جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الليبراليون في مصر وفن القراءة بالمقلوب
يتعذر على المرء أحيانًا فَهْم وجهة نظر بعض الكُتَّاب الذين استمرءوا توجيه النقد إلى التيارات الإسلامية بعامة والإخوان المسلمين والدعوة السلفية بوجه خاص، وخصوصًا في تلك الآونة التي علت فيها بعض الأصوات الليبرالية واليسارية، محذرةً من خطورة الإخوان والسلفيين.
وسبب الاستغراب أو تعذُّر فهم وجهة نظر هؤلاء الكتاب هو مخالفتهم لجماهير العقلاء في كل صقع وصوب، فبينما يتفق العقلاء في مختلف العصور على أن الدين محرك أساسي للشعوب، وأن قضية إثبات الإله الواحد مسلَّمة فطرية عقلية، تُعِين المرء على التصور الصحيح لكثير من مجريات الأمور بمختلف مناحيها سياسية أو اقتصادية أو أدبية، إذا بك ترى بعض الليبراليين يعدُّ هذا الأمر ثغرة يجب سدها، وشعورًا سلبيًّا في وجدان الشعب المصري الأبيّ؛ بحجة أن التيارات الدينية المحافظة تحاول السيطرة على الشارع وعلى السلطة من خلال تلك الثغرة المزعومة.
لقد بلغ بأحدهم وقد خرج علينا في عموده حزينًا آسيًا على الإسكندرية، مُطلِقًا عليها إمارة الإسكندرية في تحريض رخيص لا يخفى؛ لكونه خرج يوم جمعة فوجد الناس كلهم متجهون إلى المساجد لأداء فريضة الصلاة، فكأن الشعور الديني أصبح عيبًا أو تهمة عند هؤلاء الناس! وفي الوقت الذي يتفق فيه عقلاء الشعب ومؤرخوه على أن المد الليبرالي لم يظهر في مصر كتيار مستقل له منظروه والقائمون على نشره إلا بعد دخول الاحتلال الغربي إلى مصر، سواء أكان احتلالاً مباشرًا كالذي حدث بعد هزيمة عرابي، أو غير مباشر كما كان يجري بعد خروج الإنجليز من مصر، وسواء من اعتمدوا -يعني الليبراليين- النظرية الأوربية بحذافيرها، أو هؤلاء الذين حاولوا إيجاد صلة وخيط ولو رفيعًا بين الإسلام كدينٍ يحض على الحرية والمساواة والعدل، والليبرالية التي تقوم في أساسها على الحرية في جميع مناحي الحياة.
في هذا الوقت، نرى بعض الليبراليين يتكلم عن المد الإسلامي والتيارات الإسلامية وكأنهم أغراب قد أتوا إلينا من المملكة العربية السعودية، أو خيام البدو كما يحلو لبعضهم تسميته، وفاته أن مصر قادت الشعوب الإسلامية عربية كانت أو غير عربية من القرن السابع الهجري وحتى تلك اللحظة الراهنة، قيادة دينية وعسكرية وسياسية واقتصادية، فأي صحوة دينية فمِن مصر خرجت، وأي مد ديني فمن مصر ترعرع، لا شأن في ذلك بفتاوى شيوخ السعودية أو غيرهم من المشايخ على اختلاف بلادهم وأوطانهم، وإنما قد تتشابه بعض الآراء تبعًا لتوحُّد أصل الاستدلال بالكتاب والسنة، وفق القواعد الشرعية المعمول بها نصًّا واستنباطًا.
وفي الوقت الذي يتفق فيه العقلاء من مؤرخي مصر الحديثة على أن الإسلاميين وبخاصة الإخوان المسلمون قد مارسوا العمل السياسي تأصيليًّا وعمليًّا من بداياتهم، حيث رشح الشيخ حسن البنا مرشد الجماعة الأول نفسه في الثلاثينيات والأربعينيات، وظل الإخوان على ذلك حتى الآن اللهُمَّ إلا في أحلك فترة شهدتها مصر من كبت الحريات وفتح السجون إبان الفترة الناصرية، ثم في عهد الرئيس المخلوع حسني مبارك، ترى بعض الليبراليين يتكلم عن تأسيس حزب الإخوان على أنه انقلاب على مبادئهم القاضية بعدم ممارسة العمل السياسي، وبعضهم يصف ذلك الحدث بالمفاجأة، كما طالعتنا جريدة المصري اليوم عن كاتبة معروفة بهذا الكلام.
وفي الوقت الذي يتفق فيه العقلاء الذين يسمعون ويقرءون على أن رغبة السلفيين عن ممارسة العمل السياسي إنما كان اعتراضًا منهم على آلية العملية السياسية في العهد البائد، ترى بعض الليبراليين يجعل هذا من التناقض وركوب الموجة..!
وفي الوقت الذي يتفق عقلاء الأمة ومؤرخوها في العصر الحديث على أن أكبر تيار تعرض للتهميش بل والسجن والتعذيب والقتل من الأنظمة المستبدة ابتداءً من الناصرية وحتى نهاية عهد مبارك هو التيار الإسلامي، يخرج علينا بعض الليبراليين ليزعم أن الليبراليين هم من تركوا الساحة للإخوان والجماعة الإسلامية، وكأن هذا المتكلم يعيش في كوكب آخر.
