أمريكا التى رأيت
سيد قطب
المقدمة
منذ أن تعيثت البشرية ـ رغم مرور خمسة عشر قرناً على بعثة الهادى البشير صلوات ربنا وسلامه عليه ـ الطريق نحو الهدى ودين الحق ، والسبيل نحو الخير والعدل والحق والصلاح .
منذ أوغلت أوربا وبعدها أمريكا فى تيه الضلال والمادة والشهوات وضلت مواقع أقدامها , بدايتها الدنيا ونهايتها الآخرة ، وحسبت أن الحياة الدنيا ما هى إلا كأس تراق ، ودولار يقتنى ، وامرأة مشتهاة ، وراحت تنشر فى الأرض ـ عن طريق جيوشها تارة وعن طريق عملائها وتابعيها من العسكر وغيرهم ـ القهر والظلم والعدوان والفساد …
وراح المفتونون بهذا الواقع المتردى يقتاتون الفُتات على موائد أمريكا ـ ظِل الشيطان وسيفه ـ ويتعبدون فى محاريبها الدنسة تشبهاً وافتنانًا واقتداءً .
منذ أن كان الحال هكذا …
راحت أمريكا ـ بنظام أسمته نظامًا عالميًا جديدًاـ تتحكم فى مصائر الشعوب ومقدراتها .. وعينها بالطبع على الدول والشعوب ( الإسلامية ) , تغتال دينها .. وهيهات ، وما حديث المؤامرة على الأقصى وفلسطين .. وحرب الخليج .. ومن قبلها الحرب الدامية بين العراق وإيران .. ثم البوسنة والهرسك .. والصومال وكشمير وبورما والفلبين , ومحاربة الطغاة فى بلاد المسلمين لدعاة وجنود الإسلام فيها .. وما هى منا ببعيد .
ومنذ أكثر من أربعين من الأعوام تفتحت بصيرة الداعية الفذ وشهيد الإسلام سيد قطب , على مواطن الخراب وإن ظنه الناس عمادًا شامخ البنيان .. وأبصر السراب وإن حسبه الناس ريًّا للوارد الظمآن .
وحذر الرجل , و ( من المؤمنين رجال ) من مغبة الإفتنان ، ومن عواقب التردى فى حمأة التيه والضلال , فى اقتفاء أثر كيان يسمى دولة .. والسوس ينخر فى جسده والنار تسرى فى هشيمه .. حتى يقصمه الله القوى القهار .. فكانت رؤيته تلك التي بدت فى مقالات بمجلة ( الرسالة ) صائبة ، وكان تحليله لذلك الواقع المهترى المريض سديدًا ..
ولقد أحسنت دار المدائن ـ وهى دائما تحسن إن شاء الله ـ صنعاً ـ أن أخرجت للنور والضياء ذلك القبس المبدد لظلمات المادة والجهالة , مما خطت يمناه شهيد الإسلام سيد قطب رضى الله عنه وأرضاه .
والله نسأل أن يكون النفع به عميماً ، كما كان سيظل ـ إن شاء الله ـ كل ما خطه الشهيد الكريم بيمناه .
وعلى الله قصد السبيل
محمد عبد المنعم
سيد قطب
وأمريكا التي رأى
الحمد لله , والصلاة والسلام , على رسول الله , ( صلى الله عليه وسلم ) وبعد ،,,,,
استقبل الوجود سيد قطب طفلاً فى قرية موشا من محافظة أسيوط فى مصر سنة 1906 م , وهو سليل أسرة كريمة ، وما أن أتم العاشرة من عمره إلا وقد أكمل حفظ القرآن الكريم , وتدرج فى مراحل التعليم حتى تخرج من دار العلوم دار الحكمة والأدب .
وقد توفرت فى سيد قطب خصائص منذ إقباله على البحث , يقول أستاذه محمد مهدى علام أستاذ التربية بدار العلوم سنة 1932 م :
( إن فى دار العلوم اليوم نهضة علمية أدبية يحمل لواءها نفر من أبنائها … أعد سيد قطب فى طليعتهم ) . ويقول أيضًا :
( يعجبنى جرأته الحازمة التى لم تسفه لتصبح تهورًا , ولم تذل فتغدو جبناً , وإن هذه الجرأة الرشيدة التى دعته إلى الاستقلال , لهى التى تجعله أحب إلى قلوبنا ) .
