الصلاة روح الإيمان

الصلاة محل المناجاة، ومعدن المصافاة، تتسع فيها ميادين الأسرار، وتشرق فيها الأنوار، فإن أردت أن تعرف نفسك فكِلْهَا بالصلاة، وزِنْهَا بميزانها، فإن انتهت عن الحظوظ الدنيوية، فاعلم أنك سعيد، وإلا فابك على نفسك، إذا جررت رجليك إلى الصلاة جرًا، فاعلم أنك لم تدرك سر الصلاة فهل رأيت حبيبًا لا يريد لقاء حبيبه؟

قال تعالى: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ) ، فكل صلاة لا تنهى صاحبها عن الفحشاء والمنكر لا تسمى صلاة، ولا تعتبر عند الله, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر، فليست صلاته بصلاة".

يا عبد الله: إذا دخلت الصلاة فإنك تناجى ربك، فتقول: (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)، فاستحضر عظمته فى ذهنك، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنك تقول: السلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته، ولا يقال: أيها الرجل عند العرب إلا لمن يكون حاضرًا بالمجلس.

فهل بعد كل ذلك تخرج إلى الذنوب، وتعود إليها، بعد هذه النعم التى أنعم الله بها عليك.

ومن أراد أن يعرف حقيقته عند الله، وينظر حاله مع ربه، فلينظر إلى صلاته، فهو يؤديها إما بالخشوع والسكون, وإما بالغفلة والعجلة, فإن لم تكن بالوضعين السابقين، فأحث التراب على رأسك ندمًا وحسرة، فإن من جالس صاحب المسك عبق عليه من ريحه، والصلاة مجالسة لله , فإذا جالسته ولم يحصل لك منه شىء , دل ذلك على مرض فيك, وهو إما كبر، أو عدم أدب قال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِى الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِى الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ).

ولا ينبغي لمن صلى أن يسرع الخروج من المسجد، بل يذكر الله تعالى عقب صلاته، ويستغفره من تقصيره فيها، فرب صلاة لا تصلح للقبول, فإن استغفرت الله تعالى بعدها قبلت.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى استغفر الله ثلاث مرات. روى أن ثوبان رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله تعالى ثلاثًا, وقال: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، تباركت يا ذا الجلال والإكرام".

مثال من أدى الصلاة بغير اطمئنان وخشوع قلب وحضور فكر، كمن أهدى للملك مائة صندوق فارغة، فيستحق العقوبة عليها من الملك، ويذكره بها دائمًا؛ لأنه فارغ العقل، ناقص التفكير. ومن صلاها باطمئنان وحضور قلب، كان كمن أهدى للملك ياقوتة ثمينة تساوى ألف دينار، فإن الملك يفرح بها، ويكافؤه عليها، ويذكره دائمًا بها؛ لأنه ذكى الفؤاد، كامل التفكير، عالى الهمة.

يا هذا.. تختار لنفسك الطيبات من الطعام، بل تنتخب لدابتك العلف الجيد، وتعامل الله بالرديء والمجازفة،  وربما قلبت عشرين بطيخة حتى تصلح لك واحدة لتأكلها، ثم تلقيها فى بطن مرحاض, وتقعد على الأكل متربعًا شرهًا، وتطول فى أكلك وتطمئن، وإذا جئت إلى الصلاة تنقرها نقر الديكة؟, وتحل عليك الوساوس, وتتوارد عليك الخواطر الفاسدة فى صلاتك، ثم تخرج منها مسرعًا، وأنت لا تدرى أثلاثًا صليت أم أربعًا.

مثال من هذه حالته، كمن نصب نفسه للهدف، وتعرض لطعن الرماح, وقعد للسهام تقصده من كل جانب، أفليس هذا بأحمق؟

وإن أردت أن تعرف كيف تمر على الصراط يوم القيامة، فانظر حالتك فى الذهاب للصلاة فى المساجد, فيكون جزاء الذى يأتى المسجد قبل الأذان، أن يمر على الصراط كالبرق الخاطف, والذى يأتى فى أول الوقت يمر عليه كأجاويد الخيل المسرعة, والذى يأتى بعد الوقت كسلان يمر بطيئا على الصراط والنار تحرقه.

وها هنا صراط الاستقامة، لا يشاهد بالأبصار، ولكن تشاهده القلوب المستنيرة، والبصائر الطاهرة، قال تعالى: وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولم يشر المولى فى كتابه العزيز بلفظ الإشارة (هذا) إلا إلى موجود، فمن أضاءت له الطريق يتبعها، ومن كانت طريقه مظلمة، لم يشهدها، ولم يستطع السير فيها، فيبقى مكانه متحيرا.

يا عبد الله، احرص أن تكون مع السابقين.. وهم الذين سبقوا فى الدنيا بالعبادات، وحافظوا على حضور الجمعة والجماعات، وأنت تترك الجماعة فى المسجد وتصلى وحدك منفردا وتريد أن تنال القبول ويكتب لك الأجر الكامل مثل غيرك؟

واعلم يا أخى أن ركعتين بالليل خير لك من ألف ركعة بالنهار، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بصلاة الليل فإنها دأب الصالحين فيكم، وقربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة عن الإثم". وأنت لا تصلى فى الليل ركعتين إلا لتجد ثوابهما فى ميزانك يوم الحساب.

وهل تشترى العبد إلا للخدمة، فهل رأيت عبدا يُشترى ليأكل وينام.

وما أنت إلا عبد أوجدك الله لعبادته، وخلقك لطاعته، واشتراك لخدمته, قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).

وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ).

حكي عن الشيخ أبى الحسن الشاذلى أنه كان يحضر عنده فقهاء الإسكندرية فجاءوا مرة مختبرين له، فتفرس فيهم, وقال: يا فقهاء هل صليتم قط؟, فقالوا: وهل يترك أحدنا الصلاة؟ فقال لهم: قال الله تعالى: (إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا إِلاَّ الْمُصَلِّينَ), فهل أنتم كذلك، إذا مسكم الشر لا تجزعون، وإذا مسكم الخير لا تمنعون؟, قال: فسكتوا جميعًا، فقال لهم الشيخ: ما صليتم هذه الصلاة قط.

 

المصدر: من كتابي تحفة التصوف بتصرف
  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 451 مشاهدة

ساحة النقاش

asmaaeldsouky

بارك الله فيك يا دكتور وفتح عليك من علمه ونفع بيك الأمة

الدكتور/ محمد محمود القاضي

mohamedalkady
موقع شخصي يهتم صاحبه باللغة العربية ودراساتها، والثقافة الإسلامية، والثقافة العامة، والتأليف للطفل. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

241,814