قصة عجيبة ومؤثرة وموحية، تذكرتها ونحن نتابع الآن بقلق وحزن هذا التراشق الإعلامي بين قوى الساسة والثوار؛ الذين جمعتهم القواعد الطيبة في الميدان وفرقتهم الرموز المتوثبة في الندوات المكيفة والتلاسن في برامج (المَكْلَمَات الفضائية) والمسماه ببرامج (التوك شو)!؟.

عن الحارث بن يزيد البَكري، قال: "خرجت أشكو العلاء بن الحضرمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمررت بالربذة ـ وهي قرية قريبة من المدينة ـ فإذا عجوزٌ من بني تميم منقطِعٌ بها، ـ أي ليس معها من يحملها إلى ما تريد ـ فقالت: يا عبدَ الله، إن لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجةً، فهل أنت مُبَلّغِي إليه؟. قال: فحملتُها، فأتيتُ المدينةَ، فإذا المسجد غاصٌّ بأهله، وإذا رايةٌ سوداءُ تخفقُ، وبلالٌ مُتقَلِّدٌ السيفَ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلتُ: ما شأنُ الناسِ؟. قالوا: يريدُ أن يبعثَ عمرو بن العاص وَجْهاً.

قال: فجلستُ، قال: فدخلَ منزلَهُ أو قال رحلَهُ، فاستأذنتُ عليه، فأذنَ لي، فدخلتُ فسلّمْتُ، فقال:

(هل كان بينكم وبين بني تميم شيءٌ).

قال: فقلتُ: نعم، قال: وكانت لنا الدَّبْرَةُ ـ أي الغَلَبة والنصر ـ عليهم، ومررتُ بعجوزٍ من بني تميم منقطعٌ بها فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالبابِ، فأذنَ لها، فدخلتْ.

فقلتُ: يا رسولَ الله، إن رأيتَ أن تجعلَ بيننا وبين بني تميم حاجزاً فاجعل الدهناءَ، ـ وهي صحراء معروفة في الجزيرة العربية ـ فحَمِيَتِ العجوز واستوفزتْ، ـ أي غضبت وثارت لقومها ـ قالت: يا رسول الله فإلى أين تضطَرُّ مُضَرَكَ؟. ـ أي عارضت هذا العرض الذي حمله للحل ولنزع فتيل الحرب بين القبيلتين، وقالت أين تذهب قبيلة مضر إذا أعطيتَ الدهناء لقبيلة ربيعة وهي القبيلة التي أوفدت الحارث ـ.

قال: قلتُ: إنما مثلي ما قال الأول: مِعْزاءُ حملَتْ حتفَها، ـ وهي الغنمة التي حملت حملاً ثقيلاً فماتت، وهو مثل يُضرب لمن فعل فعلاً أضر به نفسه ـ حملتُ هذه، ولا أشعرُ أنها لي خَصْماً، أعوذ بالله ورسوله أن أكون كوَافِدِ عادٍ!.

قال: (هِيهْ، وما وافدُ عادٍ؟).

وهو أعلمُ بالحديث منه، ولكن يستَطْعِمُهُ. ـ أي أنه صلى الله عليه وسلم أراد أن يستمع إلى قصة وافد عاد من الحارث، مع علمه بهاـ.

قلتُ: أن عاداً قحطوا، ـ أي أصابهم القحط والكرب ـ فبعثوا وافداً لهم يقال له: قَيْلٌ ـ أي أحد الزعماء يستسقي ويدعو لهم بمكة ـ فمر بمعاوية بن بكر، فأقام عنده شهراً يسقيه الخمرَ، وتُغَنِّيهِ جاريتان، يقال لهما: الجرادتان ـ وهما مغنيتان مشهورتان بمكةـ، فلما مضى الشهرُ خرج جبال تِهَامةَ، فنادى، اللهم إنك تعلمُ أني لم أَجئ إلى مريضٍ فأُداويهُ، ولا إلى أسيرٍ فأُفاديهُ، اللهم اسقِ عاداً ما كنتَ تسقيهِ. ـ أي أنه دعا في دون أدب، ولم يطلب سُقيا رحمة ـ.