ثم التحق بالعمل بوزارة المعارف آنذاك , بنفس جرأته في كلية دار العلوم , حيث استمر يعمل فى الوزارة عشرين عامًا , إلى أن استقال سنة 1953 م ليتفرغ للدعوة الإسلامية .. وقد وجه إليه إنذاران بسبب نشاطه السياسي والإسلامى , الأول فى عام 1939م ، والثانى فى سنة 1944 م ، كما أن مجموع القصائد المنشورة 129 قصيدة ، وتتضمن كتب سيد قطب أكثر من 300 مقال ، وقد نشرت قصائده ومقالاته فى 19 صحيفة ومجلة فى مقدمتها : مجلة الرسالة , ثم الأسبوع , والثقافة , ودار العلوم , والدعوة , والأديب , والإخوان المسلمون .
التحول الإسلامى :
منذ أواخر الثلاثنيات اتجه كبار الأدباء فى مصر إلى الكتابات الإسلامية فكان طبيعيًا أن يتجه الشهيد سيد قطب إلى هذا المضار ، والذى ساعده على المضى فى هذا الطريق صديقه محمد حلمى المنياوى , وكان من جماعة الإخوان المسلمين ويملك دار نشر , وقد أصدرا معًا مجلة الفكر الجديد سنة 1946م , التى أوقفتها الحكومة آنذاك , وقبل أن يسافر سيد قطب إلى أمريكا أصدر كتابه : ( العدالة الاجتماعية فى الإسلام ) .
سيد قطب فى أمريكا :
اختلف الأستاذ محمد قطب مع الأستاذ عباس خضر صديق الشهيد , حول سبب إيفاد سيد قطب إلى أمريكا للدراسة العليا ، فبينما يرى عباس خضر أن إسماعيل القبانى وزير المعارف وقتها كان يحمل تقديرًا خاصًا لسيد , ولذلك خصه بالابتعاث , يقرر الأستاذ محمد قطب أن سيدًا قد سافر إلى أمريكا مُبعدًا من مصر ، إذ أن السراى الملكية أصدرت أمرًا باعتقاله ولم يكن هناك مبرر قانونى لذلك الاعتقال ، فعمدت الحكومة إلى إبعاده عن البلاد , كى يكف عن الكتابة ضد الملك والحاشية , ( من مقابلة مع مجلة الغرباء اللندنية سبتمر1975 م ) .
وأيما كان السبب فالواضح أن سيدًا كان يعتمل بثورة عنيفة ضد الأوضاع فى مصر , وأن ثورته لم تهدأ بذهابه إلى أمريكا , فها هو يكتب لصديقه عباس خضر : ( إننا نملك طاقات من الذكاء الخارق ـ حين نقارن شعبنا إلى شعب كالأمريكان ـ ولكننا نهمل هذه الكنوز بالجهل والأمية والفقر المدقع القاتل لكل موهبة ، وذلك لتستمتع حفنة من الباشوات والكروش بترف لا تعرفه القرون الوسطى . هذا هو عيبنا , أما طبيعة بلادنا وطبيعة شعبنا فهما فوق مستوى الشبهات , قولوا : أيها الكتّاب للشعب حين تكتبون أن المتحكمين فيكم يقبرون نبوغكم , ويدفنون مواردكم , وأنتم تملكون ما لا يملكه شعب آخر فى الوجود ) .
( الرسالة 31 / 7 / 1950 ) .
أمريكا التى رأى :
ومع هذا التميز الفكرى الواضح ، إلا أن سيدًا لم يحمل على الحضارة الأمريكية حملة جائحة ، ولم يتهمها بالانحطاط جملة ، كما فعلت طائفة من الإسلاميين زارت الغرب , فأتت تبشرنا بانهياره القريب !! .
لم يكن سيد سطحيًا كذلك ، فتحليلاته تدل على أنه نفذ إلى قلب المجتمع ، وأعمل منهجه التحليلى الراقى ، وبيانه التصويرى العذب ، ليخرج لنا هذه الصورة من أعماق الحياة الأمريكية .
