د. محمد جمال حشمت |
بقلم: د. محمد جمال حشمت
منذ أن تولَّى العسكر حكم مصر، وبدأت أرصدة العلماء والأدباء والمثقفين في مصر في الهبوط!، وكلما توارث العسكر الحكم وأسسوا لدولة بوليسية تتحكَّم في إدارة الحياة المدنية، قلَّ احتياج المجتمع لعقول أبنائه التي هجرت أهلها تحت ضغوط الإهمال والتعسف، وتولَّى الأقزام شئون الحياة العلمية والثقافية والتعليمية، فانتشر العسكر في كل المؤسسات، وكلما زاد الحاجز الفاصل بين الحكام والشعب اتسع مجال الاستعانة بالعسكر وغير المتخصصين من أهل الثقة، حتى وصل الرقم اليوم إلى أن أكثر من 60% من قيادات المحليات والمؤسسات والهيئات من رجال الجيش والشرطة، مهما كان المجال تنفيذيًّا محليًّا أو ثقافيًّا أو إعلاميًّا أو فنيًّا! حتى نفد الرصيد ولم يبقَ أمام المتميزين سوى الهجرة أو الإحباط والصمت أو الاستسلام لتحكمات السفهاء!.
ولعل الحال التي وصل إليها أستاذ الجامعة وهو من هو في زمنٍ مضى- حيث القيمة والكبرياء والقامة والدور المهم الذي يقود المجتمع في الحاضر ويربي ويَرعَى قيادات المستقبل- هي ترجمةٌ فعليةٌ لما وصل إليه الحال في مصر المقهورة المحبوسة بيد العسكر!.
لقد فكرت العصابة الحاكمة كيف تميِّز نفسها ومن ينحاز إلى صفِّها بشكل انتقائي، مع الحفاظ على مستوى بقية الشعب تحت سيف الحاجة ورعب الفقر ومناخ الخوف!، ثم دبَّرت ونفَّذت فتوقَّفت التعديلات التشريعية التي تحسِّن من أوضاع العاملين في الدولة المالية، وكانت كل التعديلات في العقوبات ووضع العراقيل لضمان السيطرة على كل فئة!.
فعلى سبيل المثال نال التعديل المواد الخاصة بأساتذة الجامعات المتفرِّغين لاستبعادهم على يد الدكتور حسين كامل بهاء الدين عام 1995م، وإلغاء انتخاب العمداء وتعيينهم؛ لمزيد من السيطرة، وتزامن معه تزوير انتخابات نوادي أعضاء هيئة التدريس وحل النوادي التي لم تحظَ برضا الحكام!، بل وصل الحال إلى التدخل والتأثير في لجان الترقيات لتمنح وتمنع من تشاء، ولم يفكر أحد في مجرد النظر لجدول الأجور التي أدَّت إلى مهزلة تأبَى توفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة لأستاذ الجامعة.
ولعل تجربتي الشخصية خيرُ دليل، فقد حصلت على الدكتوراه عام 1992م وفي عام 1998م تقدَّمت للترقية لدرجة أستاذ مساعد، وقدَّمت أكثر من الأبحاث المطلوبة ونشاطًا علميًّا ومهنيًّا كبيرًا، لكن بعد أن حصلت على نسب النجاح المطلوبة تمَّ التعديل والشطب في أوراق النتيجة وتأجيل منحي الدرجة حتى أقدم بحثين آخرين، وتسلَّمت النتيجة بكل ما فيها من تزوير؛ ما أصابني بإحباط في بداية ترقياتي ثمَّ تمَّت الترقية عام 2000م قبيل انتخابات مجلس الشعب الذي أشرف عليها القضاة لأول مرة، ونلت ثقة الشعب الأصيل في دائرة دمنهور وزاوية غزال، وانشغلت طوال السنوات التالية، ولم أتمكَّن من التقدم عام 2005م للحصول على درجة أستاذ؛ نظرًا للانتخابات وما حدث فيها من فجور وتزوير فاضح! وأخيرًا تقدَّمت في شهر سبتمبر 2009م وأنا في قبضة الأمن معتقلاً في سجن برج العرب وقبل المناقشة بوقت بسيط تمَّ الإفراج عني لأتمكَّن بفضل الله من مناقشة أبحاثي مع أساتذة لجنة الترقيات وحصلت على درجة الأستاذية بعد ثلاثين عامًا في سلك الجامعة حصلت على قرار الترقية المالي، وكان كالتالي:
بعد الاطلاع على القانون رقم 49 لسنة 1972م بشأن تنظيم الجامعات والقوانين المعدلة له قرَّر:
- مادة أولى: تعيين السيد الدكتور محمد جمال حشمت في وظيفة أستاذ في الدرجة 140/202,75 جنيهًا وبماهية شهرية قدرها 490,13 (متضمنة مبلغ 299,88 جنيهًا قيمة العلاوات الخاصة من عام 87 حتى عام 2004) وذلك اعتبارًا من 13/1/2010م.