فمرتْ به سحاباتٌ سُودٌ، فنودِيَ منها: اخترْ، فأومأَ إلى سحابةٍ منها سوداءَ، ـ أي لم يحسن استغلال الفرصة، ولم يحسن الاختيار ـ فنودِيَ منها: خذها رماداً، رِمْدِداَ ـ أي أدق ما يكون الرماد ـ لا تُبقي من عادٍ أحداً.

قال: فما بلغني أنه بُعِثَ عليهم من الريح إلا قَدْرِ ما يجري في خاتمي هذا، حتى هَلَكوا.

قال أبو وائل: وصدقَ، قال: فكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم، قالوا: لا تكن كوافدِ عادٍ". [رواه الإمام أحمد والترمذي]

لقد انتهت القصة بهذه النهاية المأساوية لمهمة الحارث بن يزيد البكري؛ مما جعلته يتذكر حادثة الغنمة الحمقاء؛ التي قتلت نفسها بيديها، وكذلك قصة وافد عاد المشئوم؛ الذي خان مهمتة وشغله اللهو وتعامل بسوء أدب وسوء اختيار فكانت اللعنة عليه وعلى قومه.

وافد عاد ... يعود ليفتك بثورتنا:

وبقراءة سريعة لها نخلص إلى بعض الدروس التي تفسر لنا بعض ما يحدث في شارعنا الثوري السياسي، ويبين أسباب هذا الشقاق الثوري البغيض، بعد الوفاق الميداني الرائع!.

1-أهمية اختيار الوافدين:

أي رموز القوى الثورية والمتحدثون باسم الأحزاب السياسية.

فما حدثت أزمة إلا بزلة لسان من أحد القيادات، وما ولدت فتنة إلا بسوء تصرف من أحد الرموز، وما حلت بنا مشكلة إلا بتحريض من بعض الزعماء!؟.

2-احذر ... فقد تحمل فشلك:

لقد حمل هذا الصحابي الجليل رضي الله عنه تلك المرأة معه خدمة لها وبحسن نية؛ فكانت سبب فشل مهمته.

وكذلك القوى الثورية؛ نجدها من باب حسن التعامل مع الآخر، ومن باب حسن النية؛ قد يدخل بينها شخصيات ستكون نهاية مستقبلها على يديها.

3-لا تتبرع بالحديث عما تجهله:

تدبر هذه الجملة التي لا ترتبط بسياق الإجابة عن السؤال: "ومررتُ بعجوزٍ من بني تميم منقطعٌ بها فسألتني أن أحملها إليك، وها هي بالبابِ، فأذنَ لها، فدخلتْ)!!!؟.

ترى ما الذي أجبر هذا الصحابي رضي الله عنه ليقدم تلك المرأة إلى الحبيب صلى الله عليه وسلم ويشركها لتحضر أو تسمع جلسته التفاوضية؛ حتى ولو كانت خارج المكان؛ مما تسبب في إفشال مهمته؟!.

لذا لا نستغرب هذا التوسونامي من الندوات والحوارات والبرامج التي يجتمع الوافدون فيها ليس لهدف متفق عليه وأجندة وطنية؛ بل يدخلوننا في قضايا ومعارك جانبية لا ترتبط بالهدف والصالح العام؛ فيضيعوا وقتنا ويخرجوا متناحرين متنافرين ومنشقين بعد أن دخلوا باتسامات فضائية وملابس نجومية فاخرة!؟.

4-لا تستهين بضعف خصمك:

لقد كان الفشل بسبب امرأة عجوز ضعيفة، وبكلماتها الموجزة؛ فقلبت المائدة على اقتراح هذا المفاوض؛ فتم رفض الحل الذي سافر أياماً من أجله.

وبعض القوى السياسية نستشعر من خطابها ومن سلوكيات أفرادها؛ أنها تبدو مخمورة بعددها، ومغرورة بزعاماتها، ومتعالية بأفكارها، وتستهين بخصومها لدرجة الاحتقار والإقصاء، وما تدري علي يد من ستأتي نهاية أحلامها الثورية وغاياتها السياسية!؟.

5-اوقفوا عملية التلميع الذاتي:

لقد أثبتت تلك المرأة العجوز؛ والتي لم نعلم طبيعة مهمتها الشخصية التي سافرت من أجلها؛ أن الفرد يجب أن يضع اهتمامات المجموع فوق اهتمامامه الشخصية، وكيف تكون فاعلية الفرد في التغيير الاجتماعي، وكيف أن قوة الحجة والغيرة على الحقوق العامة، والترفع عن المصالح الشخصية، تؤدي إلى نتائج يستفيد منها المجموع، وبالتالي الفرد.