وأما الأحكام فقد خرجت معتدلة , إذ لم تحل هيبة أمريكا وسطوتها الدعائية الهائلة , من أن يعطى أحكامًا صارمة فى تذوق الأمريكان الفنى وإحساسهم الشعورى وبدائيتهم فى علاقات الجنسين .. كما لم تحل الكراهية السياسية أو العداء الفكرى , من أن ينصف أمريكا فيصفها بأنها ورشة العالم وأن لها دورها الرئيسى فى مجالات البحوث والتطبيق .
وبعد ….
فقد ذاع كلام كثير حول هذه النصوص ، فمن قائل أن سيدًا كتبها كرؤوس أقلام ثم صرف النظر عنها ، ومن قائل أنه كتبها ولم ينشرها ، وهى منشورة فى حلقات ثلاث فى مجلة ( الرسالة ) التى كانت يصدرها : أحمد حسن الزيات , فى أخريات عام 1951 م , أى بعد حوالى عام من عودة سيد من أمريكا … وأغلب ظننا أنها تحتوى على كل ما أراد تسجيله فى هذا الشأن . إذ أنها تبدأ بداية طبيعية بمقدمة ، وتنتهى بخاتمة تحمل خلاصة تلك التحليلات .
ويسرنا أن نقدم حقيقة أمريكا بعين سيد قطب ، لكل مسلم للوقوف الموضوعى للمجتمع الأمريكى ومقومات تقدمه المادى ، خاصة ونحن نمتلك الذخيرة الروحية والاتصال الوثيق بالله تعالى ، وذلك فى طريق إيقاذ الروح الإسلامية فى عصر الصحوة ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
سيد قطب
والطريق إلى أمريكا
غادر سيد قطب الإسكندرية على متن باخرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى أواخر عام 1948 م , يقول في الظلال ( 1 : 152 ) :
( وأشهد أنى ما أحسست ما فى هذه اللفتة من عمق ، قدر ما أحسست ونقطة صغيرة فى خضم المحيط ، تحملنا وتجرى بنا , والموج المتلاطم والزرقة المطلقة من حولنا ، والفلك سابحة متناثرة هنا وهناك ، ولا شيء إلا قدرة الله ، وإلا رعاية الله ، وإلا قانون الكون الذى جعله الله ، يحمل تلك النقطة الصغيرة على ثبج الأمواج وخضمها الرهيب ) .
ثم يخاطب نفسه في ( مجلة الشهاب العدد التاسع ) : ( أأذهب إلى أمريكا وأسير فيها سير المبتعثين العادين , الذين يكتفون بالأكل والنوم ، أم لا بد من التميز بسمات معينة ؟ وهل غير الإسلام والتمسك بآدابه والالتزام بمناهجه فى الحياة , وسط المعمعان المترف , المزود بكل وسائل الشهوة , واللذة والحرام ؟ وأردت أن أكون الرجل الثانى ) .
ثم يعطى واقعة تحقيقاً لذلك ( الظلال 3: 1786 ) :
( ولن أذكر نماذج مما وقع لغيرى ، ولكنى أذكر حادثًاًً وقع لى وكان عليه معى شهود ستة … كنا ستة نفر من المنتسبين إلى الإسلام على ظهر سفينة مصرية , تمخر بنا عباب المحيط الأطلسى إلى نيو يورك ، من بين عشرين ومائه راكب وراكبة , ليس فيهم مسلم … وخطر لنا أن نقيم صلاة الجمعة فى المحيط على ظهر السفينة ! .. والله يعلم ، أنه ألم بنا أن نقيم الصلاة ذاتها أكثر مما كان بنا حماسة دينية , إزاء مبشر كان يزاول عمله على ظهر السفينة ، وحاول أن يزوال تبشيره معنا !! .
