الانقطاع عن الخلق إلى الخالق

(لا أقصد بما سيأتي من كلام أن يهرب الإنسان من الناس، وأن ينقطع للعبادة ويترك الدنيا، فلا رهبانية فى الإسلام، ولكني أقصد العزلة الروحية، التى يفر بها المرء إلى نفسه ليحاسبها ويقومها، وإلى أعماله فيزنها بميزان الشرع، وإلى عقيدته يفكر فيها ويتدبرها، وإلى ربه يدعوه ويتضرع إليه.. فليفهم أولو الألباب)

هذا زمان الاجتماع، قلما تجلس مجلسًا إلا وتعصى الله فيه، إن لم يكن بارتكاب ذنب, فبالغفلة والإعراض عن الله.

وكثير من السلف الصالح ـ رضى الله عنهم ـ آثروا الجلوس فى بيوتهم يشتغلون بطاعة الله وعبادته، وتركوا كثرة مخالطة الناس، لما فشى فيهم من المنكرات، فإن طالبتك نفسك بالخروج إلى المجتمعات، فأشغلها فى القعود فى الدار بشىء من الطاعة، إلا إذا كان فى الخروج أمر بمعروف، أو نهى عن منكر، أو سعى على المعيشة, أو قضاء حوائج المسلمين وجلب النفع لهم، فلا تتأخر حين ذاك؛ لأنه نوع من العبادة تؤجر عليه، وتثاب من أجله.

فعليك بالخلوة والعزلة متى استطعت إلى ذلك سبيلاً، فمن كانت العزلة دأبه، كان العزُّ له، ومن صدقت عزلته، وصرفها فى طاعة ربه ظفر بمواهب الحق له بالمنن، وعلامة ظهور المنن عليه، كشف الغطاء، وإحياء القلب، وتحقيق المحبة، والغيرة على دين الله وشرعه, والمحافظة على حدود الله تعالى.

فيا عبد الله غيب نظر الخلق إليك، بنظر الله إليك، وغب عن إقبالهم عليك، بشهود إقباله عليك, ومتى أوحشك الله من خلقه، فاعلم أنه يريد أن يفتح لك باب الأنس به، وما سلط عليك ألسنة العباد، إلا لترجع بالتوبة إليه، ولو انقطعت عن الخلق، لفتح لك باب الأنس به تبارك وتعالى؛ لأن الأولياء قهروا أنفسهم بالخلوة والعزلة، وفطموها عن شهوات الحياة الدنيا، وأدبوها بالعفة والقناعة، والاستغناء بالحلال الطيب عما فى أيدى الناس، وذبحوا شهوات الطمع والشهرة بسكين الخوف, فسمعوا من الله، وأنسوا به، وتلذذوا بمناجاته وفازوا بمتعة القرب منه عز وجل، قال تعالى: (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ).

فإن أردت أن تستخرج مرآة قلبك من الأكداد, فارفض ما رفضوا، وهو الأنس بالخلق، والإكثار من مخالطتهم، ومشاركتهم فى لغو القول وضلال العمل, ولا تقعد على أبواب الطرق، والشوارع والحارات لانتقاد عباد الله.

فمن استعد استمد، وإذا هيأ لك الاستعداد فتح لك باب الاستمداد، ولكن الكلاب لا ترقد فى المنازل، بل ترتمى على الأكوام والمزابل.

وإذا أردت أن يكون لك نصيب مما لأولياء الله تعالى، فعليك برفض الناس جملة، ولا تتعرف إلا لمن يدلك على الله بحاله ومقاله، ويأخذ بيدك إليه، إما بإشارة صادقة، وإما بأعمال ثابتة، لا ينقضها كتاب ولا سنة (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ).

أف لعبد يعلم إحسان المحسن فيجترئ على معصيته، ولكن ما عرف إحسانه من آثر عصيانه، وما عرف قدره من لم يراقبه فى خلوته، وما ربح من اشتغل بغيره، وعلم أن النفس تدعوه لهلاكه فتبعها، وعلم أن القلب يدعوه إلى الرشد فعصاه, وعلم قدر المُعْصَى فواجهه بالمعصية، ولو علم قرب مولاه، وأنه مطلع عليه ويراه، لما سارع إلى ما عنه نهاه.

 

المصدر: من كتابي تحفة التصوف
  • Currently 5/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
1 تصويتات / 703 مشاهدة

ساحة النقاش

الدكتور/ محمد محمود القاضي

mohamedalkady
موقع شخصي يهتم صاحبه باللغة العربية ودراساتها، والثقافة الإسلامية، والثقافة العامة، والتأليف للطفل. »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

229,193