كانت طفلة «شقية» تهوى التمثيل والغناء، وتلعب الجمباز، حتى أصبحت بطلة مدرستها في جميع الأنشطة الفنية والعلمية فى الوقت نفسه .. ولكن القدر لم يمهلها الكثير من الوقت لتسير حياتها كما تحب، فبعد تألقها فى إحدى الحفلات المدرسية أصيبت بالحمى الشوكية ترتب عليها فقدها السمع نهائيا من الجهتين.
وما بين دخولها في غيبوبة لعدة أسابيع وهي بنت 11 عامًا، وتخرجها في كلية الطب وتخصصها في الأمراض الجلدية قصص وتحديات وصعوبات تحكيها لنا – بعد 33 عاما من الصمت الإعلامي - الدكتورة فادية عبدالجواد – أول «صماء» تتخرج من كلية الطب في العالم –
قررت أن تكون دوما فخرا لأسرتها وليس مثارا للعطف والإشفاق، وأن يكون العلم هو سبيلها وسلاحها فى الحياة .
في 23 مارس عام 1973 وأنا فى الصف السادس الابتدائي أصبت بالحمى الشوكية بعد حفل مدرستى الكبير لعيد الأم مباشرة، والذى قمت فيه بالتمثيل والغناء وأيضا الباليه والجمباز، حيث كنت بطلة مدرستى فى جميع الأنشطة الفنية والثقافية وأيضا العلمية وكان عمرى وقتها 11 سنة وبضعة أشهر، ودخلت لعدة أسابيع فى غيبوبة، كانت كل حواسي مهددة وعندما أفقت - ومازلت أذكر تلك اللحظة كأنها حدثت بالأمس- كان والدي ووالدتي رحمها الله وأخوتى حول سريرى فى المستشفى، وكنت أرى شفاههم تتحرك ولكننى لا اسمع شيئا على الإطلاق - حيث نتج عن الحمى الشوكية صمم حسى عصبى كامل من الجهتين - وتخيلت أنهم يمزحون معى، حتى جاء والدى بورقة وكتب لى فيها أننى كنت مريضة جدا وفى غيبوبة وأن امتحان الابتدائية قريب جدا ، فنسيت كل ما حولى وطلبت فورا كتاب سلاح التلميذ لكى أذاكر للامتحان، ولكنهم رفضوا إحضاره لى خوفا على بصرى الذى كان مهددا أيضا.
وبعد خروجى من المستشفى وبعد انتهاء الامتحان وظهور النتيجة كان هناك فترة قصيرة من توتر وقلق وصدمة وعدم فهم لما يحدث لأن والدى حاول التخفيف عنى بإيهامى أنها فترة بسيطة - عدة أشهر وسيعود لى سمعى - وفى ليلة بكيت فيها حتى تورمت عيناى وقمت فتوضأت، وصليت وقرأت بضع صفحات من القران الكريم ثم حاولت النوم، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فى رؤية جميلة أضاءت قلبى وروحى- ولا تزال- بنور إلهى وشعور بالرضا وتقبل كل ما ياتى به الله سبحانه وتعالى مع العلم أننى كنت مازلت طفلة ونوعا ما طفلة شقية وصاخبة وانتقلت فى غمضة عين من عالم الصخب إلى عالم الصمت الرهيب، وأيضا ظللت لشهور لا أستطيع المشى بمفردى باتزان لأن العصب السمعى المسئول عن السمع الذى تأثر بالحمى مرتبط مع العصب المسئول عن الاتزان ، وكان أول تحد بالنسبة لى أن دربت نفسى على المشى فى حجرتى لعدة أسابيع ، ثم فاجأت أسرتى بقدرتى على المشى بمفردى دون أن أستند على الحائط كما كنت أفعل ويومها شعرت بروعة الانجاز وقررت أن أكون دوما فخرا لأسرتى وليس مثارا للعطف والإشفاق وأن يكون العلم هو سبيلى وهو سلاحى فلا سبيل لى غيره .