وما لنا نرى البعض من وافدينا لا يهمهم إلا تلميع صورتهم الخاصة، والدوران حول أجندتهم الذاتية، والتعصب لأنفسهم، والتمحور حول الذات؛ فأضاعونا وأحبطوا الكل وشوهوا الذات!؟.

6-الدور الثوري المفتقد:

لقد كان من الحكمة أن تكون أحد أبطال القصة امرأة وعجوز، ثم تقوم بهذا الدور العظيم لخدمة قومها، وتفوز على الرجال برأيها وتحبط مهمتهم!.

وهي رسالة راقية تؤكد على أن الإسلام يحترم دور المرأة ورأيها، ويقدر إيجابيتها في حركة المجتمع؛ فما بالنا نرى هذا الدور منحسراً ومتواضعاً وخجولاً في عالم الثوار وفي التخطيط والتحضير لمصر ما بعد 25 يناير؟!..

7-فن التعامل مع الآخر:

لقد كانت لمحة إنسانية رفيعة، ولفتة ودية رائعة؛ عندما طلب الحبيب صلى الله عليه وسلم، سماع القصة من الحارث مع علمه بها؛ ليبين أهمية القصص، وكيف أن النفس الإنسانية يسرها سماعها وتكرارها، بلا ملل؛ إذا كانت بها عبر ودروس تربوية.

ولكن الرسالة الراقية هي أن الآخر؛ خاصة إذا تعرض للفشل في جلسة تفاوضية؛ فإن الموقف يتطلب من المنظم على منصة الجلسة الرحمة والحيادية؛ فيراعي مشاعر وإحراج الخاسر ويقلل من سخونة اللقاء فيتركه ليفضفض بما يريحه!؟.

8-الأخلاق ... تضبط السياسة:

لقد كرهنا وافد عاد من سلوكياته الشاذة في التفكير. وتدبر كيف أن عاداً، لا يدركون أن الله سبحانه موجود في كل أرض، وأنه أقرب لعباده، فليس هناك داع لأن يرسلوا وافداً يقطع القفار في مهمة قد تقضى في أرضهم، وكيف أنهم قد أرسلوا زعيماً لا يحسن الأدب في مهمته فيركن إلى مراتع السوء، وينسى مهمته القومية، ثم لا يتأدب في دعائه مع الله عز وجل، ثم في سوء اختياره للسحابة السوداء الشؤم.

ومنذ أيام شاهدنا نهاية رئيس البنك الدولي بفضيحة أخلاقية مزلزلة أسقطته وأخجلت بلده!.

فإذا كنا نعرف أن السياسة هي فن الممكن؛ فإن من الضروري أن تنضبط حركة الساسة بالأخلاق.

9-الرمز ... في البؤرة:

لقد كانت آخر رسالة من القصة؛ أن خطأ الفرد، يؤدي إلى ضرر المجموع.

لذا فإننا كل يوم نرى أرتال من رموز الساسة وهم يمارسون هواياتهم الغريبة في الرغي والتصريحات الرنانة في (المَكْلَمَات الفضائية)؛ والتي من الطبيعي أن تتكرر زلات ألسنتهم الصادمة فيها؛ والتي تجد المتساقطون لها فينشرونها في الآلة الإعلامية الجبارة؛ فيوقعون أنفسهم وأهليهم وأحزابهم في حرج؛ لا يدوايه اعتذاراتهم؛ وحجتهم الممجوجة؛ بأنهم أشخاص يمثلون أنفسهم ولا يمثلون أحزابهم!؟.

وليتهم يضبطون كلماتهم، ويوزنون تصريحاتهم؛ فيريحونا من زلاتهم ومن اعتذاراتهم ومن حججهم التي حفظناها وسئمناها وكرهناها!؟.

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 71 مشاهدة
نشرت فى 2 يونيو 2011 بواسطة mohamedmedhat1

ساحة النقاش

محمد مدحت عمار

mohamedmedhat1
طالب فى الاعدادى واحب الاسلام وهوايتى الكمبيوتر والمقالات والنت و كاتب صغير »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

43,659