامة حيث( كانوا يهدفون من وراء ذلك إلى بسط الفكرة وإثبات صحتها وتقويض فكرة الخصم ، فالجوّ في البلاغة جوّ كلامي ...)1، وذلك على الرغم من تقسيم الباحثين علماء البلاغة إلى مدرستين مدرسة أدبية ومدرسة كلامية ، ولم يكن الزمخشري بدعا في هذه الحالة ، وقد برع في المجالين مجال التعليل العلمي والتحليل الأدبي.

            ونجده في تفسيره لقوله تعالى:﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم ﴾2يعلّل حيث قال ما بيانه : ( الختم والكتم أخوان لأنّ في الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصّل إليه ولا يطلع عليه ، والغشاوة الغطاء فعالة من غشاء إذا غطاه وهذا البناء لما يشتمل عليه كالعصابة والعمامة)3.

         وبعد أن بيّن الزمخشري العلاقة بين الختم والكتم بصفة عامة وهي علاقة تقارب لغوي انتقل إلى توضيح معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار ، وهو في الآية على سبيل المجاز لا على سبيل الحقيقة فقال : ( وإنّما هو من باب المجاز ، ويحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل)4.

              وأمّا تعليله لكون الختم والتغشية في الآية هو من الاستعارة فيقول فيه: ( أمّا الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لأنّ الحق لا ينفد فيها  ولا يخلص إلى ضمائرهم من قبل إعراضهم عنه واستكبارهم عن قبوله واعتقاده ، وأسماعهم لأنّها تمجّه وتنبو عن الإصغاء إليه ...وأبصارهم كأنّما غطي عليها وحيل بينها وبين الإدراك)5.

           ويظهر لنا في تفسير الآية عناية الزمخشري بالمصطلحات، والحكم على الأشياء وهو ما جعل تعليله متميزا ،فهو يقول مبيّنا فاعلية التمثيل في العبارة القرآنية ما نصّه:  ( التمثيل إنّما يصار إليه لكشف معناه وإدناء المتوهّم من المشاهد ، فإن كان المتمثل به كذلك ، فليس العظم والحقارة في المضروب به المثل إلاّ بأمر استدعته حال الممثّل له ألا ترى أنّ الحقّ لمّا كان واضحا جليّا ، تمثّل له بالضياء والنور ، وأنّ الباطل لمّا كان بضدّه تمثّل له بالظلمة ، وكذلك جعل بيت العنكبوت مثلا في الوهن والضعف )6

              ويتمثل المنهج العلمي عنده في لجوءه إلى فاعلية السماع في جمع الروايات ، فقد كان يسمع من العرب ، ويستعين بما يسمعه في منهجه التفسيري فقد كان يطوف بمناطق الأعراب وصحاريها يلتقط الألفاظ والعبارات7 ، وهو بذلك سار على منوال القدامى الذين جمعوا اللغة عن طريق السماع الذي كان الأصل الأول عند علماء أصول النحو العربي وأدلّة الاحتجاج عند اللغويين ، وهو من قواعد المنهج الوصفي في علم اللغة الحديث الذي يُعنى باللغة المنطوقة أكثر من اللغة المكتوبة ، ولو أنّ عصر الاحتجاج والاستشهاد في عرف اللغويين والنحاة كان قد انقضى عمليا قبل ظهور الزمخشري ، ولم يعودوا بحاجة إليه لأنّ القواعد كانت قد قعّدت.

             وكذلك كان الزمخشري ينحو في التعامل مع النصّ نحو الدلالة الإجمالية للخطاب لا الدلالة التفصيلية ، وتظهر لنا الموازنة بين الكشاف وتفسير الطبري أنّ التفسير الأول أخصر حيث جاء في أربعة أجزاء مقابل ثلاثين جزءا للثاني ، وصاحب الكشاف لم يكن يخرج عن إطار النصّ الضيق حيث لم يبالغ في سرد القصص والنوادر ولم يستطرد في الشواهد التي قد تبعد عن المقصود ، وكان يتجنّب الاستقصاء والاسترسال، وقال بصريح العبارة ما نصّه :         (الاستقصاء شؤم ... وفي الحديث:" أعظم الناس جرما من سأل الناس عن شيء لم يحرّم فحرّم لأجل مسألته)8.

          وتجنب الاستقصاء يعني به علماء التفسير تجنّب البحث عن دلالة لا توجد في النصّ و هي من أهمّ القواعد التي ذكرها السيوطي في شروط التفسير حيث قال ما نصّه : ( قال العلماء : يجب على المفسّر أن يتحرّى في التفسير مطابقة المفسَّر ، وأن يتحرّز في ذلك من نقص لما يحتاج إليه في إيضاح المعنى ، أو زيادة لا تليق بالغرض )9 .

