المبحث الرابع: أقسام القياس.
يقسم العلماء القياس إلى: قياس عقلي، وقياس شرعي، وهناك تلازم في بعض ما يدل عليه كل منهما، إلا أن هذا الفصل موضوع للقياس عند الفقهاء فلا يشمل القياس المنطقي العقلي.
ولكن حيث تبين لي أن ابن حزم لم يرفض القياس المنطقي العقلي، لذا أحببت أن أعرض لشيء من ذلك ابتداءاً حتى يتم فهم رأي ابن حزم في إنكاره القياس فالقياس العقلي عنده أشبه بالنص؛ فلذا قبله، وحيث يفهم حقيقة ذلك لابد أن نتعرف على حاصل القياس عند الأصوليين وعند المناطقة.
يقول الشيخ عيسى منون:( حاصل القياس في نظر الأصوليين كما علمت يرجع إلى الاستدلال بحكم شيء على شيء من غير أن يكون أحدهما أعم من الآخر ويسمى ذلك عند علماء المنطق بالتمثيل فيخصون اسم القياس بالاستدلال بحكم العام على الخاص... فعندهم أنواع الاستدلال ثلاثة: الاستدلال بحكم جزئي على آخر وهو القياس الأصولي ويسمى بالتمثيل، والاستدلال بحكم جزئي على كلي ويسمى بالاستقراء، والاستدلال بحكم كلي على جزئي ويسمى بالقياس قال الغزالي: تسمية المنطقيين لهذا بالقياس ظلم على الاسم وخطأ على الوضع، فإن القياس في وضع اللسان يستدعي مقيساً ومقيساً عليه لأن حمل فرع على أصل لعلة جامعة )([1]).
ولقد اعتبر ابن حزم القياس الأصولي هو الاستقراء وجعل من هذا أساساً لهدم الأول، كما لم يشر إلى التمثيل مع أنه هو الشبيه بالقياس الأصولي([2]).
وعقد ابن حزم باباً في كتابه هذا لهدم الاستقراء لأنه يرى أن هذا هو القياس الأصولي وفي ذلك يقول: باب ذكر أشياء عدها قوم براهين وهي فاسدة وبيان خطأ من عدها برهاناً، فمن ذلك شيء سماه الأوائل "الاستقراء" وسماه أهل ملتنا "القياس"([3]).
ثم أخذ يهدم الأول وهو الاستقراء لهدم الثاني وهو القياس الذي يراه شبيهاً بالاستقراء وسرد الأدلة على ذلك([4]).
ثم قال بعد هذا: وأن لا يسكن إلى الاستقراء أصلاً إلا أن يحيط علماً بجميع الجزئيات التي تحت الكل الذي حكم فيه، فإن لم يقدر على ما لم يشاهد، ولا يحكم إلا على ما أدرك دون ما لم يدرك، وهذا إذا تدبرته في الأحكام الشرعية نفعك جداً، ومنعك من القياس الذي غر كثيراً من الناس ومن الأئمة الفضلاء الذين غلط بغلطهم ألوف ألوف من الناس([5]).
ثم في موضع آخر يتهم الأصوليين بأنهم أخذوا الاستقراء وسموه قياساً فيقول: واعلم أن المتقدمين سموا المقدمات "قياساً" فتحيل إخواننا القياسيون حيلة ضعيفة سوفسطائية بأن أوقعوا اسم القياس على التحكم والسفسطة فسموا تحكمهم بالاستقراء المذموم قياساً، وسموا حكمهم فيما لم يرد فيه نص بحكم شيء آخر ورد فيه نص لاشتباههما في بعض أوصافهما قياساً واستدلالاً وإجراء للعلة في المعلول، فأرادوا تصحيح الباطل بأن سموه باسم أوقعه غيرهم على الحق الواضح([6]).
مع أن الأصوليين يفرقون بين الاستقراء وبين القياس، فهذا الإمام الرازي يقول: الاستقراء والفرق بينه وبين القياس أن الاستقراء عبارة عن إثبات الحكم في كلي لثبوته في بعض جزئياته والقياس عبارة عن إثباته في جزئي لأجل ثبوته في جزئي آخر([7]). وفي حقيقة الأمر فهناك فوارق أخر بين القياس الأصولي والقياس الأرسطي يتمثل في الآتي:
أولاً: إن القياس المنطقي قول مؤلف من مقدمتين أو مقدمات إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر والعالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث أو النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام، فالنبيذ حرام.
أما القياس الأصولي فلا يلزم منه ذلك لأنه قد يكون مؤلف من مقدمة واحدة كمن يعلم أن السكر حرام فإنه لا يحتاج في حكمه على النبيذ بأنه حرام إلى قول آخر سوى قولنا إنه مسكر.
ثانياً: إن القياس المنطقي لا يعتبر دليلاً شرعياً عند الأصوليين لأن المقصود منه بيان التلازم العقلي بخلاف القياس الأصولي فإنه مثبت للأحكام الشرعية.