وقد يسر لنا قائد السفينة ـ وكان إنجليزيًا ـ أن نقيم صلاتنا ، وسمح لبحارة السفينة وطُهاتها وخدمها وكلهم نوبيون مسلمون ـ أن يصلى منهم معنا من لا يكون فى الخدمة وقت الصلاة ! , وقد فرحوا بهذا فرحًا شديدًا ، إذ كانت المرة الأولى التى تُقام فيها صلاة الجمعة على ظهر السفينة ، وقمت بخطبة الجمعة وإمامة الصلاة , والركاب الأجانب معظمهم متحلقون يرقبون صلاتنا ! وبعد الصلاة جاءوا يهنئوننا على نجاح القداس ؟! فقد كان هذا أقصى ما يفقهونه من صلاتنا ! .
ويحدثنا سيد قطب عن ابتلائه وهو بالباخرة :
( حتى كان الباب يقرع ، وفتحت ، فإذا أنا بفتاة هيفاء جميلة فارعة الطول , شبه عارية , يبدو من مفاتن جسمها كل ما يغرى , وبدأتنى بالإنجليزية : هل يسمح لى سيدى بأن أكون ضيفة عليه هذه الليلة ؟ فاعتذرت بأن الغرفة معدة لسرير واحد ، وكذا السرير لشخص واحد ! فقالت : كثيرًا ما يتسع السرير الواحد لاثنين ! واضطررت أمام وقاحتها ، ومحاولة الدخول عنوة لأن أدفع الباب فى وجهها , لتصبح خارج الغرفة , وسمعت ارتطامها بالأرض الخشبية فى الممر ، فقد كانت مخمورة …. ) .
وظل سيد قطب ثابتًا على إسلامه وإيمانه فى السنوات التى قضاها فى أمريكا , يقول فى كتابه ( معالم فى الطريق ) ص 215 :
( بعض هؤلاء كانوا يواجهوننا ـ نحن القلائل المنتسبين إلى الإسلام ـ أمريكا ـ فى السنوات التى قضيتها هناك ـ وكان بعضنا يتخذ موقف الدفاع والتبرير … وكنت على العكس أتخذ موقف المهاجم للجاهلية الغربية … سواء فى معتقداتها الدينية المهلهلة ، أو فى أوضاعها الإجتماعية والاقتصادية والأخلاقية ) ..
ثم يقول : كانت هذه حقائق نواجهها فى واقع الحياة البشرية .. وهى حقائق تخجل أصحابها حين تعرض فى ضوء الإسلام …. ولكن ناسًا ـ يدّعون الإسلام ـ ينهزمون أمام ذلك النتن , الذى تعيش فيه الجاهلية , حتى ليلتمسون للإسلام مشابهات فى هذا الركام المضطرب والبائس فى الغرب ، وفى تلك الشناعة المادية البشعة فى ا لشرق أيضًا .
وأخيراً :
هذه كانت كانت بمثابة مقدمة , بعضها بقلم أصدقائه , وبعضها تحليلاً من المواقف , وبعضها بقلم سيد قطب نفسه , كتبها عبر مقالاته وكتبه , لتكون بوابة الدخول , في كتابه الذي بين أيدينا , ( أمريكا التي رآها سيد قطب ) .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
جمال ماضي
أمريكا التى رأيت
1ـ أمريكا الدنيا الجديدة
أمريكا …
الدنيا الجديدة … ذلك العالم المترامى الأطراف , الذى يشغل من أذهان الناس وتصوراتهم ، أكثر مما تشغل من الأرض رقعته الفسيحة ، وترف عليه أخيلتهم وأحلامهم , بالأوهام والأعاجيب ، وتهوى إليه الأفئدة , من كل فج ، شتى الأجناس والألوان ، شتى المسالك والغايات ، شتى المذاهب والأهواء .
أمريكا …
تلك المساحات الشاسعة من الأرض بين الأطلنطى والباسيفيكى .
تلك الموارد التى لا تنضب من المواد والخامات ، ومن القوى والرجال .
تلك المصانع الضخمة التى لم تعرف لها الحضارة نظيرًا .
ذلك النتاج الهائل الذى يعيا به العد والإحصاء .
تلك المعاهد والمعامل والمتاحف المبثوثة فى كل مكان .
عبقرية الإدارة والتنظيم التى تثير العجب والإعجاب .
وذلك الرخاء السابغ كأحلام الجنة الموعودة .