             وكانت الحيطة والتروي في تناول القصص من قواعد منهجه العلمي في التفسير، فكان ( أحد المفسرين المتحفظين المتحوطين الذين يقربون النصّ بروية وتحرّر، ولذلك جاء تفسيره لقصّة أيوب منقّى ، نعم إنّه يذكر بعض ما جاء في تفسير الطبري ، ولكنّه صفّاه تصفية تتناسب مع منهجه الإجمالي العقلي)10.

            و من مظاهر التعليل العلمي في تفسيره شرحه لقوله تعالى:﴿ ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم ﴾11 بطريقة علمية حيث قال ما نصّه:( والختم والكتم أخوان لأنّ الاستيثاق من الشيء يضرب الخاتم عليه كتما له وتغطية لئلا يتوصّل إليه ولا يطلع عليه ، والغشاوة الغطاء فُعالة من غشاء إذا غطّاه ، وهذا البناء لما يشتمل على الشيء كالعصابة والعمامة)12.

            و بعد أن بيّن الزمخشري العلاقة بين الختم والكتم بصفة عامة وهما متقاربان لغويا لأنّهما يحملان معنى التغطية بعصابة أو عمامة ، انتقل إلى توضيح الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار وهو من باب المجاز فقال : ( فإن قلت ما معنى الختم على القلوب والأسماع وتغشية الأبصار ، قلت لا ختم ولا تغشية  وإنّما هو من باب المجاز و يحتمل أن يكون من كلا نوعيه وهما الاستعارة والتمثيل )13 ، وأمّا تعليله لكون الختم والتغشية في الآية هو من باب الاستعارة والتمثيل ، أمّا الاستعارة فأن تجعل قلوبهم لا ينفد إليها الحقّ ولا يخلص إلى ضمائرهم من قبيل إعراضهم عنه واستكبارهم، وأسماعهم تنبو عن الإصغاء إليه كأنّما غطّي عليها وحجبت وحيل بينها وبين الإدراك وأمّا التمثيل فأن تمثل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينية التي كلفوها وخلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها وبين الاستنفاع بها  بالختم والتغطية)14.

                و تبدو مظاهر التعليل العلمي في توجيه الأدلّة والاهتمام بالمعنى ففي تفسير قوله تعالى: ﴿ حتّى إذا جاء أمرنا وفار التنّور قلنا احمل فيها من كلّ زوجين اثنين وأهلك إلاّ من سبق عليه القول ومن ءامن  وماآمن معه إلاّ قليل ، وقال اركبوا فيها بسم الله مجرـها ومرسهآ إنّ ربي لغفور رحيم ﴾15 ، قال الزمخشري ما نصّه : ( " حتى" هي التي يبتدأ بعدها الكلام دخلت على الشرط والجزاء ، فإن قلت وقعت غاية لماذا قلت لقوله ويصنع الفلك أي وكان يصنعها إلى أن جاء موعد وقت الموعد ).16  

             و في تفسيره لقوله تعالى:﴿ ألم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ﴾17، رأى في هذه الآيات أربع جمل حيث إنّ قوله تعالى "ألم" جملة برأسها أو طائفة من حروف المعجم مستقلة بنفسها ، و"ذلك الكتاب" جملة ثانية و"لا ريب" ثالثة و"هدى" رابعة جيء بها متناسقة من غير حروف النسق ، وجاءت متآخية متّحدة ، مرتبة ترتيبا أنيقا ، ونظمت نظما ، حيث في الأولى الحذف ، الرمز إلى الغرض بألطف وجه وأرشقه ، وفي الثانية ما في التعريف من الفخامة وفي الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف ، وفي الرابعة الحذف ووضع المصدر هدي موضع الوصف. 18

         و لعمرك إنّ هذا النموذج من التفسير لهو نموذج يعلّمنا روح التفكير والتعمّق في دراسة النصوص دراسة علمية، ولذلك يمكن القول إنّ تفسير الكشاف يعلّم العقل والأدب.

          ـ. التحليل الأدبي

             ومن التحليل الأدبي الذي عرف به الزمخشري في تفسيره حيث كان يفسّر الآيات وكأنّه يحلّل النصوص الأدبية ما نجده في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء  ﴾19 حيث قال ما نصّه: ( قدّم سبحانه من موجبات عبادته وملزمات حقّ الشكر له خلقهم أحياء قادرين أوّلا لأنّ سابقة أصول النعم ومقدّمتها والسبب في التمكّن من العبادة والشكر وغيرهما ثم خلق الأرض التي هي مكانهم ومستقرهم الذي لابدّ منه وهي بمنزلة عرصة المسكن ومتقلّبه ثم خلق السماء التي هي كالقبّة الضرورية والخيمة المطنبة ... ومعنى جعلها فراشا وبساطا ومهادا للناس أنّهم يقعدون عليها وينامون ويتقلبون كما يتقلّب أحدهم على فراشه وبساطه ومهاده )20.

            وفي تفسيره للآية تحليل وليس مجرّد شرح ، فهو بعد أن حام بخياله وذكر أنّ الله خلق العباد للحياة ومن بعدهم الأرض والسماء ، ثم بيّن منزلة الأرض والسماء لحياة العباد ، عاد فشرح معنى الآية شرحا ظاهرا ولعلّ تحليله نتاج فهمه لنصوص قرآنية أخرى استغلّه في توسيع معنى الآية التي كان بصددها. 

