Subject: إسلاميون + عاطفة + سياسة = عجز مُكْتَسَب
الثقافة غذاء، وتبادل الفكر دواء، والتواصل الاجتماعي شفاء، وتفاعل الفكر نماء.
إن لم يعجبك قولي فأرشدني،
وإن ضقت بي ذرعا فأخبرني،
أو بلوكمي، أو سبام مي.
أ.د. محمد نبيل جامع [email protected]
إسلاميون + عاطفة + سياسة = عجز مُكْتسب
بقلم
3 أغسطس 2011
أ.د. محمد نبيل جامع
أستاذ علم اجتماع التنمية بجامعة الإسكندرية
0127435754
بارك الله في الشيخ صلاح أبو إسماعيل، أحببته في حواره مع الأستاذ إبراهيم عيسى، لوجهه البشوش، وصوته الخفيض، وإنصاته الجميل، وصاحب أجمل لحية منسقة مصرية الثقافة، واعترافه الجميل أيضا بأنه أفرط في استخدام كلمة "برافو" كلما يواجه سؤالا صعبا من الأستاذ ابراهيم. كنت أحس بما فيه من حرج شديد بين رغبته في رفض سلوك الإسلاميين المستأسدين وألفاظهم وبين انتمائه للإسلام السياسي، فيقع بين أزمة صدق الشيخ وألعبانية السياسي. اسمحوا لي أن أفسر هذا الأمر.
كيف يكتسب الإنسان المعرفة؟ من خلال الأسلوب العلمي (المشاهدة والتجريب والمقارنة)، هذه واحدة، وأيضا من خلال الخبرة والممارسة والمحاولة والخطأ، ثانية، ثم أضف ثالثة وهي الأسلوب الإيماني أو التصديقي، والذي أطلقت عليه لطلابي Faith approach. والأخير هذا يعني التصديق، حيث أن الغالبية العظمى من معارفنا وخاصة في الطفولة تأتي من خلال التصديق، مثل تصديق والديَ ومدرسيٍ وأصدقائي وغيرهم. عَلِم الصديق أبو بكر رضي الله عنه أن الله واحد وأن محمدا صلي الله عليه وسلم رسول الله بمجرد تصديق الحبيب محمد صلى الله عليه وآله. الدين يتم تعلمه من خلال الأسلوب الإيماني، أي الإيمان، أي التصديق. والأمر الذي تتعلمه بالتصديق لا يخضع في معظمه للمناقشة والمنطق البشري. هذا بالإضافة إلى أن المعارف الدينية تتسم بالعاطفة لأنها ترتبط بمن أصدقه، ولا أصدق أحدا إلا إذا كان حبيبا موثوقا مؤتمنا، فأنا مثلا أصدق البرادعي لأنه بالنسبة لي كذلك، وأنت تصدق عمرو موسى لأنه بالنسبة لك كذلك، وغيرنا يصدق العوا لأنه بالنسبة له كذلك. أما عندما يأتي الأمر إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فأنا أصدقه، وليس ذلك فقط، وإنما "أجاهد من يكذبه"، وكان الفاروق رضي الله عنه يستل سيفه ليقطع رأس من يتطاول عليه صلى الله عليه وسلم فيأمره الحبيب أن يتركه ويدعه له. إذن فأمور الدين محتشدة بالعاطفة جبرا ومنطقا واستدلالا. هل تخضع السياسة للعاطفة؟ في النذر القليل جدا. وعادة ما يتعلق هذا بأمور كالشخصية الكارزمية (الملهمة) أو الانتماء القبلي أو العصبية أو الانتماء الديني أو ما شابه ذلك، وهي كلها أمور غير موضوعية لا تناسب الكفاءة السياسية.