وفي الوقت الذي يتفق فيه العقلاء بأن ثلاثين عامًا بل أكثر من ذلك كافية لتكوين أحزاب سياسية ذات مرجعية متينة، وتأصيلات رصينة، وهي أيضًا -يعني الثلاثين سنة- كافية بتمزيق أي صف تعرض لما تعرض له التيار الإسلامي، نرى بعض الليبراليين يشتكي من أن الأحزاب لم تستعد بعد لخوض الانتخابات، وأن الفترة الباقية حتى إجرائها غير كافية... إلخ، تلك الدعاوى العجيبة التي تنبئ عن إفلاس سياسي غير مسبوق.
وفي الوقت الذي يتفق فيه العقلاء على أن كلمة السلفي هي مرادفة لكلمة مسلم؛ لأن قاعدة السلفي هو من يرجع الأحكام إلى الله تعالى ورسوله سواء القطعيَّة اليقينية كالمتعلقة بوجود الله ورسالة الرسول وقدسية القرآن.. إلخ، أو المختلف فيها كالأحكام الفقهية الفرعية مثل حكم الموسيقى والغناء والتدخين ونحو ذلك فينادي بالأولى من غير قسر ولا إكراه، ويحتمل الخلاف في الثانية بكل صدر رحب.. في هذا الوقت ترى بعض الليبراليين يتكلم عن السلفية وكأنها مذهب جاء من خارج أرض مصر، بل وبعضهم يعدُّه ذيلاً من ذيول بعض الفرق الفاسدة في التاريخ الإسلامي كالخوارج مثلاً، ويحاول إلصاق كل تهمة وعيب فيه، وما حادثة قطع أذن النصراني بالمنيا أو التهديد بهدم قباب وقبور أولياء الله تعالى الصالحين منا ببعيد!
وفي الوقت الذي يتفق فيه منظرو السياسة من لدن أرسطو وأفلاطون إلى أن تحمل نتائج العملية الديمقراطية ولو كان غير مرضيًا، أفضل وأحسن عائدة بكثير من محاولة الانقلاب على الديمقراطية، نرى الليبراليين تثور ثائرتهم بعد نتائج الاستفتاءات على تعديل الدستور، إلى الحد الذي جعل بعضهم ينادي بجعل صوت المثقف (الليبرالي) بصوت اثنين من غيره (يعني عموم الشعب). أي تناقض؟! وغير ذلك كثير لا يتسع المقام للكلام عنه وتفنيده.
إن الناظر لما يحدث من بعض الكتاب الليبراليين، وتلك الهجمة المتوحشة على التيار الإسلامي بمختلف توجهاته يتضح له أمور:
أوَّلها: أن هذا التيار لا يتمتع بمصداقية في الشارع المصري، ولو كان الأمر كذلك لاستجاب له الشعب برغم أنه سخر قنواته الحكومية وغير الحكومية في الترويج لفكرة رفض التعديلات الدستورية، مستعينًا في ذلك ببعض الوجوه المتوهم أن لها شعبية في قلب الشارع المصري المثقف الأبي، فخرجت النتيجة بما يظهر اتجاه الشعب وإرادته الواعية الصادقة ومحددة بكل دقة وحدة مدى تواجد تلك الوجوه المسماة بالنُّخبة في قلب وعقل كل مصري.
ثانيها: إن هذا التيار كان سببًا رئيسًا في ذاك الوضع المتردي للممارسة الديمقراطية في الحقبة الماضية، وإذا كانوا قد انقلبوا هذا الانقلاب الحاد على نتائج الاستفتاء علنًا وبغير مواربة وفي هذا الوقت العصيب، فما الذي كان يحدث وراء الجدران عند تغييب الشعوب وقتل الآراء الحرة ودفن العقول المستنيرة في تلك الحقبة السابقة، وبخاصة مع علاقتهم المعروفة بالنظام السابق ووصفهم بالنخبة المثقفة؟!
ثالثها: إن الشعب المصري لا بد أن يكون يقظًا فطنًا لما يحاك له، وأنه لا بد أن يحافظ على مكتسباته الشرعية، ولو أدى الأمر لخروجه في ثورة ثانية. وإذا كانت ثورة 25 يناير ضمت ما لا يقل عن 8 مليون مصري، فإن هذه المرة لن تكون أقل من 40 مليون مصري وهم من صوَّتوا بنعم في التعديلات الدستورية.
وأنا أعلم أن تلك الأصوات إنما هي في الواقع أصوات نشاز من كثرة عاقلة وطنية مخلصة في التيار الليبرالي، لكنهم ذوو صوتٍ وتصدُّر وظهور في وسائل الإعلام سواء المكتوبة أو المرئية أو المسموعة؛ مما ينذر بنذير شر على تلك الأمة المصرية العظيمة الأبية.
ولذا فإنَّا ندعو كل الأطياف العاملة في الحقل السياسي في مصر، بصرف النظر عن توجهاتهم إسلامية أو ليبرالية أو يسارية أن يتعاونوا ويتآزروا؛ بُغية إخراج مصر من ذاك المـأزق التاريخي، والسير بها في ردهات المجد وآفاق التحدي، وإلاّ فإنا نسير في نفقٍ، الله وحده يعلم أين يذهب بنا.
بقلم /
أشرف صلاح علي
المصدر: موقع مفكرة الإسلام.
ساحة النقاش