- مادة ثانية: على الجهات المختصة تنفيذ هذا القرار توقيع رئيس جامعة الإسكندرية يعني بعد الخصم أصل الراتب حوالي 191 جنيهًا بعد 30 سنةً خدمةً لجدول مرتبات كان يومها يتمنَّى كل قضاة مصر أن يتساوى مع أساتذة الجامعات! اليوم يحتاج النظام إلى صمت القضاة بعد أن ذاق من أحرارهم الأمرَّيْن فضحًا لأدائه الفاسد من اختلاسات والظالم من تزوير وانتهاكات، فأمر الرئيس وزير المالية بالنظر في مرتبات القضاة مع رئيس المجلس الأعلى ووزير العدل!.
أما الأساتذة الذين أهملهم النظام منذ أكثر من خمسين عامًا وتدخَّل في شئونهم الخاصة والأكاديمية فلم يستجب لحقهم في تعديل الرواتب، رغم القرارات الوزارية من رئيس مجلس الوزراء لتعديل رواتب البنوك المتخصصة، مثل بنك تنمية الصادرات، وهيئات الطيران المدني، وشركة الاتصالات، ووزارة المالية، دون تعديلات تشريعية يتحجَّجون بها لزيادة رواتب الأساتذة والأطباء، وغيرهم ممن ضاع حقهم في ظل النظرة المتدنية للإنسان المصري!.
ورغم أن المادة 271 من اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم الجامعات تنص على أن "المصروفات الجامعية لطالب الانتظام عشرة جنيهات وخمسة وسبعون قرشًا، وطالب الانتساب اثنا عشر جنيهًا وخمسة وعشرون قرشًا" فإن حكومات الفساد والظلم لم تحترم هذا النص كما فعلت في الرواتب، بل وصلت المصاريف الآن إلى مئات الجنيهات، بل تجاوزت الآلاف لطلبة الانتساب، وهو ما يجعل دعوة الطلاب للامتناع عن دفع ما يزيد عما جاء فى القانون الأعرج واجبةً، حتى لو استلزم أحكامًا قضائيةً تفضح الكيل بمكاييل متعددة لهذا النظام المتخبط، خاصةً في وجود نص الدستور في المادة 18 "أن التعليم حق تكفله الدولة" والمادة 20 التي تنص على أن "التعليم مجاني في المراحل التعليمية المختلفة".
فهل يهبُّ الجميع أساتذةً وطلابًا للمطالبة بحقوق بديهية في ظل التعنُّت والتعسف والاستبداد الذي يمارسه النظام المصري ضد أبنائه الذين لم يُقدِموا على اختياره بإرادتهم مرةً واحدةً في انتخابات نزيهة؟! وهل يبدأ الأساتذة في تجميع أنفسهم لفرض مطالبهم على نظام السفه والإنفاق في غير محله أم سنبقى في حالة استجداء من نظام لا يملك إلا العضلات بعد أن فقد عقله، بل دخل في صراع مع عقول الوطن؟ فهل تحمل الأيام القادمة إرهاصات وعلامات الحياة لدى الأساتذة؛ في محاولةٍ لإعادة شحن رصيدهم أم سنبقى بلا رصيد؟!
ساحة النقاش