قراءة حركة الشفاه
وكانت أول عقبة واجهتها هى امتحان الإملاء فى الشهادة الابتدائية، حيث لم أكن قد نميت بعد قدرتى على قراءة حركة الشفاه والتى علمتها لنفسى فيما بعد، وكانت خير معين لى فى أغلب فترات حياتى، ورفضت عرض المدرسة بان أقوم بنقل قطعة الإملاء فى ورقة إجابتى إشفاقا منها على حالتى لأننى كنت قد تربيت على « من غشنا فليس منا» وكنت متفوقة، وكان اسمى فى الأسرة هو «نجاح « لتفوقى الدائم، ولم أجد أى مشكلة فى الإجابة على أسئلة المواد كلها رغم مرضى السابق للامتحان مباشرة، وحصلت على مجموع 95% فى الشهادة الابتدائية، وكانت الدرجات الناقصة بسبب الإملاء، وانتقلت إلى مرحلة أخرى فى حياتى.
بعد امتحان الابتدائية وتفوقي فيه وأيضا نصيحة اساتذتى لوالدي في مدرستى الابتدائية ونصيحة المدرسات في لجنة امتحان الابتدائية الذين كانوا يقرأون إجابتى وانبهروا بها ونصحوا والدى بان يهتم بي وأن يلحقنى بمدارس عادية وليس مدرسة للصم، والتحقت بمدرسة غمرة الإعدادية، وكنت الأولى على المدرسة فى الشهادة الإعدادية بمجموع 96%، «كانت الدرجات الناقصة بسبب مادة الرسم الذى لا أجيدة « ثم التحقت بمدرسة العباسية الثانوية، وكنت الأولى أيضا فيها بمجموع 97.5%، وفى هذه الأثناء علمت نفسى كل شىء وأتقنت قراءة حركة الشفاه، وكنت أظل أنظر فى وجوه الناس وفى التليفزيون واقرأ حركة شفاه المطربين والممثلين وساعدنى والدى وأخوتى فى ذلك وعلمت نفسى أيضا اللغة الانجليزية والفرنسية بمساعدة بسيطة من أخوتى الكبار.
الانطلاق نحو القمر
دراسة الطب كانت حلمى منذ وعيت على الحياة، ولم يتغير الحلم بعد مرضي، بل ازداد رسوخا وقوة، ولم التفت إلى الصعوبات، فهي مجرد أمور موجودة لكى نتغلب عليها فى النهاية، فالفائزون فى الحياة هم من يفكرون بطريقة: « أنا استطيع, أنا سأفعل, أنا سأكون»، وكان شعارى ولا يزال: «انطلق نحو القمر فحتى لو أخطأته فسوف تهبط بين النجوم»، وكنت أقول لنفسى أنا لست أقل من طه حسين أو هيلين كيلر وكلاهما كان يعانى أكثر منى وحقق انجازا مبهرا.. وفى الواقع بالنسبة للدراسة الجامعية فى كلية الطب فقد كان الأمر مختلفا تماما ووجدت أطنانا من الصعوبات، كانت كل خطوة وكل حركة وكل محاضرة وكل شىء تقريبا صعوبة فى حد ذاته، وكان الأمر بمثابة تحديا يوميا بمعنى الكلمة، ولولا طبيعة شخصيتى التى ترفض الاستسلام وتسلحى بإرادة لا تلين لكان هناك حديثا أخر، ولكن لأن كلية الطب كانت حلم حياتى ومستقبلى وكنت أنا «نجاح»، كنت أقضى نهارى كله فى الكلية والمشرحة والمعامل أحاول فك شفرات المناهج الصعبة والكتب، تلك الأيام لم تكن مبسطة كما هى الآن، ولم استفد كثيرا من المحاضرات لان إجادتى لقراءة حركة الشفاه باللغة الانجليزية كانت أقل كثيرا منها باللغة العربية، والدراسة والمحاضرات وكل شىء كان باللغة الانجليزية، وأيضا لم أجد مساعدة تذكر من اساتذتى فى الكلية، بل على العكس باستثناء أستاذنا الفاضل الدكتور على خليفة - رحمه الله- والدكتور طلعت الديب الذى علمت بعد سنوات من تخرجى انه لا يزال يذكر اسمى فى محاضراته وهو ينهر الطلبة ويقول لهم انه كانت عنده