حلاوة الطاعة
يا من عاش وما عاش، تخرج من الدنيا وما ذقت ألذ شىء فيها، وهى مناجاة الحق سبحانه، ومخاطبته لك، ونزول الرحمات عليك، فأنت تقضى الليالى نائمًا على فراشك ملقى عليها كالجيفة، لا تفكر فى عبادته وعظمته، ولا تغذى قلبك بتلاوة كلامه، ولا تسعد روحك بالخلوة معه. فإذا حرمت يا أخى من قيام الليل والتهجد فيه، وصرفت عنه بمشاغل الحياة، فاستغث بالله، وقل يا رب العزة، يا رسول الله فاتتنى الغنيمة التى نالها السعداء، من لذة المناجاة، ووداد المصافاة، وحلاوة الطاعة، وسعادة الأنس بذكر الله، واطمئنان القلب به، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ). فإياك يا أخى أن تخرج من هذه الدار وما ذقت حلاوة حبه عز وجل، ولا تلذذت بطاعته، وليست حلاوة حبه فى المآكل والمشارب؛ لأنه يشاركك فيها الكافر والدابة، بل حلاوة حبه تجدها فى خدمته وطاعته، وامتثال أوامره، والوقوف عند حدوده، والتضحية بالنفس والمال، والولد فى سبيل نصرة دينه، والدفاع عن شريعته، والمداومة على ذكره، حتى تشارك الملائكة الأطهار فى خدمته وطاعته، وجمع قلبك عليه تعالى.
واعلم أن الأرواح الطاهرة كالثياب البيضاء النقية يدنسها رشاش النفوس، فإذا انغمست فى جيفة الدنيا ومحرماتها وسيئاتها لاتصلح للمحاضرة، ولا تذوق حلاوة الحب الربانى لأن حضرة الله تعالى لا يدخلها المتلطخون بنجاسة المعصية.
فطهر قلبك من العيب يفتح لك باب الغيب، ليتك يا أخى تطيع مولاك وتنفذ أوامره كما يطيعك عبدك وينفذ أوامرك، فإنك تحبه مطيعًا لك، ناهضًا فى خدمتك، مداومًا عليها، لا يخالف لك أمرًا، وأنت مع ربك على عكس ذلك، تثتثقل الطاعة، وتنفر من العبادة وتقصر فى الخدمة، وتحب أن تفرغ منها مسرعًا، كأنك تنقر بالمناقير. فياليت ذلك البصر الذى نظرت به إلى محاسن الغير، ولم تبصر به عيوب نفسك عوضت عنه العمى، قال تعالى: (فَأَمَّا مَنْ طَغَى وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِى الْمَأْوَى)
واعلم أنه من لطف الله بك أن يكشف لك عن عيوب نفسك، فتعرفها وتتجنبها وتحجبها عن الناس، فلا يعرفونها، حتى لا يفضحك بأعمالك أمام خلقه. وإذا أحبك مولاك أعرض عنك أصحابك، حتى لا تنشغل بهم عنه، وقطع علائقك بالمخلوقين حتى ترجع إليه، وتقبل بكل مشاعرك وقلبك عليه، كم تطلب نفسك للطاعة، وهى مستهترة متثاقلة؛ لأنها لم تشغف بها، وإنما تحتاج إلى معالجة نفسك فى الابتداء، فإذا ذاقت المنة جاءت اختيارًا، فالحلاوة التى كنت تجدها فى المعصية ترجع تجدها فى الطاعة، قال تعالى: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِى قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ)
وإذا ضعفت يا أخى عن العبادة فرقع عبادتك بالخوف، والتضرع، والبكاء، والتذلل لله تعالى فى صلاتك، فإن من علم قرب رحيله من الدنيا، أسرع فى تحصيل الزاد، ومن علم أن إحسان غيره لا ينفعه، جد فى عمل الإحسان لنفسه، ومن أنفق ولم يحسب، خسر ولم يدر، والأعمار هى رأس المال، والأعضاء التى يبست عن الطاعة ليس لها إلا القطع، كالشجرة إذا يبست لا تصلح إلا للنار، ولو كنت كيسًا فطنًا لكانت حقوق الله عندك أهم من حظوظ نفسك ومطالبها، قال رسول الله r: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود فى الكفر كما يكره أن يقذف فى النار" واعلم إن كانت معك عناية من الله ينفعك القليل من الطاعة، وإن لم تكن معك عناية منه لم ينفعك الكثير، ولو كشف عنك الحجاب، لرأيت كل شىء ناطقًا مسبحًا لله تعالى: (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَىء إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) . ولكن النقص فيك والحجاب منك فلا تلومن إلا نفسك.
ساحة النقاش