ذلك الجمال الساحر فى الطبيعة والوجود والأجسام .
تلك اللذائذ الحرة الطلقة من كل قيد أو عرف .
تلك الأحلام المجسمة فى حيز من الزمان والمكان ….
أمريكا هذه كلها ..
ما الذى تساوية فى ميزان القيم الإنسانية ؟
وما الذى أضافته إلى رصيد البشرية من هذه القيم ، أو يبدو أنها ستضيفه إليه فى نهاية المطاف ؟ .
أخشى ألا يكون هناك تناسب بين عظمة الحضارة المادية في أمريكا ، وعظمة ( الإنسان ) الذي ينشئ هذه الحضارة , وأخشى أن تمضى عجلة الحياة ، ويطوى سجل الزمن ، وأمريكا لم تضف شيئًا ـ أو لم تضف إلا اليسير الزهيد ـ إلى رصيد الإنسانية من تلك القيم ، التى تميز بين الإنسان والشيء ، ثم بين الإنسان والحيوان .
إن كل حضارة من الحضارات التى مرت بها البشرية ، لم تكن كل قيمتها , فيما ابتدعه الإنسان من آلات ، ولا فيما سخره من قوى ، ولا فيما أخرجت يداه من نتاج .
إنما كان معظم قيمتها , فيما اهتدى إليه الإنسان من حقائق عن الكون ، ومن صور وقيم للحياة ، وما تركه هذا الاهتداء فى شعوره من ارتقاء , وفى ضميره من تهذيب ، وفى تصوره لقيم الحياة من عمق ، والحياة الإنسانية بوجه خاص ، مما يزيد المسافة بعداً فى حسابه وحساب الواقع ، بينه وبين مدراج الحيوانية الأولى ، فى الشعور والسلوك ، فى تقويم الحياة وتقويم الأشياء ( 1 ) .
فأما ابتداع الآلات ، أو تسخير القوى ، أو صنع الأشياء ، فليس له فى ذاته وزن فى ميزان القيم الإنسانية ، إنما هو مجرد رمز لقيمة أساسية أخرى : هى مدى ارتقاء العنصر الإنسانى فى الإنسان ، ومدى ما أضاف إلى رصيده الإنسانى من ثراء فى فكرته عن الحياة ، وفى شعوره بهذه الحياة .
هذه القيمة الأساسية هى موضع المفاضلة والموازنة بين حضارة وحضارة ، وبين فلسفة وفلسفة ، كما أنها هى الرصيد الباقى وراء كل حضارة ، المؤثر فى الحضارات التالية ، حين تتحطم الآلات وتفنى الأشياء ، أو حين تنسخها آلات أجدّ وأشياء أجود ، مما يقع بين لحظة وأخرى ، فى مشارق الأرض ومغاربها .
وإنه ليبدو أن العبقرية الأمريكية كلها قد تجمعت وتبلورت , فى حقل العمل والإنتاج ، بحيث لم يبق فيها بقية تنتج شيئًا , فى حقل القيم الإنسانية الأخرى .
ولقد بلغت فى ذلك الحقل ما لم تبلغه أمة ، وجاءت فيه بالمعجزات التى أحالت الحياة الواقعية إلى مستوى فوق التصور ووراء التصديق , لمن لم يشهدها عياناً .
ولكن ( الإنسان ) لم يحفظ توازنه أمام الآلة ، حتى ليكاد هو ذاته يستحيل آلة ، ولم يستطع أن يحمل عبء العمل , وعبء ( الإنسان ) ! .
وإن الباحث فى حياة الشعب الأمريكى , ليقف فى أول الأمر حائرًا أمام ظاهرة عجيبة ، قد لا يراها فى شعب من شعوب الأرض جميعًا :
شعب يبلغ فى عالم العلم والعمل ، قمة النمو والارتقاء ، بينما هو فى عالم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) فى الظلال ( 2: 1091 ) : تعرض سيد قطب لتفسير قوله تعالى : { فلما نسوا ما ذُكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء ، حتى إذا فرحوا بما أتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون } الأنعام : 44 ، يقول : لقد كنت فى أثنائ وجودى فى الولايات المتحدة الأمريكية أرى رأى العين مصداق قول الله تعالى { فلما نسوا ما ذُكروا به فتحنا عليهم أبوا ب كل شيء } فإن المشهد الذى ترسمه هذه الآية مشهد تدفق كل شيء من الخيرات والأرزاق بلا حساب , وكنت أرى غرور القوم بهذا الرخاء وفى صلف , على أهل الأرض كلهم .. كنت أرى هذا كله فأذكر هذه الآية , وأتوقع سنة الله … وأكاد أرى خطواتها وهى تدب إلى الغافلين .