طالبة مجتهدة ولا تسمع وكل أمنيتها أن يبعد الميكروفون قليلا عن فمه لكى تقرأ حركة شفاهه فى أثناء المحاضرة .. وهكذا مضت أيامى وسنوات الدراسة الشاقة وكنت أدرس ليلا ونهارا، وعشقت دراسة الطب، وكان طلبة الطب بصفة عامة يموتون رعبا لأجل معرفة «إجابة» أسئلة امتحانات الشفوى، ولكن كانت مشكلتى أنا هى معرفة «السؤال» أما الإجابة فأنا كفيلة بها، وكم لاقيت من تعنت الأساتذة معى فى أثناء الامتحانات الشفوية!! وكم تم ظلمى فى الدرجات حتى أن الدكتور ماهر مهران - وزير الصحة الأسبق رحمه الله - كان يمتحنى فى النساء والولادة وقام (بعصرى) حرفيا مستنكرا وجودى فى كلية الطب وفى نهاية الامتحان سألنى سؤالا اعتبره هو صعبا جدا وأجبت عليه فورا ببساطة تامة، فقال لى أنه سأل نفس السؤال لطالب ماجستير فلم يعرف الإجابة، وقام من كرسيه وحيانى واقفا وابتسم لى قائلا اذهبى ربنا يوفقك، وكان يوما من أيام انتصارى، ورغم كل العقبات التى واجهتنى فى حياتى إلا أننى لم أشعر يوما أنى معاقة، لإيننى أرفض كلمة «معاق» من الأساس، واستطعت بفضل الله أن أمحها من قاموسى، وأسعى حاليا جاهدة لمحوها من مفردات المجتمع
رحلة العمل
تخرجت في كلية الطب عام 1986 بدون أي رسوب في أي عام أو حتى تقدير مقبول في أي مادة، وكانت أمنيتى التخصص فى « النساء والولادة» ولكننى حصلت على نيابة أمراض جلدية من مستشفى منشية البكرى- والآن أعمل استشارى أمراض جلدية، وعملت بعد تخرجى فى مركز رعاية الأمومة والطفولة، ثم استقلت وسافرت للخارج، وعندما عدت تعاقدت مع التأمين الصحى بعد لقائى بالدكتورة ضحى الصاوى مديرة التأمين الصحى وقتها وتم ترشيحى للعمل فى التفتيش والمراجعة الفنية، وعملت 3 سنوات بمجمع التوفيق فى باب الشعرية، بعدها فضلت أن أكون طبيبًا حراً وعملت فى المراكز الطبية الخاصة ثم عيادتى ومركزى الطبى الخاص.
وكنت قد تزوجت في أثناء دراستي وأنجبت ابنائى الأربعة ولدين وبنتين «هم أغلى وأثمن ما لدي في الحياة» وانشغلت بالأبناء،
وفي عام 2006وبالحاح من ابنتى الكبرى الغالية وبعد 33 عاما من فقدانى السمع أجريت عملية زراعة القوقعة الأولى، ولأول مرة اسمع أصوات أولادى وأسمع كلمة «ماما» ويا له من شعور عارم غامر!!، وتغيرت حياتى تماما، ولم يكن أحد يعرف بحالتى إلا دائرة ضيقة جدا من الأقارب، وكنت أتعامل مع الناس بصورة طبيعية، لكن ما أروع الدنيا، وما أصعب عالم الصمت الذى كنت أعيش فيه، وفى فبراير الماضى عام 2014 أجريت عملية القوقعة الثانية، وصرت اسمع بكلتا الإذنين، وخرجت بالكامل من عالم الصمت الموحش الكئيب إلى عالم الأصوات والبهجة والروعة التى لا توصف، لا يمكن حقا وصف ما أشعر به بعد41 عاما من الصمم أصبحت أسمع أدق الأصوات ومن جميع الاتجاهات، وفى المستشفى علمت من اطبائى - وبصراحة كنت أعلم من قبل- أننى الطبيبة الوحيدة فى العالم أجمع التى تخرجت فى كلية الطب بحالتى تلك وأن هناك طبيبًا تخرج حديثا فى كلية من أمريكا ولكنه قام بزرع قوقعتين قبل دخوله كلية الطب التى وفرت له كل وسائل المساعدة لحالته وبعد تخرجه أقامت له الاحتفالات وحفلات التكريم التى لا تزال مستمرة.