عندما ترى الكعبة لأول مرة تبكي، أما عندما ترى الأهرام لأول مرة فلا تبكي. عندما تعلم أن يهوديا أسلم لأن الحبيب محمدا صلى الله عليه وسلم سأل عنه رحمة به عندما انقطع إلقاء القمامة عند باب بيت الحبيب تبكي، عندما تسمع القرآن على لسان إمامٍ عذبِ الصوت بميكروفون خفيض في صلاة فجر تبكي، عندما تعلم مقدار غفران الله للعبد وفرحته بتوبة عبده وسبق رحمته لعذابه تبكي، عندما تعلم أن أبا بكر لم يحرك فخذه متحملا لدغة العقرب كي لا يوقظ الحبيب من غفوته في الغار تبكي. هل بكيت يا عاشق عبد الناصر أو جون كينيدي أو هتلر أو غانذي أو مارتن لوثر كنج عندما كان يلقي أحدهم خطابا سياسيا؟ لم يحدث. الدين عاطفة أما السياسة فعقل دون عاطفة. التقوى ها هنا، وأشار الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم إلى صدره، ولم يشر إلى مخه أو رأسه.
"ومن أحسن قولا ممن دعا إلي الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين." أنا والحمد لله مسلم لا أعرف إلا إسلاما واحدا، هو ما هداني إليه ربي وما اعتنقه عقلي وما احتضنه قلبي. لا أتوق لاعتناق تفسير الجماعة الإسلامية أو تفسير الإخوان المسلمين أو تفسير السلفيين أو تفسير الشيعة أو تفسير أي جماعة أخرى. أقرأ وأسمع للثقات وأدعو ربي للهداية، وأنا المسئول أمام ربي، ولن تنقذني جماعة أو شيخ أو حبيب يوم أن ندين لله جل شأنه وتعالى. أقول ذلك لأننا اليوم ومنذ جمعة "لم الشمل"، التي لم تكن كذلك، نسمع من المسلمين المتأسلمين السياسيين لهجة وألفاظا وتهديدات واستعراضات قوة واستئسادا كأننا في حرب معهم. ودعاني أحد القراء وهو الأستاذ الدكتور هاني اسماعيل، وهو أستاذ جامعي في الأدب العربي، لقراءة مقاله الأخير ردا على مقال سابق لي بعنوان "الإسلاميون وحلم الجمل" ودعاني أيضا للتعليق على مقاله هذا المنشور على صفحة حزب الوسط. قرأت المقال بصعوبة وصبر بالغين وأتممته تنفيذا لرجائه، والصعوبة راجعة لشدة الألفاظ كما قلت سابقا، وهذا أستاذ جامعي ومن حزب الوسط، فما بالكم لو كان من حزب الطرف؟ رددت على سيادته بكلمتين قلت له يا أستاذي أنت لم تمنحني هدوء الصمت والإنصات إليك فكيف أثق في عقلي وقد زُعْبِبَت مَلَكَاته، وبالطبع لا يمكن أن أجاريه في استئسادٍ مناظرٍ من جانب الثوار الجبناء الذين انسحبوا من ميدان المعركة يوم الجمعة المباركة على حد قوله.
لأول مرة أقولها في حياتي "الدين لله والوطن للجميع". لم أكن من قبل مقتنعا جدا بهذا الشعار ولم يكن مع ذلك يثيرني، أما اليوم فيبدو أنه حق فعلا. في السياسة يكفي أن تكون "رجل دولة" Statesman، لا "سياسيا" Politician حيث أن الأول يلتزم بالأخلاق السماوية والإنسانية العليا، أما الثاني فهو انتهازي يعرف من أين تؤكل الكتف. تسألني وماذا تقصد بالأخلاق السماوية إن لم تكن متدينا تطبق الدين بكامل حذافيره في سياسة الدولة؟ أعطي سيادتك مثالا واحدا فقط أوضح به الأخلاق السماوية في السياسة، وهو قضية معيار العدالة. في النظام الرأسمالي، العدالة تتمثل في عبارة واحدة "لكل على قدر عمله"، بمعنى أن العدل في هذا النظام يعطيك الفرصة لتكون مليارديرا إذا كنت مجتهدا في عملك، وعملك هذا يثمر كل هذه المليارات، وهنا لا توجد مشكلة، أما إذا كنت عاجزا أو عاطلا أو غير راغب في العمل لأي سبب فالجحيم مثواك في الدنيا ولا شفقه عليك، وهذا بالمنطق أمر غير عادل وغير إنساني. في النظام الشيوعي معيار العدالة هو "من كل علي قدر طاقته ولكل على قدر حاجته"، بمعنى أن تعمل بكل طاقة تملكها ولا تأخذ إلا مقدار حاجتك، أي 1800 كالوري من الغذاء وغرفة بها سرير عرض 90 سنتمترا، .... إلخ. أما في الإسلام والقيم الإنسانية العالية فيتمثل معيار العدالة في "لكل على قدر عمله، ولكل على قدر حاجته الكريمة". العاجز والفقير والمسكين لهم حق الحياة الكريمة دون مَن أو أذى، والغني كما كان عبد الرحمن بن عوف يُكَسر الذهب لديه بفأس كما يقال.