الشعور والسلوك بدائى , لم يفارق مدراج البشرية الأولى ، بل أقل من بدائي ( 1 ) فى بعض نواحى الشعور والسلوك ! .
ولكن هذه الحيرة تزول , بعد النظرة الفاحصة , فى ماضى هذا الشعب وحاضره ، وفى الأسباب التى جمعت فيه , بين قمة الحضارة وسفح البدائية :
فى العالم القديم آمن الإنسان بقوى الطبيعة المجهولة ، وصاغ حولها الخرافات والأساطير ، وآمن بالدين ، وغمرت روحه أضواؤه ورؤاه ، وآمن بالفن وتجسمت أشواقه ألواناً وألحاناً وأوزاناً ..
ثم آمن بالعلم أخيرًا ، بعد ما انقسمت نفسه لأنماط من الإيمان ، وألوان من المشاعر ، وأشكال من صور الحياة , وتهاويل الخيال ، بعد ما تهذبت روحه بالدين ، وتهذب حسه بالفن ، وتهذب سلوكه بالاجتماع ، بعد ما صيغت مثله ومبادئه من واقعية التاريخ ، ومن أشواقه الطليقة .
وسواء تحققت هذه المباديء أم لم تتحقق فى الحياة اليومية ، فقد بقيت على الأقل هواتف فى الضمير ، وحقائق فى الشعور ، مرجوة التحقق فى يوم من الأيام ، قرب أم بعد ، لأن وجودها حتى فى عالم المثال وحده ، خطوة واسعة من خطوات البشرية فى مدارج الإنسانية ، وشعاع مضيء من الرجاء فى تحقيقها يومًا من الأيام .
أما فى أمريكا فقد وُلد الإنسان على مولد العلم ، فآمن به وحده ، بل آمن بنوع منه خاص ، هو العلم التطبيقى ، لأنه وهو يواجه الحياة الجديدة فى القارة الجديدة ، وهو يتسلم الطبيعة هنالك بكراً جامحة عتيدة ، وهو يهم أن ينشيء ذلك الوطن الجديد الذى أنشأه بيده ، ولم يكن له من قبل وجود ، وهو يصارع ويناضل لبناء هذا الوطن الضخم .. كان العلم التطبيقى هو خير عون له فى ذلك الجهد العنيف , لأنه يسعفه بالأداة العملية الفعالة , فى مجال البناء والخلق والتنظيم والإنتاج .
ولم يفرغ الأمريكى بعد من مرحلة البناء ، فما تزال هناك مساحات شاسعة لا تكاد تحد من الأراضى البكر التى لم تمسسها يد ، ومن الغابات البكر التى لم تطأها قدم ، ومن المناجم البكر التى لم تُفتح ولم تُستغل ، وما يزال ماضياً فى عملية البناء الأولى ، على الرغم من وصوله إلى القمة فى التنظيم والإنتاج .
ويحسن ألا ننسى الحالة النفسية التى وفدها بها الأمريكى إلى هذه الأرض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) ولزيادة الإيضاح يقول سيد قطب فى مجلة الكاتب بتاريخ 10 / 12/ 1949 ، والحب ! الحب الذى يطلق الطاقات الإنسانية جميعًا .. إنه هنا فى أمريكا جسد يشتهى جسدًا ، وحيوان يشتهى حيووانًا . ولا وقت للأشواق الروحية .
فوجاً بعد فوج ، وجيلاً بعد جيل ، فهى مزيج من السخط على الحياة فى العالم القديم ، والرغبة فى التحرر من قيوده وتقاليده .