حلم للمستقبل
وهناك نصيحة فى غاية الأهمية لمن فى مثل حالتى، وهى ألا يلقوا بالا لمعاول الهدم وبعض النفوس الشريرة التى تمتلىء حسدا وغيرة عندما ترى تميزا وانجازا ونجاحا فتحاول هدمه وهدم صاحبه لأنها لا تستطيع أن تقوم بمثله ..
أحلامى العامة ترتدى أجنحة ولا حدود لها خاصة الآن، فانا أشعر بعد العملية الثانية بطاقة هائلة لا توصف، وأشعر أنى أعود لشبابى وأريد أن أقدم تجربتى للناس وللأطفال خصوصا ليستفيدوا منها، ولتكون عونا لهم ودافعا للأمل والإرادة والتحدى، وانه لاشىء مستحيل مطلقا، مع العلم أن عمرى الآن 53 عاما، لكن أشعر أنى فى العشرين، وقد كنت أتجنب الإعلام طيلة حياتى فقد كانت لى تجربة سابقة ليست لطيفة وأنا فى أول دراستى الجامعية، والآن تغيرت نظرتى للناس وللحياة عموما فليس لدى فى حياتى إلا ما أفخر به، وبلدنا الآن يحتاج إلى جهد كل منا واشعر أن لدى الكثير لأقدمه للناس، وكان لدى حلم سابقا وهو أن افتتح عيادة فى منطقة شعبية وأن أقدم خدمة طبية ممتازة للناس البسطاء وبسعر رمزى وهو حلم حققته والحمد لله منذ سنوات طويلة واشعر بالسعادة والرضا عن الذات فى عيادتى تلك وبأ كثر مما أشعر بها وأنا أعمل فى مكان أكثر رقيا ورفاهي .
والآن ومن منبركم الوقور المحترم أتوجه إلى كل المعنيين بالأمر أنى على أتم استعداد للتعاون والتواصل مع أى شخص يحتاج للمساعدة والدعم والتشجيع خصوصا الأطفال الذين يعانون مشاكل السمع وأطفال القوقعة قبل وبعد الزرع، أتوجه لكل أطباء السمعيات وكل شركات القوقعة وكل الجمعيات الخيرية وكل من يتعامل مع أصحاب مشاكل السمع ليجمعونى بهم وأنا حاليا أتواصل مع الكثير منهم وأريد أن أتواصل مع المزيد والمزيد فلدى الكثير فعلا لأقدمه لهم وحان الوقت لذلك .
وأما أحلامي الخاصة فهي أن يوفقني الله إلى ما يحبه ويرضاه وأن يبارك لي في أسرتي وأولادي ويحفظهم ويرزقنى برهم ويبارك لي في أحفادي فانا جدة لـ 3 أحفاد أن يبارك لي في زوجي الذى أكرمنى الله به بعد رحلة معاناة ويوفقني لإسعاده .
وفي النهاية أحب أن أتوجه بالشكر الخالص إلى والدي بارك الله في عمره على مساندته وتشجيعه والتي مازلت انهل منها حتى الآن، وإلي أخوتي وأزواجهم وأولادهم التي احاطتنى دوما دعواتهم خصوصا في عمليتي الأخيرة، وإلى كل أساتذتى الكرام. واطبائى الدكتورة منى العوضى والدكتور حسن وهبة والأستاذ محمد إبراهيم وهم من شجعوني لأخرج للعالم وأقدم تجربتى الفريدة للناس ليستفيدوا منها .
ساحة النقاش