هذا كل ما نحتاجه من الدين للسياسة، ولكن ماذا يحتاج الدين من السياسة؟ يحتاج الحرية الدينية. يحتاج السماحة والبشاشة والابتسامة وحسن الطلعة في وجه من هو من دينك ومن هو من غير دينك على السواء. يحتاج حرية تطبيق الشعائر الدينية وتوافر دور العبادة لكل طائفة دينية. يحتاج العدل بين الطوائف بصرف النظر عن دياناتها. يحتاج الحق في الوطن، والحق في التعبير، والحق في النقد والتقويم لكل الطوائف. يحتاج بث روح التعاون والتآلف والاعتصام بالمشتركات ونبذ الخصوصيات. يحتاج العدل في كلمة واحدة، ويحتاج من قبل ذلك كله السلام الاجتماعي. أليس هذا ما نحتاجه اليوم من المجلس العسكري وحكومته؟ السلام الاجتماعي والعدل؟ لو حدث ذلك ما ظهرت أصلا تلك الجماعات والفرق الدينية والسياسية وغيرها بصورها المتطرفة التي تبث الرعب في نفوس المواطنين اليوم.
موجز القول: الدين والسياسة يأتيان من مَعِينَينِ مختلفين، اذا اختلطا تصارعا، ومن ثم فقد حرما الاستدامة. إذا كنا من قبل قد قلنا أن الثقافة العسكرية والثقافة السياسية تأتيان من معينين مختلفين فما بالك بالدين والسياسة؟ الدين مرجعه سماوي، والسياسة مرجعها أرضي. الدين لله والسياسة للجماهير. الدين حب وعاطفة وتصديق وإيمان، والسياسة تنافس وصراع وشك وتخوين. رفعة الدين زهد وصوفية، ورفعة السياسة مادية واستبدادية. الدين قانونه التقوى والسياسة قانونها النفعية. أنظر إلى الدكتور العوا، قبل الترشح للرئاسة، كان، ولا زال، مفكرا مرموقا نستمتع بالاستماع لآرائه المستنيرة ونقبل أفكاره حول إيران ومحور التحالف المصري الإيراني السوري (أعتقد). نفس هذه الفكرة الأخيرة بقدر ما كان يمكن أن تكون محمودة في إطار الدين نجدها العكس تماما في إطار السياسة لأنها تدل على توجه عنفواني انعزالي يرفضه العالم السياسي المعاصر، كما تدل على انحياز الأفق الأيديولوجي التنموي لدي الدكتور العوا، ذلك الأفق الذي سوف يقود به بناء الدولة وتنميتها. وصدق بن خلدون عندما قال أن العلماء هم أفشل الناس في السياسة.
وخلاصة القول: أنه إذا دُرب الإنسان وتعلم ليكون دينيا فإن أَشْغَلته بعالم السياسة فيعني ذلك أنك تكون قد دربته ليكون مناسباً في مناسبة غير مناسبة. وإن دربته ليكون سياسياً ثم أشغلته بعالم الدين فتكون قد دربته ليكون مناسباً في مناسبة غير مناسبة، تكون قد دربته على العجز المكتسب Trained incapacity وهذا هو الذي كان يقصده العلامة جون ديوي في توصيفه لهذه الكارثة الإنسانية، وَصْفَة التخلف وطريق الانهيار.
ساحة النقاش