ومن هذه القيود والتقاليد الثقيل الفاسد ، والضرورى السليم ، ومن الرغبة الملحة فى الثراء بأى جهد وبأى وسيلة ، والحصول على أكبر قسط من المتاع تعويضاً عما يبذله من الجهد فى الثراء .
ويحسن ألا ننسى كذلك الحياة الاجتماعية والفكرية لغالبية هذه الأفواج الأولى , التى تألفت منها نواة هذا الشعب الجديد .
فهذه الأفواج هى مجموعات من المغامرين ، ومجموعات من المجرمين ، فالمغامرون جاءوا طلاب ثراء ومتاع ومغامرات ، والمجرمون جيء بهم من بلاد الإمبراطورية الإنجليزية لتشغيلهم فى البناء والإنتاج .
ذلك المزيج من الملابسات ، هذا المزيج من الأفواج من شأنه أن يستنهض وينمى الصفات البدائية فى ذلك الشعب الجديد ، ويقيم أو يقاوم الصفات الراقية فى نفسه أفراداً وجماعات ، فتنشط الدوافع الحيوية الأولية ، كأنما يستعيد الإنسان خطواته الأولى ، بفارق واحد أنه هنا مسلح بالعلم ، الذى وُلد على مولده ، وخطا على خطواته .
والعلم فى ذاته ـ وبخاصة العلم التطبيقى ـ لا عمل له فى حقل القيم الإنسانية ، وفى عالم النفس والشعور .
وبذلك ضاقت آفاقه ، وضمرت نفسه ، وتحددت مشاعره ، وضؤل مكانه على المائدة العالمية الزاخرة , بالأنماط والألوان ( 1 ) .
وقد يدهش الإنسان وهو يقرأ قصص الجماعات الأولى التى هاجرت إلى أمريكا فى أيامها الأولى ، ويتصور كفاحها الطويل العجيب ، مع الطبيعة الجامحة فى تلك الأصقاع المترامية ، ومن قبل مع أنواء المحيط الرعيبة ، وأمواجه الجبارة ، فى تلك القوارب الصغار الخفاف ؛ حتى إذا رست على الصخور محطمة أو ناجية لقيت النازحين ، مجاهل الغابات ، ومتاهات الجبال ، وحقول الجليد ، وزعازع الأعاصير ، ووحوش الغابات وأفاعيها وهوامها .. لقد الإنسان كيف لم يترك هذا كله ظلاله على الروح الأمريكية إيمانا بعظمة الطبيعة وما وراء الطبيعة ، ليفتح لها منافذ أوسع من المادة وعالم المادة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
( 1 ) يقول سيد قطب فى مقاله ( الضمير الأمريكانى وقضية فلسطين ) : ( فها هى ذى أمريكا تتكشف للجميع ، إنهم جميعا يصدرون عن مصدر واحد ، هو تلك الحضارة المادية التى لا قلب لها ولا ضمير ، تلك الحضارة التى لا تسمع إلا صوت الآلات ، وتتحدث إلا بلسان التجارة ، ولا ينظر إلا بعين المرابى ، والتى تقيس الإنسانية كلها بهذه المقاييس ) الرسالة عدد 694 .
ولكن هذه الدهشة تزول حين يتذكر ذلك المزيج من الملابسات ، وذلك المزيج من الأفواج .
لقد قابلوا الطبيعة بسلاح العلم وقوة العضل ، فلم تثر فيهم إلاقوة الذهن الجاف ، وقوة الحس العارم ، ولم تفتح لهم منافذ الروح والقلب والشعور ، كما فتحتها فى روح البشرية الأولى ، التى احتفظت بالكثير منها فى عصر العلم ، وأضافت به إلى رصيدها من القيم الإنسانية الباقية على الزمان .
وحين تغلق البشرية على نفسها منافذ الإيمان بالدين ، والإيمان بالفن ، والإيمان بالقيم الروحية جميعًا , لا يبقى هنالك متصرف لنشاطها إلا فى العلم التطبيقى والعمل ، وإلا فى لذة الحس والمتاع .
وهذا هو الذى انتهت إليه أمريكا بعد أربعمائة عام .
وإلى الحلقة الثانية : بعنوان ( الأمريكي البدائي
ساحة النقاش