               ومن التحليل الأدبي في منهجه بيانه للأثر النفسي الذي يتركه أسلوب الالتفات في وجدان ومشاعر   المتلقي ، حيث جاء في تفسيره لقوله تعالى: ﴿ الحمد للّه ربّ العالمين الرحمن الرحيم ملك يوم الدين إيّاك نعبد وإيّاك نستعين ﴾21 ما نصّه: ( ولأنّ الكلام إذا نقل من أسلوب إلي أسلوب كان ذلك أحسن تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للإصغاء إليه من إجرائه على أسلوب واحد ، وقد تختصّ مواقعه بفوائد وممّا اختصّ به في هذا الموضع أنّه لما ذكر الحقيق بالحمد وأجرى عليه تلك الصفات العظام تعلّق العلم بمعلوم عظيم الشأن حقيق بالثناء وغاية الخضوع والاستعانة في المهمات فخوطب ذلك المعلوم بتلك الصفات)22.

            و قد كان من حسنات هذا التحليل الأدبي أن استطاع الزمخشري ربط آيات الفاتحة ببعضها برغم اختلاف صور الالتفات فيها.

               وكذلك نلمس الروح الأدبية في تفسيره لقوله تعالى  : ﴿ واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ﴾23 حيث شرح الآيات شرحا بسيطا واضحا فقال ما نصّه : ( " واتل عليهم " على اليهود ، " نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها "هو عالم من علماء بني إسرائيل أوتي علم بعض الكتب فانسلخ منها ، من الآيات بأن كفر بها ونبذها وراء ظهره ، " فأتبعه الشيطان " فلحقه الشيطان وأدركه وصار قريبا له أو فأتبعه خطواته وقرئ فاتبعه بمعنى فتبعه ، " فكان من الغاوين " فصار من الضالين الكافرين...)24 

         والحقيقة أنّ التحليل الأدبي للنصوص هو الذي يسفر عمّا فيها من جمال وروعة بيان.

 

 

 

 

 

هوامش البحث

1 ـ  مهدي صالح السامرائي ـ تأثير الفكر الديني في البلاغة العربية ، المكتب الإسلامي ، دمشق ، ط1 : 1977م، ص161.2 ـ البقرة ، 07

3 ـ الزمخشري ، الكشاف ، ج1،ص26

4 ـ المصدر نفسه ، ج1، ص26.

5 ـ ينظر نفسه ، ج1 ، ص26.

6 ـ الزركشي بدر الدين ـ البرهان في علوم القرآن ـ ،ج1،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار الجيل ،بيروت،ط:1988م،ص488

7 ـ مصطفى الصاوي الجويني ـ منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه ، دار المعارف ، القاهرة،ط:1967م،ص164.

8 ـ الزمخشري ـ الكشاف ج1، ص88.

9 ـ السيوطي جلال الدين  ـ الإتقان في علوم القرآن، ج2،ص183.

10 ـ سيزا قاسم دراز وآخرون ـ الهرمينوطيقا والتأويل، دارتوبقال ، الدار البيضاء، المغرب ، ط2 : 1990م، ص61

11 ـ البقرة ، 05

12 ـ الزمخشري ـ الكشاف ، ج1، ص26.

13 ـ المصدر نفسه ، ج1، ص26.

14 ـ المصدر نفسه ، ج1، ص26

15 ـ هود ، 40 ـ 41.

16 ـ المصدر السابق ، ج2 ، ص 216.

17 ـ البقرة ، 1 ـ 4

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  المصادر والمراجع

 ـ القرآن الكريم

 1  ـ  مهدي صالح السامرائي ـ تأثير الفكر الديني في البلاغة العربية ، المكتب الإسلامي ، دمشق ، ط1 : 1977م

2 ـ الزمخشري جار الله ـ الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار المعرفة، بيروت، دون تاريخ.

3 ـ الزركشي بدر الدين ـ البرهان في علوم القرآن ـ ،ج1،تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم ، دار الجيل ،بيروت،ط:1988م،

4 ـ مصطفى الصاوي الجويني ـ منهج الزمخشري في تفسير القرآن وبيان إعجازه ، دار المعارف ، القاهرة،ط:1967م،

 5 ـ السيوطي جلال الدين  ـ الإتقان في علوم القرآن، دار الفكر، بيروت، دون تاريخ

6 ـ سيزا قاسم دراز وآخرون ـ الهرمينوطيقا والتأويل، دارتوبقال ، الدار البيضاء، المغرب ، ط2 : 1990م،

 

 


 

 

 

 

 

 

 

المصدر: د.الشارف لطروش
  • Currently 30/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
10 تصويتات / 2121 مشاهدة
نشرت فى 21 مارس 2011 بواسطة mouloud

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

99,242