ثالثاً: القياس المنطقي لا اجتهاد فيه، بخلاف القياس الأصولي فإنه قائم على الاجتهاد وإعمال الفكر.
رابعاً: القياس المنطقي استدلال بالكلي على الجزئي بخلاف القياس الأصولي فإنه استدلال بالجزئي على الجزئي كما تقدم عن الغزالي.
خامساً: أن المناطقة يخصون القياس الأصولي باسم قياس التمثيل وهو يفيد الظن بخلاف القياس المنطقي فإنه عندهم لابد وأن يفيد اليقين([8]).
ومن هنا أنكر ابن حزم الاستقراء أو قياس الشمول على الرغم من وجود فروق بينه وبين القياس الأصولي والله أعلم.
أنواع القياس الأصولي:
وأما أنواع القياس الأصولي، فيمكن أن نفهمها بتدرج ظهورها في كتب الأصوليين بدءاً من الرسالة للشافعي التي تعد أول مصنف في هذا العلم (علم الأصول) وقد قسم الشافعي القياس إلى نوعين:
1- أن يكون الشيء في معنى الأصل، فلا يختلف القياس فيه.
2- أن يكون الشيء له في الأصول أشباه، فذلك يلحق بأولاها به وأكثرها شبهاً فيه وقد يختلف القياسيون في هذا([9]).
ويذهب الشافعي – رحمه الله – يستدل على تقسيماته للقياس بشواهد منها:
أن أقوى القياس أن يحرم الله في كتابه أو رسوله القليل من الشيء، فيعلم أن قليله إذا حرم كان كثيره مثل قليله في التحريم أو أكثر بفضل الكثرة على القلة...وإذا أباح كثير شيء كان الأقل منه أولى أن يباح.. ([10]).
ثم تتضح فكرة التقسيم للقياس مع الآمدي فيقسم القياس كالآتي:
القسمة الأولى:
حسب المعنى الجامع هل هو في الفرع أولى منه في الأصل، أم هو مساو ؟ أم هو أولى.
ويمثل للأول: تحريم ضرب الوالدين بالنسبة إلى تحريم التأفيف لهما أو ما في معناه، وسواء كان قطعياً أو ظنياً.
وللثاني: بإلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق.
والثالث: كما في إلحاق النبيذ بالخمر في تحريم الشرب وإيجاب الحد.
القسمة الثانية:
ويقسمها إلى جلي وخفي.
ويقسم الجلي لقسمين:
الأول: ما كانت العلة فيه منصوصة، ومثاله: كإلحاق تحريم الوالدين بتحريم التأفيف لهما، بعلة كف الأذى عنهما.
والثاني: ما كانت العلة غير منصوصة ومثاله كإلحاق الأمة بالعبد في تقويم النصيب.
وأما القياس الخفي: فما كانت العلة فيه مستنبطة من حكم الأصل، كقياس القتل بالمثقل على المحدد.
القسمة الثالثة:
قسمها إلى مؤثر وملائم، وقسم المؤثر باعتبارين:
1- ما كانت العلة الجامعة فيه منصوصة بالصريح أو الإيماء أو مجمعاً عليها.
2- ما أثر عين الوصف الجامع في عين الحكم، أو عينه في جنس الحكم، أو جنسه في عين الحكم.
وأما الملائم: فما أثر جنسه في جنس الحكم، وذهب يذكر بعض وجوه الخلاف.
القسمة الرابعة: قسمها إلى:
قياس علة: ومثاله كالجمع بين النبيذ والخمر في تحريم الشرب بواسطة الشدة المطربة، ونحوه.
قياس الدلالة: ومثاله كالجمع بين النبيذ والخمر بالرائحة الفائحة الملازمة للشدة المطربة، وهكذا.
القياس في معنى الأصل: مثاله إلحاق الأمة بالعبد في تقويم نصيب الشريك على المعتق بواسطة نفس الفارق بينهما.
القسمة الخامسة: ويقسمه إلى:
( قياس الإحالة ـ الشبه ـ السبر ـ الاطراد)([11]).
ومن الواضح أن بعض هذه الأقسام يتداخل، لذا فقد أبرز المتأخرون هذه الأنواع في صورة أخرى بقسمة ثلاثية هي:
1- باعتبار قوته وضعفه: ويقسمه إلى جلي وخفي.
2- باعتبار ذكر العلة فيه وعدم ذكرها، ويقسمه إلى: علة، دلالة، ومعنى.
3- باعتبار درجة الجامع في الفرع: ويقسمه إلى: كون الجامع في الفرع أقوى منه في الأصل، وكون الجامع في الفرع مساوياً له في الأصل، وكون الجامع في الفرع أدون منه في الأصل([12]).
ويمكن أن يجمع ذلك كله في تقسيم القياس على ضربين:
- المنصوص على علته.
- المستنبط للعلة والله أعلم.

